وعدت أن أتكلم على الكتب التي نشرها العلامة كرينكو، ومنها هذه الثلاثة الكتب المهمة. أولها كتاب التيجان لوهب بن منبه والثاني أخبار عبيد بن شرية، والثالث كتاب الحماسة لابن الشجري. ويهمنا أن نعرف أولاً من هو وهب بن منبه. كان وهب من علماء التابعين، وهو من الأبناء أبناء فارس المبعوثين مع سيف ابن ذي يزن لقتال الحبشة في اليمن، فهو على الأرجح فارسي الأصل، وكتاب التيجان كما قال فيه ابن خلكان ترجمة بذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم. وهو رواية أبي محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس بن سنان عن جده لأمه وهب بن منبه. وتوفي وهب في صنعاء اليمن في سنة عشر وقيل أربع عشرة وقيل ست عشرة ومائة.
ذكر ابن سعد صاحب الطبقات الكبير في ترجمة وهب بن منبه أنه قال: لقد قرأت أثنين وتسعين كتاباً كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس، وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا قليل، وجدت في كلها أنه من أضاف إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر. قال: وفي مقدمة كتاب التيجان: قرأت ثلاثة وسبعين كتاباً مما أنزل الله على الأنبياء، فوجدت فيها أن الكتب التي أنزلها الله على النبيين مائة كتاب وثلاثة وستون كتاباً: أنزل صحيفتين على آدم بكتابين: صحيفة
في الجنة وصحيفة على جبل لبنان، وعلى شيث بن آدم خمسين صحيفة، وعلى أخنون وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى نوح صحيفتين، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وعلى موسى خمسين صحيفة وهي الألواح. بدأ وهب كتابه بأحوال خلق العالم، ونسب ولد سام وحام ويافت، وملك حمير ووائل والسكسك ويعفر وعامر ذي رياس، والمعافر بن شداد وشداد بن عاد ولقمان بن عاد، والهمال بن عاد والحارث بن الهمال والصعب ذي القرنين، وأبرهة والعبد بن أبرهة وعمرو بن أبرهة، وشرحبيل والد وهب وملك بلقيس وملك رحبعم بن سليمان وغيرهم من المتوجين من ملوك غسان، وغيرهم من ملوك اليمن والتبابعة وقصة النار التي تعبدها حمير إلى آخر من ذكر من الملوك المتوجين.
وأهم ما في الكتاب هذا القسم التاريخي. ومن قرأ القصائد الواردة فيه بإمعان يستنتج منها مادة تاريخية، بيد أن كتاباً عرف مؤلفه بإكثاره لا يخلو من مسائل نعدها اليوم ترهات، وربما كانت في عصره وقطره حقائق مسلمة.
أما الكتاب الثاني، فقد نقل عن عبيد بن شرية من المعمرين من أهل اليمن أيضاً. كان وفد على معاوية بن أبي سفيان في الشام، فلما رآه معاوية آية في تاريخ اليمن وملوك العرب والعجم يروي أخبارهم مشفوعة بأشعار، أمر كتابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيد بن شرية في كل مجلس سمر فيه مع معاوية، فعبيد هذا كان الراوية والمدونون كتاب معاوية.
وفي هذا الكتاب حديث هلاك عاد وثمود وجرهم وخروجهم من اليمن إلى الحرم، وناشر النعم بن عمرو بن يعفر بن عمر، وشمر يرعش بن افريقيس بن أبرهة بن الرائش، وتبع الأقرن وهو ذو القرنين، وملكي كرب بن أسعد ابن تبع الأكبر، وأسعد أبو كرب الأوسط. وتتخلل كل ذلك قصائد عليها مسحة السذاجة والبداوة، والغالب أنها أو بعضها من شعر الجاهلية القريب العهد بالإسلام، كان ينقل من الصدور ثم دون في السطور.
ذكر ابن النديم صاحب الفهرست أن معاوية لما أمر بتدوين ما يرويه في مجلسه عبيد بن شرية أمر أن ينسب إليه، وأن لعبيد عدة كتب. وكان معاوية يعجب بحفظ عبيد ويستزيده، وقال له مرة: (خليق يا عبيد أن يكون هكذا، فزادك الله علماً وفهماً،
وزادنا بك رغبة وعليك حرصاً فأنا لا نحصي أياديك، فزادك الله فضلاً إلى فضل وهدى إلى هدى) .
وفي تدوين معاوية روايات عبيد دليل بأن التدوين حدث منذ القرن الأول، فقد ذكروا أن زيد بن ثابت ألف كتاباً في علم الفرائض، وأن عبد الله بن عمر كان يكتب الحديث وألف كتاب في قضاء علي في عهد ابن عباس، وأن وائلة بن الأسقع من أهل الصفة المتوفى سنة ثلاث وقيل خمس وثمانين، كان يملي على الناس الأحاديث وهم يكتبونها بين يديه. وكل هذا يدل على أن القوم بدأ تدوينهم في عصر الصحابة، وإن لم يدونوا ما أفرد في التأليف إلا في القرن الثاني للهجرة.
ما عبيد بن شرية هذا فهو من الإخباريين، ولناشر كتابه الأستاذ كرينكو رأى فيه. كتب إلي يقول: (إنك تعتقد كما اعتقد قبلك ياقوت الحموي وابن خلكان أن عبيد بن شرية كان رجلاً أخبارياً بالحقيقة، وأنا أخالف رأيك، ورأى من سلف، وأعتقد أن روايته من موضوعات محمد بن إسحاق مؤلف السيرة، ومن الدلائل على هذا أن أكثر المصنفين الذين تكلموا في هذا الكتاب لم يروه، بل نقلوا ما وجدوه في الكتب التي تداولوها، وكثرة الأشعار الركيكة التي لا معنى لها فيه تخالف أسلوب الشعر القديم كما نجدها في دواوين القدماء البدويين والحضريين مثل حسان بن ثابت وأقرانه. ولم يكن لي غير نسختين كلتاهما مكتوبة في صنعاء، وهما من أصل واحد بلا شك، إذ أغلاطهما واحدة، وما كان عندي يوم تصحيح كتاب التيجان سوى نسختين، نسخة مختصرة في خزانة برلين، والنسخ الثلاث الأخرى مكتوبة في اليمن. ولو أنعمت النظر في الكتابين كتاب التيجان ورواية عبيد تجد أن مؤلفهما كتبهما ليزيد مفاخر اليمن على النزارية، وليثبت أن مجد اليمن أقدم وأكبر مما كان مجد النزارية، وهذا تعصب من قريش، ولهذا لم تكن لهما سوق في سائر بلاد العرب؛ وتجد كثيراً من أساطير اليمانيين مختلطة بالآثار الصحيحة. وقد نقل الهمداني كثيراً من الروايات غير المحققة في كتاب الإكليل، ولا سيما في القبوريات؛ ثم جاء عبد الملك بن هشام مع تعصبه لليمانية فشوش الكتاب كما شوش السيرة، ولم ينبه عليه أحد؛ إلا أن المحدثين كلهم يضعفون أبا إسحاق ويسمونه أخبارياً لا محدثاً، وقد أبنت رأيي في ذلك في
أطروحة باللغة الإنجليزية نشرتها قبل طبع التيجان في مجلة الثقافة الإسلامية
أما الكتاب الثالث، فهو كتاب الحماسة لهبة الله بن الشجري المتوفى سنة ٥٤٢، فهو سفر صغير في نحو ثلاثمائة صفحة، أورد فيه أطايب من شعر الجاهليين والمخضرمين والمحدثين على مثال حماسة أبي تمام وحماسة البحتري. وابن الشجري معروف عند الأدباء بأمياله، وأماليه طبعت في مصر، وهي كأمالي المرتضى في اللغة والأدب والنحو والبيان، ولا تشبه أمالي القالي، وهي في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين.
وقد كسر ابن الشجري حماسته على أبواب وفصول، فساق في الأبواب أشعار الحماسة واللوم والعتاب والمرائي والمديح، والهجاء والأدب، والنسيب والحنين إلى الأوطان، والارتياح عند هبوب الرياح، والاشتياق عند لمعان البروق، والنزاع عند نوح الحمام، والشوق عند حنين الإبل، والطيف والخيال؛ وساق مقطعات من غزل جماعة من المحدثين وصفات النساء والتشبيهات؛ وأورد في الفصول (طيب النكهة وعذوبة الريق) و (طيب الريح) و (وصف العين والنظر) و (حسن الحديث وطيبه) و (المضاجعة وشدة الالتزام) و(وصف النار) و (وصف التنائف، والوحش والإبل والركب، وأخبية السفر) ، والصفات والتشبيهات في الليل، والنجوم والمجرة والهلال والصبح، والصفات والتشبيهات في الرياض والمياه والنبات، والصفات والتشبيهات في السحاب والبرق والغيث، وصفات آلة الحرب وتشبيهاتها، وصفات الكتب والخط وآلته، وصفات الشعر، وصفات الشيب والباب والخضاب، والتشبيهات الخمرية، والتشبيهات في الغناء وآلته والمغنين، والتشبيهات الغزلية، وتشبيهات المدح، وتشبيهات الهجاء، وتشبيهات وصفات في معان مختلفة. وختم الكتاب بباب الملح وبالأشعار المزيدة على الأصل. ودونك طريقته في الاستشهاد، وقد يحل بعض العويص والغريب من المفردات حلاً مختصراً مقبولاً، قال في صفات آلة الحرب وتشبيهاتها: (قال امرؤ القيس يصف فرساً)
وقد اغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأويد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
له ايطلا ظبي وساقا نعامة ... وارخاء سرحان وتقريب تتفل
وقال البحتري:
أراجعتي يداك بأعوجي ... كقدح النبع في الريش اللؤام
بأدهم كالظلام أغر يجلو ... بغرته دياجير الظلام
ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في جون الغمام
وله وكان وصافاً للخيل
أما الجواد فقد بلونا يومه ... وكفى بيوم مخبراً عن عام
جاري الجياد فطار عن أوهامها ... سبقاً وكاد يطير عن أوهامه
جذلان تلطمه جوانب غرة ... جاءت مجيء البدر عند تمامه
واسودّ ثم صفت لعيني ناظر ... جنباته فأضاء في اظلامه
مالت جوانب عرفه وكأنها ... عذبات أثل مال تحت حمامه
وكأن فارسه وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قدامه
لانت معاطفه فخيل أنه ... للخيزران مناسب بعظامه
في شعلة كالشيب تم بمفرقي ... غزل لها عن شيبه بغرامه
وكأن صهلته إذا استعلى بها ... رعد تقعقع في ازدحام غمامه
مثل الغراب مشى يباري صحبه ... بسواد صبغته وحسن قوامه
وله:
وأغر في الزمن البهيم مخجل ... قد رحت منه عن أغر محجل
كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن كصورة في هيكل
ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
جذلان ينقض عذرة في غرة ... يقق تسيل حجولها في جندل
تتوهم الجوزاء في إرساغه ... والبدر فوق جبينه المتهلهل
فكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان أو قطربُّل
وتخاله كسى الحدود نواعماً ... مهما تواصلها بلحظ تخجل
وتراه يسطع في الغبار لهيبه ... لوناً وسراً كالحريق المشعل
هزج الصهيل كأن في نغماته ... نبرات معبد في الثقيل الأول
ملك العيون وأن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل
وأهدى البحتري إلى عبد الله بن خاقان فرساً وكتب إليه:
ماذا ترى في مدمج عبل الشوا ... من نسل اعوج كالشهاب اللائح
يختال في شية يموج ضياؤها ... موج القتير ٍعلى الكميّ الرامح
لو يكرع الظمآن فيها لم يمل ... طرفاً إلى عذب الزلال السائح
أهديته ليروح أبيض واضح ... منه على جذلان أبيض واضح
فيكون أول سنة متبوعة ... أن يقبل الممدوح رفد المادح
وقال عبد الله بن المعتز:
وخيل طواها القود حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخط ذّبل
صببنا عليها ظالمين سيوطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
إلى آخر الفصل. . . وروى فيها فصل صفات الكتب والخط وآلته قال الكندي يصف الدفاتر:
خرس تحدث آخرً عن أول ... بعجائب سلفت ولسن أوائلا
سقيت بأطراف اليراع بطونها ... وظهورها طلا أحم ووابلا
تلقاك في حمر الثياب وسودها ... فتخالهن عرائساً وثواكلا
وتريك ما قد فات من دهر مضى ... حتى تراه بعين فكرك مائلا
وقال آخر:
نعم المحدث والنديم كتاب=تلهو به إن ملّك الأصحاب
لا مفشياً سراً إذا استودعته ... ولديه ما تحيا به الألباب
وقال الهلبي يصف كتاباً:
وفضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والجباه ال ... بيض زينت بالشعور
وكنظم در كالثغو - ر وكالعقود على النحور
أنزلته مني بمن ... زلة القلوب من الصدور
وقال أبو تمام يصف كتابا:
فضضت ختامه فتبلجت لي ... غرائبه عن الزهر الجني
وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحليّ
وقال آخر في وصف كتاب:
مداد مثل خافية الغراب ... وأقلام كمرهفة الحرب
وقرطاس كرقراق السراب ... وألفاظ كأيام الشباب. . . الخ
هذا ما نشره الأستاذ كرنيكو من كتب العرب وهو ينشر اليوم في القاهرة كتاب (المؤتلف والمختلف) للآمدى، و (رسالة ابن الجراح) وما بقى من معجم الشعر للمرزباني، وفي هذا الكتاب أخبار لا توجد في الكتب التي بأيدينا فضلاً عما حوى من الشعر القديم. وبعد هذا ألا نشكر لعلماء المشرقيات غيرتهم على نشر كتب العرب وإظهارها بمظهر التحقيق الدقيق يغبطون عليه.
القاهرة

