أتينا فى المقال السابق على آراء ابن شهيد فى شخصية الأديب ، وقلنا إنها آراء صائبة لم يسبقه اليها أحد فى العربية , ونريد فى هذا المقال أن نستجلى آراءه فى الآثار الأدبية , فنتعرف الظاهر التي اعتبرها مسباراً لبراعة الأديب الفنية , واتخذها مقياسا لقوته فى الصناعة ، وقد اعتبر ابن شهيد لذلك عدة مظاهر دل عليها فى مواضع متفرقة من " التوابع والزوابع" ؛ وأول ما دل عليه من هذه الظاهرة : المعنى السامى البديع , يختال فى اللفظ المشرق السمح . فالأديب عندا بن شهيد لا يبلغ الشأو ولا يستحق اسم الصناعة إلا " بتعمد كرائم المعاني , وتقحم بحور البيان... فيمتطي الفصل , ويركب الحد " ويطلب النادرة السائرة , وينظم من الحكمة ما يبقى بعد موته " ولعل من المعلوم أن قضية " اللفظ والمعنى " كانت من القضايا التي طال فيها جدال التقاد الشارقة , واختلفوا في الأخذ بها بعضا وكلا , فاعتبر بعضهم اللفظ وحده مظهرا لبراعة الأديب وقوته , ذلك لأن المعاني مطروحة أمام الناس , فالبليغ منأجاد صياغتها , وأحسن سبكها . واعتبر آخرون المعنى فحسب , فالأديب لا يفضل الأديب ولا يفوقه إلا بجدة أفكاره وغزارة معانيه , ثم استقر الرأى على الجمع بين شق القضية , فأصبحت براعة الأديب تستجلى فى ألفاظه ومعانيه , وأصبح الأديب لا يبلغ منتهى البراعة والقوة " إلا بتعمد كراتم المعاني وتقحم بحور البيان " كما يقول ان شهيد
وابن شهيد يحب الازدواج فى الكلام , ويرغب فى المماثلة والمقابلة , ولكنه يكره التزام السجع , ويراه أفناً لا يليق بفارس البيان ، ومن العجيب أنه مع ذلك كان يلتزم الجع كثيرا فى اسلوبه , وكان الرجل قد توقع الاعتراض عليه من هذه الناحية , وأراد أن يعتذر عن نفسه , فزعم أنه التقى بعتبة بن أرقم شيطان
الجاحظ (١) فشهد له بأنه خطيب وحائك للكلام مجيد , ولكن لامه على غرامه بالسجع , فقال ابن شهيد يرد عليه " ليس هذا - أعزك الله - جهلاً مني بأفن السجع - وما فى المماثلة والمقابلة من فضل , ولكنى عدمت ييلدى فرسان الكلام ..." ثم ينطلق فى الانتقاص من معاصريه فيزعم أنهم لغباوتهم لا يفقهون الازدواج ويكبرون من قيمة السجع , فاضطر أن يسجع حتى يحرك من نفوسهم , ويلج بكلامه إلى قلوبهم , فيقول عتبة : إنا لله , ذهبت العرب وكلامها , ارمهم بسجع الكهان فعسى ان ينفعك عندهم , ويطير لك ذكر فيهم . وهذه معذرة إن صحت لا نقبلها من ابن شهيد , فليس من حسن الرأى أن ينحرف الكاتب عن طريقة يراها سديدة إلى اخرى مستهجنة ليظفر بالرضى من بعض الناس , وإنما الكاتب العبقري هو الذي ينتهج طريقه ويدع الأذهان تتبصر مسلكه ؛ وتتبين خطواته فتترسم سيره , وتأخذ أخذه ...
ولكن ابن شهيد يعود ليستدرك على قضية " اللفظ والمعنى" مظهرآخر من مظاهر البلاغة , فيرى أن هناك " صوراً من الكلام تملأ القلوب وتشغف النفوس , فاذا فتشت لحسنها أصلاً لم تجده , ولجمال تركيبها وجها لم تعرفه , وهذا هو الغريب ان يتركب الحسن من غير الحسن ... وذلك كقول امرئ القيس : تنو رتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالى
فهذه الدنيا جة إذا تطلبت لها اصلا من غريب معنى لم يجده !! ولكن لها من التعلق بالنفس والاستيلاء على القلب ما ترى .." وهذا كلام حمله ابن شهيد على ما اشترطه فى شخصية الكاتب من قوة الطبع وصفاء الروح كما سبق بيانه , ومعنى هذا الكلام أنك إذا تأملت بعض الصور الكلامية الرائعة لا يجد لروعتها أصلا من جزالة اللفظ أو طرافة المعنى , بل قد تكون سهلة التناول قريبة الغور , ولكن روعتها ترجع الى ما يكمن فيها من القوة الروحية للكاتب , واكثر ما تتجلى هذه القوة فى كلام الله " حين يتحدث ذو الجلال عن ذاته وصفاته , وقدرته وقوته ، وجلاله وعزته , ولطفه ورحمته , وناره وجنته , ووعده ووعيده ,
وإنذاره وإعذاره , وقد كان لهذه القوة الرائعة الاثر الأقوى فى رياضة العرب واجتذاب نفوسها نحو الاسلام , وهى التى كانوا يشعرون بوقعها من غير أن يعلموا كهها (١)". ومن العجيب أنك تقرأ الأبيات من الشعر العالى أو النثر اليديع فتشعر بهذه القوة رائعة ظاهرة تكسو الكلام جلالاً وجمالاً , فتحاول أن تعبر عنها كما يجب فتجد نفسك عاجزاً مقصراً , ذلك لأن قوة الكلام لا ترجع فى هذه الحال الى الألفاظ والمعانى , وإنما هى ترجع الى ما فيه من القوة الروحية , وقد أخذ بعض الكتاب المعاصرين هذه الفكرة عن ابن شهيد , وتبناها لنفسه ، وادعى انها انحدرت من عقله على قلبه , وهاجم بها الباقلانى فى أقواله فى إعجاز القرآن , وجادل بها الكتاب والنقاد الذين تصدوا للرد عليه !!
وثمت مظهر آخر من مظاهر القوة والبراعة عند الأديب فى راى ابن شهيد , وهذا الظهر هو التفان فى توجيه الخطاب بحيث يكون على وفق أقدار المخاطبين , والتصرف فى إيراد القول بحيث يكون من السهولة أو القوة على حسب ما يقتضيه المقام ، وقد ذكر ان شهيد هذه المسألة وهو يشرح ما كان يقع له مع الشحاذين فى قرطبة , وكيف كان يعينهم بشعره على نيل مآربهم , فقال : "وربما لاز بنا التطعيم باسم الشعر , ممن يخبط العامة والخاصة بسؤاله , فيعادف منا خالا لا تتسع له فى كبير مبرة , فنشاركه و تعتذر له , وربما أقدناه بأبيات يتعمد بها البقالين ومشايخ القصابين , فاذا قارفت أسماءهم , ومازجت أفهامهم , در حليهم , وانحلت عقدهم , وجل . شخص ذلك البائس فى عيوبهم , فما شئت إذ ذاك من ختزة وثيرة يحظى بها كمه , ورقبة سمينة تدس فى مخلاته , وتينة رطبة يسد بها حلقومه .. فلا يكاد البائس يتم ذلك حتى يأتيتا فيكب على أيدينا يقبلها , وأطرافنا يمسحها , راغبا فى أن نكشف له السير الذى حرك العامة فبذلت ما عندها له , وبادرت برفدها اليه . وتعليمه ذلك النحو من الشحذ لا نستطيعه , لأن هذا الذى يريد منا هو تعليمه البيان , وبين فكره وبينه حجاب !! ولكل ضرب من الناس ضرب من الكلام ووجه من البيان.."
وقد سبق أبو هلال العسكرى أبن شهيد الى تقرير هذه
الحقيقة بعبارة أصرح وأوضح فقال فى كتابه الصناعيين : " وينبغي أن تعرف أقدار المعاني فتوازن بينها وبين اقدار الحالات فتجعل لكل طبقة كلاما , ولكل حال مقاما , حتى تقسم اقدار المعاني على اقدار المقامات , وأقدار المستمعين على أقدار الحالات , واعلم أن المنفعة مع موافقة الحال , وما يجب لكل مقام من المقال ... فان كنت متكلما او احتجت الى عمل خطبة لبعض من تصلح له الخطب , اؤقصيدة لبعض ما يرادله القصيد ؛ فتخط ألفاظ المتكلمين مثل الجسم والعرض واللون والتأليف والجوهر، فان ذلك هجنة . وكذلك كن أيضا إذا كنت كاتباً "
ولعل يشار بن برد كان أول من دل على . هذه الظاهرة واستعملها فى شعره من حيث كان الناس يعيبونه بها فقد جاء فى الأغانى بسنده ان بعضهم قال : قلت لبشار إنك لتجىء بالشىء الهجين المتقاوت !-قال :وما ذاك ؟ قلت بينا تقول شعرا يثير النقع وتخلع به القلوب مثل قولك :
إذا . ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة
ذرى منبر صلى علينا وسلما
تقول:
ربابة ربة البيت تصب الخل فى الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت
فقال بشار : لكل وجه , وموضع الاول جد, وهذا قلته وفى ربابة جاريتى , وأنا لا آكل البعض من السوق , وربابة لها عشر دجاجات وديك فهى تجمع لى البيض , فهذا عندها احسن من " قفا نبك... " عندك
وصدق بشار فيما قال , فان البليغ هو من يحوك الكلام على حسب الأماني , ويخيط الألفاظ على قدود المعاني , وقد تكون هناك . مواقف للقول يطلب فيها الاسفاف , ويحلو فيها التبذل , فيكون باقل فى عيه وفهاهته , أفصح من سحبان في تشدقه ورغائه , ويقيني لو أن بشارا توجه فى الخطاب الى جاريته بلغته فى الفخر والحماسة لدل على الحماقة فى طبعه , والسقم فى ذوقه , وربما ظنت هذه الجارية انه يشتمها , فكانت تمنعه بيض دجاجها , و تحتم عليه ان يشترى البيض من السوق , فلا يفيده تقعره , ولا ينفعه شعره ،
فمن القصور أن يلتزم الشاعر أو الكاتب نمطاً واحداً في التعبير لا يتعداه، فيكون في جده كهزله، ومن الهذيان أن يتعنت في توجيه الخطاب، فيكون في كلامه إلى أهل الثقافة والمعرفة كما هو في كلامه إلى ذوي الفهاهة والعي، وإنما الطبع القوي هو الذي يواتي صاحبه في كل طريق يسلكه، والذوق السليم هو الذي يقضي عليه بتوجيه الخطاب إلى مقتضى الحال، حتى يستطيع من وراء ذلك أن ينال غرضه عند المخاطب، وأن يصل إلى قرارة نفسه في يسر وسهولة، فلو انتهج الأدباء هذه الخطة التي أوضحها ابن شهيد، ولو علموا أن لكل ضرب من الناس ضرباً من الكلام، ووجهاً من البيان، لأمكنهم أن يغزوا نفوس الناس على اختلاف طبقاتهم بأفكارهم وأساليبهم، وأن يخلقوا الإحساس الفني في نفوس الجمهور على مر الزمن

