الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

الرجولة في الإسلام

Share

لعل من أهم الفروق  التي تميز المسلمين في أول  أمرهم وفجر حياتهم عن  المسلمين اليوم،   (خلق  الرجولة)  فقد غنى العصر  الأول بمن كانوا هامة  الشرف، وغزة المجد،  وعنوان الرجولة.

تتجلى هذه الرجولة  في   (محمد)  إذ يقول:    (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك  هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) . كما تتجلى  في أعماله في أدوار حياته، فحياته كلها سلسة من مظاهر الرجولة  الحقة، والبطولة الفذة، إيمان لا تزعزعه الشدائد، وصبر على  المكاره، وعمل دائب في نصرة الحق، وهيام بمعالي الأمور، وترفع  عن سفسافها. حتى إذا قبضه الله إليه لم يترك ثروة كما يفعل ذوو  السلطان، ولم يخلف أعراضاً زائلة كما يخلف الملوك والأمراء. إنما  خلف مبادئ خالدة على الدهر، كما خلف رجالاً يرعونها وينشرونها،  ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم من أجلها.

وتاريخ الصحابة ومن بعدهم مملوء بأمثلة الرجولة، فأقوى  ميزات   (عمر)  أنه كان   (رجلاً)  لا يراعي في الحق كبيراً،  ولا يمالئ عظيماً أو أميراً. يقول في إحدى خطبه:   (أيها الناس  إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق  له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه) .

وينطق بالجمل في وصف الرجولة فتجري مجرى الأمثال كأن  يقول: (يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول:   (لا)   بملء فيه) - ويضع البرنامج لتعليم الرجولة فيقول:

(علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا،  ورووهم ما يجمل من الشعر). ويضع الخطط لتمرين الولاة على

الرجولة فيكتب إليهم.   (اجعلوا الناس في الحق سواء، قريبهم  كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، إياكم والرشا والحكم بالهوى،  وأن تأخذوا الناس عند الغضب) ، ويعلمهم كيف يسوسون  الناس ويربونهم على الرجولة فيقول:   (ألا لا تضربوا المسلمين  فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم  ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم)

من أجل هذا كله كان هذا العصر مظهراً للرجولة في جميع  نواحي الحياة، تقرأ تاريخ المسلمين في صدر حياتهم فيملؤك روعة،  وتعجب كيف كان هؤلاء البدو وهم لم يتخرجوا في مدارس  علمية، ولم يتلقوا نظريات سياسية، حكاماً وقادة لخريجي العلم  ووليدي السياسة - إنما هي الرجولة التي بثها فيهم دينهم وعظماؤهم  هي التي سمت بهم وجعلتهم يفتحون أرقى الأمم مدنية وأعظمها حضارة ثم هم لا يفتحون فتحاً حربياً يعتمد على القوة البدنية  وكفى، إنما يفتحون فتحاً مدنياً إدارياً منظماً، يعلمون به دارسي  العدل كيف يكون العدل، ويعلمون علماء الإدارة كيف تكون  الإدارة، ويلقون بعلمهم درساً على العالم أن قوة الخلق فوق  مظاهر العلم، وقوة الاعتقاد في الحق فوق النظريات الفلسفية  والمذاهب العلمية، وأن الأمم لا تقاس بفلاسفتها بمقدار ما تقاس  برجولتها.

هل سمعت عدلاً خيراً من أن يضرب ابن لعمرو بن العاص  - وهو والي مصر - رجلاً مصرياً فيستحضره عمر بن الخطاب  وابنه، ثم يأمر المصري أن يضرب من ضربه وأن يضع السوط  على صلعة عمرو، ثم يقول له:   (مذ كم تعبدتم الناس وقد  ولتهم أمهم أحراراً) . أو هل سمعت عطفاً على الرعية، وأخذ  الولاة بالحزم كالذي روى أن معاوية قدم من الشام على عمر،  فضرب عمر بيده على عضده فتكشف له عن عضد بض ناعم.  فقال له عمر:   (هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات  تقطع أنفسهم حسرات على بابك!)

أو هل سمعت قولاً في العدل يحققه العمل كالذي يقوله عمر    (إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز الناس، فو الله ما تلك لي  بمنزلة حتى أكون أسوة للناس)  - أو هل رأيت حزماً في  الإدارة كالذي فعله في مسح سواد العراق وترتيب الخراج،

وتدوين الدواوين، وفرض العطاء.

حقاً لقد كان عمر في كل ذلك رجلاً، ولئن كان هناك رجال  قد امتصوا رجولة غيرهم، ولم يشاءوا أن يجعلوا رجالاً بجانبهم،  فلم يكن عمر من هذا الضرب، إنما كان رجلاً يخلق بجانبه  رجالاً، فأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص والمثنى بن  حارثة، وكثير غيرهم كانوا رجالاً نفخ فيهم عمر من روحه كما  نفخ فيهم الإسلام من روحه، وأفسح لهم في رجولتهم، كما أفسح  لنفسه في رجولته.

وكان أدبهم في ذلك العصر صورة صحيحة لرجولتهم يتغنون  فيه بأفعال البطولة ومظاهر الرجولة.

وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد

يعتد الشاعر بنفسه ويسمو بها عن النعماء والبأساء فيقول:

قد عِشْتُ في الناس أطواراً على طرُقٍ ... شتى وقاسيتُ فيها اللينَ والفَظَعا

كُلاِّ بلوتُ، فلا النعماءُ تُبْطِرُني ... ولا تخّشْعتُ من لأوائها جَزَعا

لا يملأُ الهوْلُ صدْرِي قبلَ موقِعه ... ولا أضيقُ به ذَرْعا إذا وَقَعاَ

ويعتز بشرفه وقوته وإبائه الضيم فيقول:

وكنت إذا قوم رمَوْني رميتهم ... فهل أَنا في ذَايالََ هَمْدَانَ ظاَلِمُ

متى تجِمَع القلبَ الذَّكِيّ وَصارِماً ... وَأنفاً حَمِيَّا تَجْتَنبِكَ الَمظَالِمُ

ويمدح رجل قوماً فيقول   (انهم كالحجر الأخشن إن صادمته  آذاك وإن تركته تركك)

ويقول أميرهم:   (والله ما يسرني أني كُفيتُ أمر الدنيا كله  قيل ولم أيها الأمير، قال لأني أكره عادة العجز)  إلى كثير من  أمثال ذلك.

وعلى الجملة فأدبهم تام الرجولة، قد شعت فيه الحياة، وامتلأ  بالقوة، حتى اللاهي الماجن كأبي محجن الثقفي: كان يغازل، وكان  يشرب، ولكن إذا جد الجد وعزم الأمر كان رجلاً يبيع نفسه  لدينه، ويبيع كل شيء لشرفه وشرف قومه. ونستعرض الغزل في الجاهلية وصدر الإسلام، فإذا هو غزل

قوي لا مُيُوعة فيه، ولا تخنث، لا يذوب صبابة، ولا يلتاع  هياماً، ولا يفقد الرجل فيه رجولته لحبه

وقلتُ لقلبي حين لجَّ به الهَوى ... وكلَّفنِي مَا لاَ أُطِيقُ منَ الْحُبِّ

ألا أيُّها القلبُ الذي قادَهُ الهوَى ... أَفِقْ لاَ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ مِنْ قَلب

وما أنا بالنّكْسِ الدَّنِيِّ وَلاَ الذِي ... إِذا صَدَّ عَنِّي ذُو الَموَدَّةِ أَحْرَبُ

وَلكنّني إِنْ دَامَ دُمتُ وَإِنْ يكُنْ ... لهُ مذْهَبٌ عَنِّي فَلِي عنْهُ مَذْهَبُ

ولم يضن التاريخ على المسلمين من حين لآخر برجال لفتوا  وجه الدهر، وغيروا مجرى الحوادث، ودفعوا عن قومهم الخطوب،  وأنزلوا منزل العز والمنعة، تضيق عن وصف أعمالهم الرسائل  والكتب.

ثم توالت الأحداث وتتابعت النوب، تفل من شوكتهم،  وتفت في رجولتهم حتى رأيناهم بذلوا الشرف للمال، وقد كان آباؤهم يبذلون المال للشرف، ولم ينظروا إلا الى أنفسهم وذويهم، وكان  آباؤهم ينظرون إلى دينهم وأمتهم، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً يذيق  بعضهم بأس بعض، فكانوا حرباً على أنفسهم بعد أن كانوا  جميعاً حرباً على عدوهم - ورضوا في الفخر أن يقولوا   (كان  آباؤنا)  مع أن شاعرهم يقول:

إذا أنت لم تَحْم القديم بحادث ... من المجد لم يَنْفَعْك ما كانَ مِنْ قبل

وناثرهم يقول:   (لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه  الآخر إلا بما أَدرك به الأول) ورأينا خير ما في الأمم حاضرها وخير ما فينا ماضينا

أريد بالرجولة صفة جامعة لكل صفات الشرف من اعتداد  بالنفس واحترام لها، وشعور عميق بأداء الواجب، مهما كلفه  من مصاعب، وحماية لما في ذمته من أسرة وأمة ودين، وبذل  الجهد في ترقيتها، والدفاع عنها، والاعتزاز بها، وإباء الضيم  لنفسه ولها.

وهي صفة يمكن تحققها مهما اختلفت وظيفة الإنسان في الحياة  فالوزير الرجل من عد كرسيه تلكيفاً لا تشريفاً، ورآه

وسيلة للخدمة لا وسيلة للجاه، أول ما يفكر فيه قومه، وآخر  ما يفكر فيه نفسه، يظل في كرسيه ما ظل محافظاً على حقوق  أمته، وأسهل شيء طلاقه يوم يشعر بتقصير في واجبه، أو يوم  يرى أن غيره أقوى منه في حمل العبء، وأداء الواجب،  يجيد فهم مركزه من أمته ومركز أمته من العالم، فيضع الأمور  موضعها ويرفض في إباء أن يكون يوماً ما عوناً للأجنبي عليها،  فاذا أريد على ذلك قال:(لا) بملء فيه، فكانت (لا)  منه  خيراً من ألف   (نعم)  وكانت (لا) منه وساماً تدل على رجولته  وكانت (لا) منه خير درس للناشئين يتعلمون منه الرجولة-  يقتل المسائل بحثاً ودرساً، ويعرف فيها موضع الصواب والخطأ  ومقدار النفع والضرر، ثم يقدم في حزم على عمل ما رأى واعتقد  لا يعبأ بتصفيق المصفقين، ولا بذم القادحين، إنما يعبأ بشيء  واحد هو صوت ضميره، ونداء شعوره.

والعالم الرجل من أدى رسالته لقومه من طريق علمه، يحتقر  العناء يناله في سبيل حقيقة يكتشفها أو نظرية يبتكرها، ثم هو  أمين على الحق لا يفرح بالجديد لجدته، ولا يكره القديم لقدمه،  له صبر على الشك، وغرام بالتفكير وبطء في الجزم، وصبر على  الشدائد، وازدراء بالإعلان عن النفس، وتقديس للحقيقة،  صادفت هوى الناس أو أثارت سخطهم، جلبت مالا أو أوقعت  في فقر، يفضل قول الحق وإن أهين على قول الباطل وإن كرم

والصانع الرجل من بذل جهده في صناعته، فلم يشأ إلا أن  يصل بصناعته إلى أرقى ما وصلت إليه في العالم، عشقها وهام بها  حتى بلغ بها ذروتها، يشعر بأنه وطني في صناعته كوطنية السياسي  في سياسته، وأن أمته تخدم من طريق الصناعة كما تخدم من  طريق السياسة، وأن الصناعة لا تقل في بناء المجد القومي عن  غيرها من شؤون الدولة، فهو لهذا يحسن فنه، وهو لهذا يحسن  سلوكه، وهو لهذا يرفض ربحاً كثيراً مع الخداع، ويقنع بربح  معتدل مع الصدق، وهو لهذا كله كان رجلاً.

بل الرجولة تكون في المعنويات كما تكون في الماديات،  فالرأي العام هو الرأي العام اليقظ، شديد التنبه لما يحيط  به من مخاطر، يعرف كيف يدفع عنه الأذى إذا نيل منه، ويصد  الشر إذا نزل به، صحيح التقدير لأعمال الرجولة، شديد الاحتقار  

للنذالة، يظهر إعجابه للمحسن أيا ما كان في أشكال تدعو إلى الإعجاب،  ويظهر ازدراءه للمسيء أيا ما كان في أشكال تدعو إلى الإعجاب  أيضاً، ولا يكون الرأي العام رجلاً حتى تشيع في أفراد الأمة  الرجولة وتكثر فيهم البطولة - وفي الرجولة متسع للجميع،  فالزارع في حقله قد يكون رجلاً، والتلميذ في مدرسته قد يكون  رجلاً، وكل ذي صناعة في صناعته قد يكون رجلاً، وليس  يتطلب ذلك إلا الاعتزاز بالشرف وإباء المذلة.

من لنا ببرنامج دقيق للرجولة كالبرنامج الذي يوضع للتعليم،  يبدأ يرعى الطفل في بيته فيعلمه كيف يحافظ على الكلمة تصدر  منه كما يحافظ على الصك الذي يوقع عليه، ويعلمه كيف يكون رجلاً  في ألعابه، فيعدل بين أقرانه في اللعب كما يحب أن يعدلوا معه،  ويلاعبهم بروح الرجولة من حب ومساواة ومرح في صدق وإخلاص.

ويسير مع التلميذ في مدرسته، فيعلمه كيف يحترم نفسه،  وكيف لا يفعل الخطأ وإن غفلت عنه أعين الرقباء، ولا يغش في  الامتحان ولو تركه المعلم وحده مع كتبه؛ وكيف يعطف على  الضعفاء ويبذل لهم ما استطاع من معونة.

ويتمشى مع الطالب في جامعته فيعوده الاعتزاز بنفسه  والاعتزاز بجامعته والاعتزاز بأمته. ويبعثه على أن يفكر في  غرض شريف له في الحياة يسعى لتحقيقه - حتى إذا ما أتم دراسته  كان قاضياً رجلاً أو معلماً رجلاً، أو سياسياً رجلاً، وعلى الجملة  إنساناً رجلاً.

ويتابع الأمة فيضع لها الأدب الذي يبعث قوة، والأناشيد  والأغاني التي تملأ النفس أملاً. ويراقب في شدة وحزم دور  السينما والتمثيل والملاهي، فلا يسمح بما يضعف النفس ويلثم  الشرف، ولا يسمح بما يحي الشهوة ويميت العزيمة، ويأخذ  على أيدي الساسة والحكام ورجال الشرطة، حتى لا يقسوا  على الناس فيميتوهم، ولا يرهبوهم فيذلوهم.

من يبادلني فيأخذ كل برامج التعليم، وكل ميزانية الدولة  ويسلمني برنامجاً للرجولة وميزانية لتنفيذه ليس غير. ولي كبد مقروحة، من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح؟

اشترك في نشرتنا البريدية