الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 64الرجوع إلى "الرسالة"

النقادة الكبير ليسنغ، (Lessing)، حياته ومذهبه، (١٧٨١ - ١٧٢٩)

Share

ما عرف الأدب ناقداً كليسنغ جباراً صحيح المقاييس، بليغ  التاثير، لا يبني مذهبه على المدرسة القائمة في عصره،  وإنما يبني مدرسته الجديدة لترتكز عليها مدرسة للأدب جديدة،  يوم لم يكن عند الجرمانيين أدب بارز. فحار الناقدون في تفهم  هذا الناقد الذي افتتح أدب أمة عظيمة بالنقد، وانما عهدهم أن  يخلق الادب النقد كما يخلق الاديب الناقد.

نشأ ليسنغ ميالا في بدء عهده إلى أدب الاوائل، وما كاد  يتمكن من هذا الادب حتى تفت لعينيه أفق جديد يريد  استكشافه، يحث معاصريه على السعي معه حثيثاً ليكون لهم مثل  حظه من هذا الاستكشاف، وما أصدق من قال: (كان الادب  الألماني قبل ليسنغ مفازة يفتقر السائر المتخبط فيها إلى هادٍ،  وهذا الهادي لم يكن إلا إياه) هذا الذي انار المسالك وهدى  الادباء الى سبيل في الادب قويمة، يبدى لهم مكامن الابداع  ومواطن الخطأ، وأسس الادب الجديد على قواعد النقد، وصاغ  الشعر مزيجاً من الفن والادب والفلسفة، فكانت نفسه في  جميع حالاتها مصابة بطلب المعرفة، هذه المعرفة التي ظن أنه  لابدّ ملاقيها، فذهب وراءها في أحناء الكتب والصحف،  وتحرى عنها في مشاهد الوجود.

دخل في أول نشأته أحد الاديرة يتلقى اللغات القديمة التي  كانت لب برامج التعليم القديم، فأبدى من الذكاء والانتباه  ما ترك أساتذته في دهشة منه، حتى قال عنه أحدهم: (نحن  لا نستطيع ان نقوم بواجب الشكر لهذا الطالب، فان الدروس  التي كان رفاقه يستثقلونها كان يجدها لسهولتها كالالهية، إنه

لجواد يبتغي علوفة مضاعفة). حتى اذا بلغ السابعة عشرة من  عمره انكب على علم اللاهوت، ثم تتلمذ للحياة بعد ان انجز  تتلمذه للكتب، تلك الكتب التي قال عنها في إحدى رسالاته    (إنها صنعت مني عالما عارفا ولم تصنع مني انسانا، سأبدا عاجلا  بدرس أطواري)  فترك علم اللاهوت وعمل على جميع روايته  التمثيلية، وقد حثه قريب له أديب على الاختصاص بهذا الفن،  الى هذه الحلبة، حتى ظن ان هذا الفتى لن ينصرف بعد اليوم  عن الفن الروائي.

على أن الضعف ليبرز في هذه القطع التي عرضها، ويغلب  على أسلوبها اللون الفرنسي الذي كان يصبغ جميع اللاثار الألمانية،  وكان مذهبه فيها نفس المذهب المدرسي الذي كان (راسين وكورني  وموليير)  يبتدعونه ويتبعونه. كأنه كان يؤمن بجمال هذا المذهب  ويحمل نفسه على الأخذ به. ولكنه في بعض نظراته يشن الغارة  على هذا المذهب، ويطلب الى معاصريه الا يكونوا مقلدين  لأذواق غيرهم. وانما الأجدر بهم ان يتفهموا مذاهب غيرهم وألا  يكونوا مقلدين لها. ونهاهم عن التهافت على أدب أمة واحدة  كالأمة الفرنسية، وهنالك آداب مهملة كأدبها جديرة بالدرس  والتمحيص، وفي هذا الصدد قال كلمته المأثورة (إذا أراد الألمان أن  يتبعوا مذهباً يلائم طبيعتهم وجبلتهم فليتبعوا الأدب الانجليزي  الذي هو أدنى لهم من الأدب الفرنسي) .

وقد أشار في أكثر من موضع الى هذه الروح التي شاء أن  يغرسها في أدباء عصره. وهو الذي كتب في احدى رسالاته  ينتقد المؤلف المسرحى (جوتشيد)  ويؤاخذه لاسترساله الى الروح  الفرنسية: (يطمع هذا الكاتب في أن يمثل دور المبدع في  مسرحنا الجديد، ولكن ما هو هذا المسرح الجديد؟ انه مسرح  نصف روحه فرنسية ... ولعل صاحبنا لا يحفل بهذه الصفات  إن لاءمت الروح الألمانية او لا؟ وهو لو أنعم النظر في آثارنا  القديمة لأوحت اليه أن الأدب الانجليزي هو أكثر ملاءمة  لروحنا، وأننا نتوق الى التأمل والتفكر أكثر مما يسمح به  الأدب الفرنسي لنفسه، وإن الأدب الذي تتمثل فيه الروعة  والعظمة والظلمة هو أكبر سلطانا علينا من أدب الرقة واللوعة  والحب، وإن البساطة في الأدب لتضنينا أكثر من حالاته المركبة

المهوشة ... يجب عليك أيها المؤلف ان تخط لك طريقا يحملك  الى المسرح الانجليزي ...)

وقد كان انقلابه فجأة الى هذا المذهب وهذا الادب موضع  دهشة، اذ تبادر الى اذهان بعض النقاد ان شكسبير وحده هو الذي اثر في ليسنغ، على ان الاسباب الحقيقة التي ساقته الى هذا  الادب كانت اعمق من ذلك. فليسنغ بعد ان درس حق الدرس  اخلاق الشعب الالماني وجد ان الماساة الحماسية هي التي تبسط  تأثيرها في النفوس. وان المأساة المجردة ينبغي لها ان تهبط درجة  الى عالم الحقيقة، وان الكوميديا قد تكون ادنى الى الحقيقة، وهي  التي تثير ما تثير من ضحك ومن بكاء.

وفي النهاية انغمس ليسنغ في التأليف المسرحي. فكان في  اول امره يترسم اقدام من تاثر بهم من الاقدمين، وهو خلال  ذلك لا يترك الجهاد الا استعداداً لجهاد آخر يفتقر الى عنف كثير  وصبر كثير، والغاية التي يتطلبها من وراء ذلك عظيمة، لا تلين  الا لمثل هذا النوع من الجلاد، فهو يريد ان يخلق اسلوبا جديداً  وتفكيراً جديداً، وما زال يدأب ويجهد حتى وفق الى سعيه بعض  التوفيق، وضرب لعصره مثلا عاليا للرواية التي تمثل احسن  تمثيل صفات قومه واخلاق قومه. وهو - وان لم يبلغ برواياته  القمة التي لا تلين خياشيمها الا للعباقرة فقد كاد. . .

ثم طفق ليسنغ يكتب في احدى خلواته مقاطيع من  الكتاب الذي خلد اسمه على الدهر في عالم النقد، كتاب ( اللاوكون (1) ) الذي حشر فيه خلاصة نظراته في التأليف  المسرحي. وفيه عالج الشعر وعُني بأسلوبه والوسائل التي ترمي  الى إحيائه.

وما هو مذهب ليسنغ في الشعر؟

لقد كانت المدرسة الويسرانية تعتقد أن الشعر إن هو إلا  تصوير صامت. والشاعر الألماني (فينجيلمن Winckelmann ) كان يرد أصول الفن مهما تنوعت فروعها إلى مثل عال واحد  تنضوي تحته. وهذا المثل هو العظمة المتجلببة بالسكينة. . .  وهذا المثل الأعلى مثله كالبحر العميق يبقى هادئاً مهما تقاذفته  قواذف الريح. وحاله حال تصاوير اليونان فهي في أحدى ثوراتها

وأهوائها الجامحة تظل مالكة لعظمتها ولنفسها، ومثل هذه الروح  يمثلها تمثال (اللاوكون)بوجهه وأعضائه المتصلبة في ساهة الألم  العنيف. وقد لام هذا الشاعر الألماني شاعر إيطاليا الكبير    (فرجيل) لأنه وصف (اللاوكون) بصورة شعرية خالف  فيها الصورة التي نحتها الحفار. إذ تركه في مقطوعته الشعرية  يصيح من الألم صيحات منكرة، ولكن ليسنغ يجابه في كتابه نقد  الشاعر الألماني، ويعتقد أن للشعر قواعده الخاصة، وللنحت قواعده  الخاصة، ويرى أن في استطاعة الفن الشعري أن يمثل لنا الشيء حتى  نحدق به من جوانبه. بينا أن الفن الثاني لا يمثل لنا من هذا الشيء  إلا لحظة موقوتة هي كل شيء في هذا الشيء. وبينما نرى الرسم يخضع  للهيئة الجامدة التي يتلبس بها نرى الشعر حرا طليقا يحيا بحركته  واضطرابه واختلافه. وهكذا لبث هذا الكتاب أثراً ناطقاً  للرجل، وقد ترك وراءه صدى بعيدا وتأثيرا ترامى في الأقطار.  وهو كما قال فيه (جوته) شاعر الألمان ((يجب أن تكون فتى أيها  الرجل حتى تستطيع أن تتمثل ذلك التأثير الذى ادخله هذا الكتاب في أرواحنا)) وكفى بهذه الكلمات التي يرددها جوته  شهادة.

وهكذا أراد ليسنغ أن يبني نقده على نظريات ثابتة لا يذهب  بها الوهم. فاستمد قانون (أرسطو)  يعمل به لتنظيف الأهواء.  ومن هذا القانون قد استمد ليسنغ أكثر نظراته النقدية كأنما  كان يحاول أن يقتل الحدة والجموح والطيش في الأدب ويترك إلى  العقل سبيلاً ينفذ منه ليبقى مالكا على الأهواء في أعنف ثوراتها.  وقد شاء ليسنغ أن يغزو حقل الأخلاق دأبه في كل حقل يغزوه،  فكتب مقطوعات في الحكمة دلت على سمو نفسه. فهو يعتقد  أن قيمة الرجل ليست بالفضيلة التي يحرزها، أو بالفضيلة التي  ظن أنه يحوزها، ولكن قيمته تنحصر في الجهود التي يقوم بها  في سبيل إحرازها، لأن المجد لا يتوقف على صفة الاحراز،  ولكن على العمل للفضيلة التي يكثر به جنودها. ويعتز هو  بانتصارها. ويقول أيضاً "إذا الله قبض على الفضيلة الكاملة بيده  اليمنى ووضع في يده اليسرى التوق الخالد - توق القلب - الى  الفضيلة. مازجا معه انخداع الانسان؛ وقال لي: انتخب، فانني  إذ ذاك آخذ بيده اليسرى بكل تواضع وأقول. أعطني ياإلهي. . .

( البقية فى أسفل الصفحة التالية )

... لأن الفضيلة الكاملة التي وضعتها في عينك لم تصنع إلا من أجلك"  وقد ولَّدت عنده هذه الحكمة حكمة دينية أبداها في بعض  مقاطيع صغيرة. حيث أبدى أن الوحي الإلهي ليس بواحد ولا  بثابت ممتنع عن التغير. ولكنه يتنوع ويتقلب ويتقدم كالأنسانية  نفسها. وقد أدرك ليسنغ الذروة العالية في روايته (الحكيم ناتان)   اذ أعلن أن الحكيم الحقيقي هو الذي يتروض على الفضيلة  ويخضع لأحكام العناية الإلهية الخالدة.

لقد فهم رجال الأدب بعض جوانب هذا الرجل العظيم، ولن  تظهر عظمته واضحة إلا بعد أن يرجعوا الى البذور الفنية التي  نثرها في طريقه، وهل كان (جوته)  و (هير دار)  إلا أول فنن  من هذه الشجرة، أورق وأزهر وأثمر، ثم أتى أكله فكان  نعم الأكل.(1).

بيروت

اشترك في نشرتنا البريدية