الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 78الرجوع إلى "الرسالة"

الراديو و " الشاعر" ...

Share

ألفت منذ سنين أن أزور رمضان فى ربوعه الأصيلة، ومغافيه الباقية . ومن لم يشهد رمضان فى حى الحسين ، أو فى حى الحسينية , أو فى أمثالهما من الأحياء القديمة لم يشهده فى قداسته الهيبة وجلالته الباهرة !

كنت فى إحدى لياليه الزهر أخرج متى استيقظت الشاعر من فترة الصيام , وسكرة الطعام ، فأعبر القرون العشرة التي تفصل بين قاهرة الملك فؤاد وقاهرة الخليفة المعز، فأجد رمضان العظيم قد نشر بنوده ، وأعلن وجوده ، فى كل شارع وفى كل منزل ! فهو خير يتدفق فى البيوت ، وبشر يتهلل فى الوجوه , وانس يتطلق فى المجالس , وذكر يتضوع فى المساجد ، ونور يتألق فى المآذن ، وسمر يتنقل فى الأندية ، ونفحات من الفردوس ترطب القلوب , وتلين الا كباد, وترف على ما ذوى من العواطف

فالحوانيت سامرة وإن لم تبع , والمصانع ساهرة وان لم تنتج ، والأبهاء عاطرة بحديث الأحبة حتى نصف الليل ، والأفنية عامرة بذكر الله حتى أول السحر. أما كثرة الناس فقد أخذوا

مجالسهم من قهوات الحى وباتوا ينضخون " مزاجهم " الظامى، بالفناجيل الروية ، ويشققون أحاديثهم الطلبة بالنكات المصرية ، تم يستمعون فى خشوع العابد وسكون العاشق ولهفة الطفل إلى القصاص أو الشاعر ، وقد طوفت به أشباح القرون , وغمغمت فى صوته أصداء الزمن . يتربع فى صدر المكان على منصة عالية من الخشب العتيق , وهو فى سمته وهندامه ولهجة كلامه وطريقة سلامه نموذج العامى الأديب , ومثال الحضرى المثقف : حفظ كثيراً من الأشعار فاكتسب ظرف الأدب , وروى صدراً من الأمثال فا كتسى وقار الحكمة , ووعي طائفة من الأخبار فاتسم برقة المنادمة . وهو إلى ذلك بارع النادرة , دقيق الفطنة , عذب الفاكهة , حاضر الجواب , يؤدى إلى هذا الجمهور الغزير الساذج دعوة الواعظ , وأمانة المعلم , ورسالة الأديب

ها هو ذا قد فرغ من احتساء القهوة , وجباية النقوط , ومبادلة السامع المعتاد جميل التحية , ومسارقة الزائر الممتاز ورغيب النظر ثم أخذ يحتفل للقصص أو الانشاد , فاحتبست قهقهة ( النكتة ), وانقطعت قرقرة ( الجوزة ), وانتشرت سكينة الجد فى القهوة , واتجهت عيون الجمع إلى المنصة , ثم رن فى سكون القوم ذلك الصوت العريض المتزن يرسل الكلام والأنغام في ترجيح مؤثر , وتقطيع معبر , وتنويع مطرب , فهو يفخم ويرقق , ويقسو ويلين , ويأنف ويستكين , ويثور ويهدأ ، ويسخط ويرضى , ويتدلل ويتذلل , ويتحمس ويتغزل , كانه فى تعاقب ذلك كله عليه الأوتار الطيعة تحت الآنامل اللينة البارعة ، فيملأ الآذان بالنغم , والأذهان بالفكر , والقلوب بالشوق . والمشاعر باللذة

ذهبت ليلة الأمس على عادتى أرود المعاهد , وأجوس الديار ، وأستنشى ما بقي على أطراف الزمن من عبير الفاطميين , فوجدت  القاهرة الشرقية لا تزال تتحدى القاهرة الغربية بمساجدها ومدارسها ومستشفياتها وخاناتها وحماماتها وأسواقها , وتغلن

بشهادة هذه الآثار أن حضارتها العربية الخالصة إنما كانت تقوم على الدين والعلم والدنية والانسانية والعمل , وتزعم بأدلة الاعتبار أن هذا المظهر الحسى القوى الرائع الذى يميز حضارة الغرب من حضارة الشرق إنما رجع إلى ان هذه تقوم على الروح , وتلك تقوم على الآلة , وهذه "تصدر عن العاطفة والايثار , وتلك تصدر عن المنفعة والأثرة ؛ والميزة التى ينبغى أن تكون لحضارة  على حضارة إنما هى ضمان السعادة للناس , وتحقيق السلام للعالم

ولكن أين صديقي الشاعر , وأين أخوه القصاص ! هذا هو الحي , وهذه هى القهوة , وهؤلاء هم الناس ، ولكني وجدت فى مكان الأريكة المنجدة , والحلة المفوفة , والعمامة الفردة , صندوقاً من الخشب , دقيق الصنع , أنيق الشكل , قد علق بالحائط , فأغنى غناء القصاص , وابلي بلاء الشاعر !!

تركت هذه القهوة ومضيت أتحسس فى زوايا الحى وحنايا السوامر ذلك الصوت الذى كان ينبعث من جوف الماضى السحيق شادياً بالمجد والنبل والبطولة , فلم أجد له - وا أسفاه - جرساً ولاصدى !!

لقد هزم الرديو الشاعر فى كل قهوة , كما هزمت الآلة الانسان فى . كل عمل ! ففى كل مقهى من هذه المقاهى ( البلدية ) آلة من هذا الاختراع العجيب تغرى الأذواق العامية بالفن , وتروض الآذان العصية على الموسيقى , وتنبه العقول القافلة الى العلم , وتحبب النفوس المستهترة في الأدب ؛ فهى تقرأ القرآن , وترسل الألحان , وتذيع العلم , وتشيع اللهو , وتنشر البهجة ! ولكنى مع ذلك كله عظيم الأسف على موت القصاص , شديد الأسى على فقد الشاعر !

قان مخاطر الشهامة ( لأنى زيد ), ومواقع البطولة ( لعنترة )، ومواقف النيل ( لسيف بن ذي يزن ), أصلح لتهذيب العامة فيما أظن مما يبثه المذياع كل يوم من النوادر الوضيعة , والأناشيد الخليعة , والألحان الرخوة !

اشترك في نشرتنا البريدية