الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 67الرجوع إلى "الرسالة"

١٠ - الرواية المسرحية، في التاريخ والفن

Share

الملهاة في خلال القرون

أول ما نال الملهاة الإغريقية من العناية كان في صقلية.  وكانت يومئذ مقصورة على تصوير العادات العامة دون تلميح  إلى السياسة. وكان عميدها في هذا القطر أبيكارم (٤٥٠ق م) .  فأما انتقلت إلى أثينا تقلب بها الزمن. فمر بها على أدوار ثلاثة:  دور الملهاة القديمة، دور الملهاة الوسطى، ودور الملهاة الحديثة.  فالقديمة تمتاز بكثرة النقد الشخصي الصريح، فتسمى الأشخاص  وتعين الحوادث. وكانت تسمد موضوعاتها من الوقائع  اليومية. وتتمتع بالحرية المطلقة في مهاجمة العظماء. والوسطى  ظلت كتلك تهاجم أشخاصاً معينين، ولكنها عفت عن ذكر  أسمائهم، وأخذت تمثل أنماطاً من الناس وصوراً من الأخلاق،  وأما الحديثة فلم تطلب الجاذبية والتشويق في الحوادث اليومية  والأهاجي الشخصية، وإنما طلبتهما في تعقيد العمل الروائي،  وتصوير الأخلاق العامة. واشهر من عالج الملهاة القديمة أرسطفان (٤٥٠ - ٣٨٧ ق. م)  وقد كان معروفاً بصفاء الأسلوب،  ومرارة الهزل، وشدة الوطنية. غير ان مناظره كانت خليعة  فاحشة. أما الملهاة الوسطى والحديثة فلم يؤثر منهما غير قطع منثورة مشتتة، حتى سنة ١٩٠٧م، فعثروا على ملهاة تكاد تكون كاملة،  وهي ملهاة التحكيم لميناندر.

وكان للملهاة عند الرومان من العناية والحظ ما لم يكن للمأساة،  فقد نبغ فيها كثير منهم ، أشهرهم   (بلوت ٢٢٧ - ١٨٣ق. م)   وقد سار على نهج أبيكارم، إلا أنه عرف بسرعة العمل الروائي،  ونشاط الحوار، دون تصوير للمادة، ولا تحقيق للخلق. ثم   (تيرانس) (١٩٢ - ١٥٩ق. م) ، وقد قلد منيناندر، وامتاز

في هزله بالحرارة والأناقة والأدب وتنويع الأخلاق والصدق  في وصفها.

ثم هجرت الملهاة فى القرون الوسطى , وخلفتها فى الشهرة والذيوع الرواية الرمزية الخلقية ( Moralites ) ، واللهاة العامية (Farce) والاحموقة (Sotise) فلم يدب فيها دبيب الحياة إلا فى القرن السادس عشر. فعادت إلى الظهور فى ثوب الملاهي الأغريقية والرومانية , غير انها كانت مصبوغمة باللون الحديث , مطبوعة بالطابع  الفرنسى . وما زالت اللهاة تتردد بين الكساد والتفوق , وتترجح بين الهبوط والصعود , حتى جاءها موليير (١٦٢٢- 1673) فأقرها في نصابها , وشرع السبيل إلى كتابها , وطبعها بطابع الملاحظة القوية والحرارة القلبية والذوق السليم . وقد عالج موليير انواع الملهاة المختلفة بالنظم والنثر : أقل غير الملاهي المجونية والإشكالية , ملاهي اجتماعية : كالمتحذلقات الخيفات ، والنساء العوالم , والحضرى الشريف ؛ وملاه خلقية : كترتوف , ودون جوان , والمتوحش , والبخيل .

كان موليير يتناول العيب او الحمق وهو فى عنفوانه , فيصور منه مناظر طبيعية صادقة , ثم ينتهى من هذا التصوير ببيان عواقبه الوبيلة على صاحبه وعلى المتصلين به . فتصوير العيوب هو اكثر ما فى ملاهى موليير . اما التعقيد الروائى فواه ضعيف , والحل فى جملته يعوزه الامكان والمنطق , إذ ليس نتيجة طبيعية لحوادث العمل . ثم ذهب موليير واعقبه رنيار (1655-1709) فكتب طائفة من الملاهي الاشكالية كالمقامر والذاهل , ولكن أخلاق اشخاصه ليست محددة الرسوم , وإنما ملأها بالنكات المضحكة ،حتى قال فيه (جوبير) ( رنيار يهزل هزل الخدم , وموليير عزح مزاح السادة )

ومر القرن السابع عشر, ولم يشهر فى الملهاة غير هذين الكاتبين . ولما جاء القرن الثامن عشر ظهرت فيه طائفة من الملاهي الجيدة . كملهاة تركاريه Turcaret أو المالى , للكاتب لساج (1698-1747) فضح بها حديثي النعمة من المثرين , وحلاق أشبيلية , وزواج الفيجارو لبومارشيه (1732-1799) وهما ملهاتان قويتان إلا أنهما لم تراعيا حقوق الأسرة . ثم المسارات الباطلة , والوصية , والتجربة , لمارسيفو (1688-1763) وهي ملاهي عنى فيها كاتبها بتفعيل الدلال , وتحليل الحب , دون

العناية بتصوير الأخلاق ووصف العادات ثم اشتهر القرن التاسع  عشر بنخبة من الملاهي القيمة لطائفة من نوابغ الكتاب . كبيكار (1769-1828), وسكريب (1791-1861), ولا بيش  (1815-1888) ، وأوجييه (1820-1889), واسكندر دوماس الصغير (1824-1896), وفيكتوريان ساردو (1831-1908). وقد كان النوع الغالب على هؤلاء الكتاب هو الملهاة الاجتماعية ( Comedie de moeurs) مشوبة بالذهب الطبيعى , فقد أخذ أوجييه ودوماس يقللان فيها من تعقيد اسكريب . وجاء هنرى بيك (1837- 1899 ) مؤلف ( الغربان ) فمحا التعقيد وتوخى بساطة العمل وسذاجة الأسلوب . ثم انقلب المذهب الطبيعى من بعد هؤلاء إلى مذهب المسرح الحر , وهو مذهب سطحى الفكرة خامد الحركة , يهزأ بالقواعد المسرحية , ولا يتقيد بالعمل الروائى , وإنما يكتفى بتكثير المناظر المضحكة , وتصريف الحوار فى مختلف النكات المتطرفة الحديثة . ولم يدم هذا المذهب الخليع إلا قليلا ، ثم أودى به إسرافه وتهوره . وظلت الملهاة الاجتماعية أو الجدية أو المبكية تسير مع الزمن , وتتطور مع أهله ونظمه , حتى حلت محل الدراسة الابداعية ( drame romantiqne Le) ، وأصبحت اليوم موضوع المسرح الحديث كما سنبينته عند الكلام فى الدرامة

تلك حال الملهاة فى فرنسا . أما حالها فى إيطاليا فقد ظلت خافتة الصوت ضعيفة الأثر قليلة النجح حتى القرن الثامن عشر. فما كان يظهر منها قبل ذلك العهد إلا نوع غير مسطور , يرتجله الممثلون تبعا لخطة مرسومة من قبل . فلما نبغ الكاتب ( جولوديني ) (1707-1793) وهو عند الايطاليين كموليير عند الفرنسيين , أسس قواعد اللهاة ونهج سبيلها لبنى قومه : .

وأما في اسبانيا فملهاتها الوطنية كانت ملهاة العطف . والسيف (Comedia di capa a espady) وهى نوع من الرواية المنزلية , بطلها دعي من ادعياء الشجاعة الذين يسمونهم مانامور matamore (أى قاتل العرب) لأن الرجل من هؤلاء كان يملأ ماضفيه فخرا بكثرة ما قتل من العرب كذبا وادعاء . وكانت عنايتهم فى هذا النوع بتعقيد الحوادث اشد من عنايتهم بتصوير الأخلاق , وأشهر تلك الملاهي : الطاحون , وكلب البستانى ,

للوبي دى فيجا (1562-1635) وساخر أشبيلية , ونديم بطرس, لخبر بل تلز ؛ والحقيقة المربية لرويزدالركون (١٦٣٩) و هى التى استمد منها موليير أخلاق ملهاة (الكذاب). وأما فى انجلترا فلم ينبغ فى الملهاة غير شكسبير (١٥٦٤- ١٦١٦) فقد كتب :( ثرنارات وندسور الفرحات ), وجعجعة ولا طحن (Much ado about nothing ) وتيمون الخ , وهذا كل ما تجده من الملهاة الأصيلة فى الأدب الانجليزى .

أما غيره فقد اكتفى باقتباس الملاهي الفرنسية أو تقليدها . وأما فى ألمانيا فلم يتفق فيها غير الملهاة العامية فى ألعاب (الرفع), وهو نوع من التمثيل المضحك البذئ . أما الملهاة الأدبية فلم يؤثر عن الألمان منها إلا شىء قليل القيمة عديم الأثر , على رغم مانال كوتزييو وإمرمان , وبلوم , وبينديكس , وهكلندر من الفوز .

تحليل موجز لأشهر ملاهى مولبير

كانت الملهاة قبل موليير تعتمد على قوة المواقف بدلا من تصوير العواطف , وعلى المضحكات الخيالية بدلا من المضحكات الطبيعية , وعلى أسماء الأجناس بدلا من أسماء الأشخاص , وعلى العمل الخارق المستحيل بدلا من العمل الواقعى الممكن . فكانت خليطا مهما من الأسماء , ومكارم ساقطة من السماء , وعفوا فى موضع الانتقام , ومزيجا غريبا من التقاليد الأفريقية والرومانية والاسبانية والايطالية . فجاء موليير لخلق الملهاة الفنية الحقيقية لجميع العالم , ولذلك نكتفى بأن نحلل بعض ملاهيه نموذجا لبناء الملهاة , وتقسيم فصولها , وتدبير عملها , وتدريج جاذبيتها .

(المسترحش  Le misanthrope ) صورة لرجل كريم غالى فى الصراحة والتشدد حتى كان موضع الهزؤ والسخرية , وهى من الملاهي الخلقية التى لا وجود للعمل الروائى فيها . أهم اشخاصها : أسست المستوحش , وهو خطيب سليمين , وفيلنت صديق الست , وهو رجل لطيف العاشرة , إلا انه مفرط المزاح , وسليمين فتاة أرملة تسعى إلى الاعجاب من طريق الزهو والصلف , واورنت حبيب اخر لسليمين , واليانت بنت عم سليمين , واكاست وكلتياندر مركنزان , وأرسيونيه صديقة سليمين . وقد وقعت حوادثها فى باريس فى قصر سليمين .

الفصل الأول: السست وصديقه فيلنت في قصر سيلمين ينتظران خروجهما عليهما، وفي أثناء، ذلك يؤنب ألست صديقة  فيلنت على أنه لقي رجلاً في عرض الشارع لا يكاد يعرفه، فبالغ  فى تحيته وإكرامه. فهو يقول له: إن مثل هذا العمل لا يزكو  بالحر ولا يتسع له العذر. فيلنت يجيبه في مداعبة ورفق: إن  المرء مادام في الناس مقضى عليه أن يسايرهم بالمصانعة، ويعاشرهم  بالموادعة، والحياة تحب التظرف، والعقل يكره التطرف. ولكن  الست مسرف في بغض الناس فلا يستمع له، حتى أن له قضية  منظورة في المحكمة لا يفكر فيها ولا يشغل باله بها إعتماداً على  ظهور حقه، بل يتمنى أن يخسرها لتهيئ له أسباب السخط  والحفيظة على ظلم الإنسان. على انه بالغرم من انقباضه واستحياشه  يحب الفتاة أرملة تدعى سليمين، ولكنه يعترف بدلالها وخلاعتها،  ويأسف لأنها تستقبل في بيتها كثيراُ من الخطاب والأحباب،  وهو لذلك يريد أن يستطلع رأيها في الموضوع. ويدخل على  الصديقين في الساعة أورنت - وهو خطيب آخر لسليمين  مولع بقرض الشعر - فينتظر معهما. وهو أثناء ذلك يرجو  منهما أن ينشدهما قصيدة من نظمه، فيستحسنهما فيلنت ويستهجنها  ألست، ولكنه يمسك على ما في نفسه منها، ثم يلمح بما فيها  من المآخذ، وينتهي به الأمر إلى التصريح بأنها سخيفة ركيكة،  فيخرج الشاعر غضبان يتوعد. ويقول فيلنت لصديقه وهو  يحاوره: هاك خصومة جديدة جلبتها على نفسك بإفراطك في  الصدق وغلوك في الصراحة.

الفصل الثاني: (بهو سليمين والغيبة). يلقى الست  سليمين فيلومها على خلاعتها، ويريدها ان تصرح له بحقيقة حبها  ورغبته قلبها، فينقطع عليها الحديث قدوم   (آكاست)   و(كليتاندر) ، ثم (اليانت) و(فلينت)  فيأخذون مجالسهم،  ويخوضون في أعراض الناس، وتجيد سليمين وصف النفوس  اللئيمة، فيعجبون بها ويصفقون لها . ولكن الست ينكر  ذلك منها، ولا يجرؤ على مجابهتها بالإنكار، فتنفجر مراجل  غضبه على المراكيز لتصويبهم رأيها. فإذا ما تساير الغضب عن  وجهه عاد إلى سليمين يسألها ان تعلن من اختارته من الخطاب،  ولكن شرطياً يقتحم الباب فجأة ويدعوه إلى المحكمة للفصل في  الخصومة التي بينه وبين أورنت.

الفصل الثالث: (خبث الرياء وعبث الدلال) كذلك  المركيزان آكاست وكليتاندر يريدام سليمين على أن تعلن من  اختارته منهما، وتقبل (ارسيونيه) صديقة سليمين فيخرج  المركيزان وتختلى الصديقتان فتتبادلان السباب في أسلوب المناصحة:  تحكى أرسيونيه لسليمين في لهجة مرة ما يرميها به الناس في الأندية  والمجامع من الخلاعة والتهتك؛ وتحكى سليمين لأرسيونية ما بتقوله  الناس عليها من المراءاة بالحشمة وهي داعرة. ويدخل عليهما  ألست فتخرج سليمين لتكتب رسالة وتتركه مع أرسيونيه  فتنهز هذه الفرصة لإيعار صدر ألست على سليمين فتريه أنه  مخدوع وأنها خادعة، وتعده أن تقيم له على خيانتها إياه الدليل.

الفصل الرابع: (رسالة سليمين) يأتى فيلنت فيعلن أن  الخصومة بين ألست وأورنت قد انتهت بالصلح، ويدخل  من بعده ألست وهو ينتفض من الغضب،  وفي يده كتاب غرام من سليمين إلى أورنت  جاءته به أرسيونيه دليلاً على خيانة خطيبته  فيقول: آه! لقد خاب الرجاء، وضاع الأمل،  وظهرت الخديعة، وبان الغدر؟ فتترضاه  سليمين بالدهاء، وتفثأ غضبه بالملاطفة، ويجري  بينهما الحديث، ولكن خادمه يأتي مسرعاً إليه  ينبهه إلى أن شرطياً جاء يقبض عليه في  خصومة.

الفصل الخامس: (المقاطعة) يخسر ألسست  قضيته التي أهملها فينحى باللوم والسخط على فساد  الحياة ولؤم الناس، ويعثر أكاست وكليتاندا  على رسائل لسليمين فيقرآنها على ألسست  ويستيقنون جميعاً بأنها تخونهم وتخدعهم  وينصرف عنها المركيزان ويبقى ألسست مقيداً  بسلاسل هواهها، فيعدها بالعفو عن ما سلف إذا رضيته  زوجاً وعاشت معه في خلوة الريف، فترفض طلبه.  فييأس المستوحش ويعتزل الناس وهو يقول:

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى

                                      وفيها لمن خاف القلى متعزل

ملحوظات عن الرواية: الفصل الأول أية من آيات الفن، فقد عرض فيه المؤلف في  حوار قوي على لسان فيلنت وألسست أسماء الأشخاص الأصليين وأخلاقهم وذكر غضب ألسست وغرامه، وبرودة قلب  فيلنت، وخلاعة سليمين، واخلاص اليانت، ورياء أرسيونيه الخ. أما التعقيد فيؤخذ عليه ضعفه وبطؤه، إلا أن العمل كاف  وبسط الأخلاق متدرج. والحل يعيبه بعض النقاد بالنقص  من غير حق. فإن سليمين جوزيت على خلاعتها وخبها بأن  هجرها خطابها جميعاً. والسست أعتزل العالم، والمركيزان ذهبا  يعرضان زهوهما الأجوف في مكان آخر، وفيلنت واليانت  يستعدان لحفلة الزفاف.

يتبع

اشترك في نشرتنا البريدية