نشر الدكتور ج. أيستروب المستشرق الكبير بحثاً ممتعاً في الموازنة بين الأدب العربي قبل الإسلام وبين الأدب الأيسلندي في جاهليته، أي قبل الغزوات الشمالية. ولخص الدكتور نتيجة هذا البحث في مقال نشره في مجلة (جاتس دانسك مجزين الدانمركية) وهاك خلاصة رأيه:
يرى الدكتور أن هناك مشابهة قوية بين الأدبين: في الإلهام والعواطف وطرق الأداء. ومن الواضح أنه لم يقع اختلاط بين الشعبين في تلك العهود، إلا أن الدكتور يعزو ذلك التشابه إلى الأحوال الجغرافية التي فرضتها الطبيعة على الشعبين، وإلى الحياة الاجتماعية المماثلة التي نشأت عن تلك الأحوال: فايسلندا كانت عزلة عن العالم بالمحيط الأطلسي، وبلاد العرب كانت كذلك معزولة بالبحار والصحاري، ومن ثم كان الشعبان يحييان حياة محصورة، ويعيشان عيشة قبلية مستقلة، كل فرد فيها مستقل في حياته الاقتصادية عن الآخر
والطبيعة في كلا البلدين وعرة قاحلة تجعل جهاد العيش شاقاً مرهقاً؛ وأشد المشابهات وأعجبها بين الأدبين يرجعها الدكتور إلى الفخر والزهو اللذين يتميز بهما أفراد الشعبين، ويرى أن هذا الاعتداد بالنفس أثر من آثار الانعزال والاستقلال؛ وانعدام الحوادث الاجتماعية الكبيرةمن بيئتهم جعل الأعمال الفردية الضئيلة في نظر أصحابها أساسية جليلة
والهجاء عند قدماء الأيسلنديين والعرب فاحش مقذع، ولكنه شكل ثانوي لأدب شخصي بطبعه أخص صفاته أنه شخصي لأنه صدر عن قوم شخصيين انطووا على أنفسهم واستمدوا من عواطفهم. والشعر الغنائي على عكس الشعر القصصي يعبر عن آلام النفس وسرورها، وهذا الألم وذلك السرور لهما أثر كبير في تلك الحياة الأولية الساذجة. وبين هذا النوع من
الأشعار التي نجد أكثرها مؤثراً واقلها عظيماً فروق جوهرية وإذا كان العرب والأيسلنديون قد انصرفوا جميعاً عن الحياة اليومية الواقعية، وكانت لغتاهما تنمان على الصناعة اللفظية والأناقة الأرستقراطية، فان من خصائص العرب أنهم وجههوا همهم إلى الصور البيانية، ومن خصائص الأيسلنديين أنهم لا يعنون إلا بالنعمة الموسيقية
بين المسرح والسينما
كتب الأستاذ لويس جوفيه في مجلة (لموا) عن الصراع القائم بين المسرح والسينما قال: تنبأ بعضهم منذ طويل بموت المسرح، ولكن لينور ماند في روايته الأخيرة (شفق المسرح) قد أرسل في الناس نداء مؤثراً دعا فيه إلى إحيار الفن التمثيلي. ونحن كذلك جماعة صحت عزيمتهم على ألا يدعو أنفسهم فريسة لذلك الجبار كنج كنج - وهو السينما
وهذا الموسم التمثيلي قد جاء حجة لنا على ذلك. فأنا لم نشهد موسماً مثله قد فتح بمثل هذه القطع الرائعة، ولا قطعاً كهذه القطع استمر تمثيلها مدة طويلة. لا أريد أن أقدم أرقاماً مخافة أن أخطيء، ولكن أحداً من الناس لا يستطيع أن يمادي في نجاح (كما تحب) و (مس با) و (العهد الجديد) و (أمل) وروايات أخرى لا تقل عنها
إن هناك غير هذا الجمهور الضخم الذي يذهب إلى السينما، ولا يذهب إلى غيرها، جمهوراً يحب المسرح. وهو جمهور محصور من غير شك، ولكنه ارهف ذوقاً، وأصفى قلباً إلى المظاهرات الفنية مهما تكن. ولماذا نعارض المسرح بالسينما وكل منهما فن قائم بذاته؟ فللسينما طرق للتعبير والبيان غير محدودة، وهو في اعتباري طريقة ناجعة لتبسيط الأمور إلى أذهان الجمهور. أما طرق التعبير في المسرح فضيقة قليلة، ولكنك ترى رجالاً
أحياء، وذلك ما لا تستطيع السينما أن تعوضك عنه. فالإخراج وحده هو الشيء المتماثل في السينما والمسرح، وفن إدارة الممثلين فيهما واحد، ولكن النظام الآلي أضيف إلى ذلك في الاستديو، وأصبح شديد الخطورة والأهمية حتى صار الميكيانيكي هو المخرج.
قدم إلى المسرح روايات جيدة يأتك الفوز من تلقاء نفسه. لقد سئم الجمهور هذه الحكايات الصغيرة الداعرة التي ظلت أثناء زمن طويل موضوعاً لروايات المسرح. لإن هذه القصص المبتذلة الكالحة أصبحت لا تهم أحداً، ولا تزيد في الميزانية فرنكاً واحداً إن شباب اليوم الجديد العملي يريد شيئاً آخر، فما هو ذلك الشيء.
هو شيء يسيغ لهم الحياة اليومية، ويهون عليهم متاعبها، ويخفف عنهم مصاعبها. والمسرح لمن يحبونه هو النسيان والسلوان والترفيه من عناء الأعمال العادية. نحن ظماء إلى العجائب والروائع. نتمنى أن يوحي المسرح إلينا الأحلام، ويفجر لنا ينابيع جديدة للشعر. نريد من المسرح أنيكون مثابة للعجائب والسحر لا صورة سمجة للحياة اليومية
احملوا إلى مديري المسارح الروايات الجميلة، فقد مضى الزمن الذي كانوا يعتذرون فيه بضيق الوقت عن قراءة المخطوطات. . . لم يعد منها شيء. والشبان قد انصرفوا إلى القصة وأحجموا عن الرواية، كأن هؤلاء الشبان الذين نتكئ عليهم ونركن إليهم ونعتقد أن مساعدتهم ضرورية للمسرح، يخشون أن يتقدموا إليه فليتقدم المخلصون للمسرح في هذه الساعة التي نشبت المعركة بينه وبين السينما فيضمنون فوزه ويؤمنون نجاحه بالإقبال عليه والكتابة له
الشعر والعصور الأولى
نشرت (المصور) التي تصدر في فينا دراية ممتعة في مؤرخ الأدب وناقده الألماني والترمشج جاء فيها عن الشعر باعتباره إرثاً للتقاليد ما يأتي:
(الفن هو تقاليد ورثناها منذ عهد لا يدخل في حدود الذاكرة، إذ لا شيء في الوجود يعرض أمامنا إلا وهو يعود بأصله إلى تلك الصور والنقوش التي رسمها ونقشها إنسان أفريقيا الوحشي صوراً لأجداده وصيده، ومن ثم اتخذها آلهة يؤدي إليها فريضة العبادة
وبرغم ما بين الماضي والحاضر من التباين البعيد، فان من المستحسن البحث في حقيقة ارتقاء الفنان بقدر ما نعنى تتبع الخطوات الأولى التي مرت على الإنسان في حداثته. والأمر كذلك في الشاعر، إذ هو صورة للعالم تعبر عنه في عصر ما، وتلك صفة هامة تسبق أهميتها الاصطلاحات التي يستعملها ليخرج في إطارها تلك الصورة
وعلى قاعدة هذه الحقيقة الهامة، سهلت اليوم دراسة تاريخ الأدب والفن. فالخالق الذي يرتبط بعملية الخلق ويفيد العالم على أساس هذه العملية يختلف عن حضري مثقف بأعماله العقلية التي يقدمها إلينا. إذ لا نستطيع أن نتفهمها حتى نعود به إلى ماضيه الذي لا يزال مستقراً في قرارته
هذا وقد رسم لنا فرويد ذلك الجسر الذي يصلنا بذلك العالم المشبع بتلك التقاليد والفكر، وهذا الجسر هو الأحلام الخيال موحى الشاعر
وما من شعر رصين إلا ان له صلة بذلك العالم الأول، صلة بذلك الخيال البعيد المغمور بالأحلام
والشعر لا يثير إعجابنا ودهشتنا إلا لأنه مبعث الفكر عميقة، لم يأت بعد إدراك حقيقة طبيعتها. وعودة الشعر إلى ذلك العالم المغمور هي السبب في أن الشاعر يُرى بين أهل وطنه غريباً، كما أن موقفه يختلف عن موقف رجل يمتهن حرفة التجارة، كذلك ليس في وسعه أن يختلط بأهل عصره ويسايرهم في أفكارهم، لأن ذلك يعد حياداً عن طريقه الذي يجب أن يسلكه بين أناس يحيطون به ولا يعرفون قدره حتى يبلغ رسالته

