الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 38الرجوع إلى "الرسالة"

بيت يهم بالسجود

Share

تتداعى البيوت الكثيرة فى كل زمان وفى كل مكان، فلا يسمع  بها الا الجيران، وان تضمن سقوطها قتل الأنفس والتمثيل  بالابدان، فقد يخرج خبرها عن دائرة الجيرة الى دائرة المدينة  وقلما يتعدى حدود القطر والأمة. ولكن بيتا فى مدينة  "برانتفورد" بكندا هم بالسجود أو كاد، أو خيل أنه نوى  الصلاة أو أوشك أن ينويها، فاهتزت أسلاك العالم تبرق  بالنبأ الى أدانيه وأقاصيه، وحظ البيوت كحظ الرجال، رجل  يمرض فيموت فلا يجد من يلف عليه كفنا، أو يستر له فى التراب  شلوا، ورجل يمرض فيتأوه خفيفا، فتتردد آهته عالية فى كل  بوق من أبواق الاذاعة، ويتأوه معه العالمون.

على انه لا بدع أن تعطف الأسلاك البرقية على هذا البيت،  وان تضطرب باضطرابه، فهو بيت أسرتها العتيق، مسقط  رأسها ومهد طفولتها, وفيه وفى المدينة التى حوله كان لعبها  ولهو صباها. ذلك البيت هو بيت "جراهام بل" Bell الذى  فيه ولد أول تلفون عرفه الناس، وفيه امتد أول سلك بأول  صوت لانسان.

شكا هذا البيت العتيق الأرض التى حملته نصف قرن،  لا عن نكران ولا جحود، ولكنه إلف هذا الهواء. . .  فلم يكد ينطق بالشكاة حتى أشكاه أهله، فامتدت اليه أيد حريصة  تنقله حجرا حجرا برسمه ووضعه، الى أرض أشد، ومنزل آمن  ولد اسكندر جراهام بل عام ١٨٤٧ فى أدنبره عاصمة

اسكتلانده، وتعلم فى جامعتها، ثم انتقل الى جامعة لندن ودرس  فيها، ثم ساءت صحته فطلب العافية، فنزح مع أبيه الى كندا عام ١٨٧٠. ثم انتقل بعد ذلك الى "بسنن" بالولايات المتحدة  ولم يكن اختراعه التلفون اتفاقه من اتفاقات الحظ المجدود  ورمية من غير رام، وانما كان نتاج دراسة طويلة منظمة  وبحث دقيق وصبر شديد. كان أبوه عالما فى السمعيات،  فاشترك الاثنان فى دراسة الطريقة التى بها ينتج الكلام من  فم الانسان، وفى النغمات الموسيقية للأحبال الصوتية التى  بحلقه، وفى مخارج الحروف والأصوات فى مختلف اللغات،  وفتح الابن مدرسة لتخريج معلمين يعلمون الصم الكلام،  وكان درس الكهرباء، واتصل بالفزيائى العالم "هلمهولتز" Heimholtz فكان من الطبيعى أن يربط بين الكهرباء والصوت،  فكان أن طلب مع فزيائى عصره تسخير الكهرباء فى حمل  الصوت فسبقهم سبقا قريبا، وحمل اختراعه الى دار التسجيل،  وحمل الأستاذ "اليشاجراى" Ehsha Gray اختراعا مثله  الى دار التسجيل ولكن "بل" سبق "جراى" ببضع ساعات،  فكان له السبق، وكان له وحده من بعد ذلك تمجيد القرون

والآن مضت سنوات كثيرة على ذلك، وتبع المخترع  الأول مخترعون عديدون، قام كل بنصيبه فى تنمية التلفون  وتمديده، وأولدوا منه التلفون اللاسلكى، واستعان المولود  والوالد على ربط الأرض الدوارة، مشارقها بمغاربها، ويابسها  بمائها وسهولها بأحزانها، فأعدما بذلك من قيود الأنسان قيد  الزمان وقيد المكان. فأنت تستطيع الآن وأنت فى بيتك أن  تتصل فى ساعة بنحو أربعين مليون مشترك مفرقين فى نواحى  الأرض المترامية. وقد يقال إن فى هذا الكفاية، ولكن

الانسان أمال لا يفتأ يطلب المزيد. مثال ذلك أنه تضجر من  عاملات التلفون ومن أعناتهن، فذهبن، وأصبح التلفون فى  كثير من البلاد يعمل من نفسه بدون عاملة، ولا تمضى  سنوات حتى يعم هذا  النظام الجديد العالم  كله. وشكا طالب  الترنك الزمن الذى  يقضيه فى الانتظار  ليتصل بألمانيا أو  امريكا، فأصغى العلم  اليه، وعن قريب  ستتمكن من مخاطبة  تلك البلاد والاتصال  بها بعد برهات قصيرة  من اعتزامك ذلك  وشكا رؤساء  الأعمال العالمية  الواسعة أنهم كثيرا  ما يريدون استشارة  مرءوسيهم أو وكلائهم أو شركائهم فى البلاد المختلفة  فيضطرون الى مكالمة واحد ثم ثان ثم ثالث، وذلك فى الأمر  الواحد، ثم يجدون بعد ذلك أنهم محتاجون الى مراجعتهم،  وسألوا ألا من سبيل الى اجتماعهم جميعا فى مؤتمر واحد على  التلفون، فقال العلم نعم، وفعلا جربت دعوة أمثال هذه  المؤتمرات فى انجلترا، وتحدث المؤتمرون كما لو اجتمعوا فى  حجرة واحدة على مائدة واحدة. وساعد على هذا النجاح  بالطبع أن هؤلاء القوم اذا تناقشوا تكلم منهم واحد فقط  واستمع الباقون

وهناك مطالب أخرى، وتكهنات أخرى، وآمال واسعة

ترمى كلها الى تمكين الانسان وترفيه. فمن المحتمل القريب  الآن ان يتخاطب اثنان فيمتعان السمع والبصر، أما السمع  فسمع الكلام، وأما البصر فبصر محيا من تستمع له تلقى  صورته على لوحة  أمامك. على أن هذا  إن أمتع أناسا  فسيزعج لا شك  أناسا آخرين.  فليست كل الوجوه  يستحب مرآها.  وغير هذا فانت  اليوم تخاطب من  تشاء وأنت على أى  حال تشاء من لباس  أو هيئة، أما غدا  ومحدثك يراك  فلابد من استواء  الهندام والهيئة  المحترمة، وغدا  ستضطر اذا أردت تبليغ أسفك لشىء أو حزنك على حادثة  أن تتكلف الأسف والحزن لا فى صوتك فحسب، بل كذلك  فى وجهك، وهذا لا شك يزيد فى عنت الحياة

على ان العلم حسب حساب كل هذا، وعرف ضعف  النفوس الانسانية كما عرف قوتها، وعرف كذلك أن  تقويم المعوج وتكسير الصحيح لا يقع فى اختصاصه،  لذلك ستجد فى الجهاز الجديد زرا صغيرا، تديره شمالا  فتحتجب، وتديره يمينا فتسفر، فدونك ما شئت من سفور أو حجاب.

اشترك في نشرتنا البريدية