الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 78الرجوع إلى "الرسالة"

٣- تطورالحركة الفلسفية فى ألمانيا, تطور الحركة الفلسفية فى ألمانيا

Share

نفذ الحكم  La critique du jugement

ترى كانت - في فصله هذا - يعزو كل تأثير إلى أحاسيس  باطنية، فهو لا يتحرى إذ يتحرى عن أسباب الجمال الخارجية، لأن  الحس لا يكمن في الأشياء ولكنه يكمن في الإنسان

وقد شطر نقد الحكم شطرين: الأول ويحتوي على الألفة  بين الجميل والسامي لما بين الجمال والسمو من تقارب، والآخر  وهو يعنى بمظاهر الأشياء المؤتلفة المتطابقة في الوجود

إن (كانت)بحث في موضوع الجميلbeauagاللذيذreable   كما بحث فيه الأولون، ولكنه وسع دائرة البحث وتعمق في  تحليله؛ فاعتبر اللذيذ كل ما فيه لذة للحواس مصحوباً بالرغبة واعتبر اللذة التي يولدها مشهد الحسن والجمال لذة خالية من

الأهواء والأغراض، وإن حكماً ما يمازجه قليل من الهوى لهو  حكم فاسد غير مبني على الذوق، ولكن لما كان حكم الذوق مبنيا  على العاطفة فهو بحكم الضرورة قابل للتغيير، وفي الإمكان أن نرى  في كل بيوت الفن - وفي الطبيعة تماثيل ودمى تحظى برضا  الناس؛ ولكننا لن نرى مقياساً واحداً صحيحاً للجمال، لأن  الذوق نفسه هو كالبراعة شيء مبتكر

فإذا كان الجمال يؤثر في شعورنا تأثيراً خفياً ويرسل فينا  الراحة واللذة من حيث لا نشعر، فإن السمو ليبلونا باهتزاز  عنيف قد يكون مضنياً ومرهقاً للنفس ولأن يكون ما يبعثه السمو  في أنفسنا أدنى إلى عاطفة الإعجاب والاجلال منه إلى الراحة  واللذة أحرى وأجدر، واسمه الحقيقي هو   (اللذة السلبية)

ويفرق كانت بين السمو الرياضي mathematiqueوالسمو  الآلي   (أو ذو الحركة)  dynamiqneهذا مؤسس على فكرة القوة  وذلك على فكرة العظمة والروعة، فالطبيعة هي سامية عالية - رياضياً - في حوادثها التي يصعب على مخيلاتنا إدراكها، وهي سامية أيضاً بحركات أجرامها الهائمة فى الفضاء، حتى كأنها تريد  أن تسحق وجودنا المادي. وفي كلا الحالين تهيب مخيلتنا بعقلنا،  فيتركنا العقل ذاهلين أمام السماء ذات الكواكب واللانهاية  التي لا تحد ولا تبلغ إلى عظمتها المخيلة مهما سمت، وهو العقل  الذي يثير فينا عاطفة السمو، ويجعلنا نردد معه   (ما أنا إلا قصبة،  لكنها قصبة مفكرة)

فالسمو إذن لا يكمن في الأشياء، لكن في أنفسنا، فلا  يجب علينا أن نقول   (إن هذا الشيء هو سام)  ولكنه شيء يبعث  فينا فكرة السمو، فلا شيء في الطبيعة مهما جل - إذا نظرنا  إليه نظرة قياسية - إلا وهو يهوى إلى أحقر الأشياء، ولا  شيء حقير - إذا قسناه بمقياس آخر - إلا وهو يرقى إلى أعلى  الأشياء، وهناك المراصد والمجاهر تثبت صحة دعاوانا

يعرض أمامنا شيء رائع، يعجزنا التعبير عنه فنقول: إنه  لسام رائع: ويخلق معركة حامية بين العقل والمخيلة، فلا تستطيع  المخيلة إدراك كنهه، والعقل لا يفتأ يتحرى عن وسيلة يفهمه بها،  فينشأ من ذلك تلك الروعة التي نحسها أمام الأشياء العظيمة  السامية، ولكنها روعة ترفع أنفسنا إلى المثل العليا، لأنها تنبه

فينا ناحية العظمة الصادقة التي تتجلى بها طبيعتنا الانسانية وحريتنا الأخلاقية

أسلوب كانت

يعد كانت أصدق الفلاسفة اعتقاداً وأصفاهم أسلوباً، يقول  ما يعتقد به حقاً، ويكتب لقرائه كما يكتب لنفسه، تكاد تنطق  جملته بفكرته، ويعتقد أن الحقيقة غنية بنفسها، وأن الزخرفة  في التعبير عنها مما يرخص من قيمتها، وبرغم هذا الأسلوب  الواضح رماه بظلمة التعبير، وقد أراد هؤلاء أن يظهروا  أن كانت ليس ممن تنبسط آراؤهم للقارئ بسهولة. على أن  أفكار كانت لا تمشي إلى قارئها، وإنما على القارئ أن يسعى إليها ليدركها، ولكنه لا بد مدركها كلها، ولكن إدراكها لا يخلو  من الجهود التي لا يستغني عنها رجل يسعى

إن أسلوب كانت واضح جد الوضوح، ولكن عيبه الواحد  الذي أخذه عليه النقاد أنه يخلق في الموضوع شعباً كثيراً لا يترك  منها مسرباً إلا نفذ فيه، وهذا قد يدل على سعة اطلاع ونظر بعيد  وإن كان لا يخلو من السأم، ولكن كانت لم يكتب إلا لذوي  الإلمام بهذا الموضوع فقد يأخذ الموضوع الحقير الذي لا يكاد  يخوض فيه عقل فيخلق منه موضوعاً كبيراً، وقد ذكر أحدهم  نكتة جرت على لسان صديقه   (فيمار)  أن هذا أعلن للفيلسوف  أنه لايستطيع أن يقرأ تصانيفه، لأن الله لم يخلق له أكثر من هذه  الأنامل، يريد أن يضع أنملة على هذه الكلمة وأخرى على الثانية وهكذا حتى تنتهي أنامله ولما يكمل العبارة ويقف على دقائقها،  لأن كانت يستعمل كثيراً الأقواس والأهلة في عباراته المتصل  بعضها ببعض. وقد كان لكانت فضل كبير في خلق كلمات وتعابير  جديدة فلسفية خلقها بنفسه، وفرضها على اللغة الفلسفية بنفسه

وأخيراً نستطيع أن نقول إن كانت كان مطلع الثورة الفلسفية  في ألمانيا التي خلقت   (فيخت وشيلنغ وهيجل)(١)وقد تناول  تأثيره جميع المدارس العلمية والأدبية، وما ثمة فيلسوف ولا أديب  ولا شاعر نشأ بعد كانت إلا وكان مديناً له ولمذهبه بكثير من  آرائه، وشيلر نفسه قد استمد من كانت آراءه في الجمال والسمو،  وما أصدق كلمة   (غليوم همبولد)  حين قال   (إن قسماً من الذي هدمه  كانت لن يقوم أبداً، وإن قسماً من الذي شاده لن يخسف أبداً)

فيخت FICHTe ١٧٦٢-١٨١٤

ولد (فيخت)سنة(١٧٦٢)في قرية(رامينو)ولم  يكن أبوه ليقدر على القيام بأعباء تعليمه، فكفله أحد سادة  القرية وأنفق في سبيل تعليمه ما أنفق؛ وبعد جهاد عنيف ودرس  طويل دخل في العالم الفلسفي، فكان أول كتاب له   (تجربة  نقدية لكل وحي)  وكتابه الثاني   (تقويم أحكام الشعب على  الثورة الفرنسية)  وكتابه الثالث   (نداء عام لأمراء أوروبا لكي  يفكوا العقل من عقاله)  وهذه الكتب الثلاثة وضعت      (فيخت)   في مصاف أرباب فلسفة النقد والثورة، وبعد هذا  الإنتاج الطيب أعلن في محاضرة له قيمة مذهبه الذي وسمه بالمذهب  العلمي، وهو الذي يرد به كل العلوم إلى مصدر واحد. وهذا  المذهب أو هذه الثورة الفلسفية أطارت اسمه في الآفاق، حتى  غدا حديث المجامع النوادي. وقد أسند إليه منبر في   (لينا)   ليحاضر في الفلسفة، فسهل له هذا المقام أن يعاود شرح مذهبه  وتفصيله من جميع نواحيه في كتبه العلمية، وكان خلال ذلك  يواصل نشر مقالاته في   (واجب العلماء)  فهو يريد من العالم أن  يسيطر على شؤون بلده، لأن العالم عنده ليس بالرجل الذي يملأ  رأسه علماً وعرفاناً، ولا من يتخصص في مادة واحدة يذهب  بها كل مذهب، ولكنما العالم هو الرجل الحر الذي اجتمعت له  ثقافة عصره، وسما فوق مشاغل حياته اليومية، هو يريد أن ينقاد  المجتمع للرجال الألمع ذكاء والأروع عقلاً

وربما دفعه هذا المذهب - أضف إليه بعض مشاغل خاصة -  إلى أن يقطع الكثير من دراساته المتواصلة، كان يحاول من  ورائها أن يطبق مذهبه النظري على الأخلاق والحقوق والسياسة  والدين، يقطع هذه الدراسات ملتفتاً إلى شؤون أمته المجروبة،  وقد خطب الشعب كثيراً في   (برلين)  بأسلوب تبدو فيها حماسة  الفيلسوف وشدة تعلقه بوطنه، ومن خطبه خطبة ذكر فيها  أسباب انحطاط أمته ووصف العلاج الشافي لهذا الانحطاط قال: (إن أسباب الانحطاط داخلية؛ لا يمكن أن تعزى  إلى بأس الخصم وسيطرته، إنها تنجلي في خنوعنا ولين أخلاقنا،  وفي أنانية مرشدينا وقوادنا، وفي إعجابنا وتقليدنا الأعمى للأجنبي

(البقية على صفحة ٢١٥٨)

(بقية المنشور على صفحة ٢١٥٢)

الغريب. أما علاج هذه الأدواء فهو التربية المؤسسة على الفضيلة  التي تشجع النفوس وتعلم الأرواح معنى التضحية. . . والوطن  ما الوطن - عند فيخت - إلا خلود الإنسان على الأرض،  أتلك صفة محمودة فيمن يرغب عن مؤازرة أخيه بعقله أو بعمله؟  من هو ذلك الإنسان الذي يبغي ألا يخلق في فراغ الأزمان شيئاً  جديداً لم يمر بخاطر، ولم يقع عليه ناظر؟ هذا الشيء الذي يغدو  مورداً لا ينضب لاكتشافات جديدة؟ ومن الذي لا يرضى بأن  يفادي بمقامه في هذا الوجود ويتجاوز من أجله القصير المقدر له  لقاء بعض شيء سيخلد أبداً في هذه الأرض؟ أي خلق نبيل لا  يرضى بهذا؟

ألا إن هذا الرضا لا يتمثل إلا لعيون الذين يعتقدون بأن  الوجود كامل الصورة، ملائم كل الملائمة لحاجهم، وجامع  لأمانيهم، ما خلق إلا لهم. وأصحاب هذه الفكرة هم عندي  أصحاب هذا الوجود، وهم أصله ونواته. أما أولئك الذين ينظرون  إلى الحياة غير هذه النظرة فليسوا إلا حشرات سحيقة تزحف  في مسارب وجود سحيق)

وبينا كان فيخت يكسو فلسفته الآراء السامية، كان يعمل  على أن يكسو نفسه أثواب السمو. ولكن الردى غاله ولما يؤد  رسالته، فقضى نحبه سنة ١٨١٤ مستريحاً من جميع أوصابه

فلسفة :

فلسفة(فيخت) هي فلسفة رجل لا يعرف للعقل والقوة  الإنسانية حدوداً يقفان عندها. وقد كان - كانت - يرى أن  معرفتنا تقوم على أن نوفق بين العقل الخارجي وبين نظام إدراكنا  الداخلي، وهو يرى أن وراء ما ندركه شيئاً قائماً بنفسه منسلخاً  عنا لا يتطاول إليه إدراكنا. وما معرفتنا - عند كانت - إلا  مظهر يتوارى وراءه السر الأبدي واللغز السرمدي. أما (فيخت)    فهو يوقن بأن هذا المظهر نفسه هو الحقيقة ذاتها،  وهو وليد قوة   (النفس)  التي لا تنفد، وذلك الشيء القائم  بنفسه إن هو إلا حد يكبح قوة النفس ويحاول أن يقضي على  سطوتها، ولكنه حد يزداد أمره ضعفاً كلما استطاعت النفس

ان تبرز من قوتها وتفرض شيئا من سيطرتها على الوجود : وبهذا كانت غاية العلم أن يتغلب العالم الداخلى وهو عالم العقل و الروح على العالم الخارجى وهو عالم المادة

والنقطة الأساسية لفلسفة(فيخت)هي هذه الذات التي  يجعل منها   (الفاعل المطلق)  في هذا الوجود، لكن هذه الذات  لا تكمل لها معرفة ذاتها إلا إذاقورن بينها وبين غيرها، وبضدها  تتميز الأشياء. فإن تخصيصي مثلاً لوجودي بقولي   (أنا)  يثبت  منطقياً لغير ذاتي وجودا.لأن الأخص يستثنى من الاعم.وهذا    الغير هو الذوات السارحة في هذا الوجود

قد تيقظت الذات في إحدى خطراتها يوم أحست بنفسها  فألفت أمامها سداً يقف سيرها. فوقفت وشعرت بأنها مقيدة،  من ورائها ومن أمامها سدود، فأخذت تنظر إلى علة هذه الحدود  وهذه السدود، فخالت أن هذه العلة كامنة في جواهر الأشياء،  فأما الشعور العادي فهو يرى العلة في جوهر الأشياء، أما  الفيلسوف فهو يعتقد بأنها كامنة في التحريض الذي تثيره الذات  لبسط سلطانها على الأشياء، وتحقيق غايتها التي تطويها في  صدرها. وهكذا تجري حياة الكائن المفكر، فهو طوراً يصيب  مركز الدائرة وطوراً يحيد عنه

( يتبع )

دير الزور

اشترك في نشرتنا البريدية