(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء) خالد بن الوليد
ولا يخلو من الفائدة أن نقتبس هنا وصف المستر فلبي الذي تجول في هذه المنطقة في صيف سنة ١٩١٨، فدون مشاهداته في كتابه (البلاد العربية الوهابية) ( Arabia of Wahabit ) وقد وصف قرية الجبيلة الواقعة بالقرب من قرية (عقرباء) التي دارت رحى المعركة فيها بما يلي:
(والقرية الآن آهلة بعدد يسير من السكان البؤساء، ومعظمها أطلال دارسة، ومقابر الصحابة على ضفة الترعة المقابلة للقرية (أي الضفة اليسرى للوادي) وعلى مسافة نحو ربع الميل منها. وقد يشاهد المسافر بقاعاً متفرقة مغروسة بأشجار الأثل (الطرفاء) تُسَري عن المرء الانقباض الذي يعتريه من إدامة النظر إلى اللون الأغبر الذي لا يتغير، وهو اللون الدائم لتلك السهول الرسوبية المترامية التي سدت الوادي. وبقرب الحي آبار كثيرة بعضها مطوي بالحجارة يستقي منه أهل الحي دائماً. أما بيوت أهل الحي فمعظمها أطلال من اللبن بلا خشب، وقد عبثت بها يد البلى ودرست آثارها الأيام. أما ما بقي منها فلا بأس بحاله، ويستدل منه على أن أهل البيوت عنوا بصيانتها فدعموها بأعمدة حجرية مشيدة بالجص لتحمل على متونها روافد السقوف. وقد شاهدت في دار منها وعاء مزدوجاً كبيراً من الملاط المغطى بطبقة من رقيقة من الصاروج (الجص) الأسمر لخزن التمور، ولا تزال جدرانه ملونة بعصارة التمر) إلى أن يقول: (ومعظم
الجدران المبنية من الطين مؤزر إلى ما يقارب نصفه بأيادات من الحجر الصلد مبنية على وجه الجدار بناء منحرفاً توخوا فيها بساطة التزويق لا غير) . . . ويقول في وصف جبل طويق والهضاب التي يشرف عليها: (أما ما استدار من الأرض حول تلك المنطقة فلم أجد في حياتي أرضاً مثله، فلم أعثر في أرباضه على شئ تنقبض له النفس، فتجد أمامك طريقاً معرضاً لمهاب الرياح، خالياً من الظاهرات الطبيعية، ضارباً في كافة الجهات على نمط واحد لا نهاية له، ولا يعترضه في ذلك التكوين الغريب سوى الحرف المطمئن المسمى جبل صلبوخ الواقع إلى الشمال الشرقي) .
وعندما يبحث في أطراف عينة عاصمة آل ابن معمر القدماء وهي القرية الواقعة إلى غربي عقرباء، في واد ضيق - يقول: (أما ربوع عينة التي اشتهرت في قديم الزمان بجمالها وخصبها فمنبسطة على جانبي المسيل شرقاً وغرباً نحو ميلين، وقد أمست الآن قاعاً صفصفاً وأثراً بعد عين، ونبتت أدغال الأثل في البقاع التي وطئت أراضيها ومهد ثراها لغرس فسائل النخيل فيها. أما البلد الأصلي أو الحلة التي كانت يوماً موطناً لآل ابن معمر فلا تختلف عما كان حولها من الربوع الضاربة في صدر تلك المحلة الرحبة، إلا إن أطلالها الشاخصة قد شغلت بقعة وسيعة، ويمر عابر السبيل في تلك البيداء بين آونة وأخرى بأطلال البنيان القديم كالعمد المزوقة رؤوسها. وفي كل ناحية من نواحي تلك المحلة الوسيعة آبار نضب عنها الماء وهي مطوية بالحجارة والآجر وعليها أحواض مبنية بالصاروج، أما ضفاف المسيل فمدعمة بأيادات كالمسنيات على أشد ما تكون من متانة البنيان، عقدها أصحابها في وجه السيل من زمن بعيد لحبس المياه في بطن المسيل. فرحلوا عنها وتركوها وشأنها فعبثت بها يد الدهر فتداعت جدرانها وتقوض بنيانها المحكم ثم غدت تراباً فوق أنقاض بالية. وشاهدت في بعض تلك الجدران حجارة كبيرة من الصخر الصلد طول الحجر الواحد قدمان فى عرض نصف قدم) إلى أن يقول: (جزنا الأطلال وخرجنا من عينة الخربة وسلكنا طريقاً تخترق أشجار الأثل في عنفوان نموها. والمنتشرة في طول الأرض وعرضها إلى ان تنتهي في طرف المحلة القائمة في الناحية الغربية فولينا وجوهنا شطر المغرب صاعدين الوادي. فسار بنا الظعن يطوي صوحه صعوداً. وعرض الوادي في أسفله (أي في عقيقه) نحو الميل،
وكلما ارتقى الإنسان صوح الوادي وارتفع عن عقيقه ازداد انفراج الوادي إلى أن بلغ عرضه ميلين أو ثلاثة أميال. ولما أرسلت رائد الطرف في ميمنة الوادي بدا لي شعيب في منخفض الوادي، وقد قيل لي إن هذا الوادي يأخذ في الصعود مرة أخرى إلى حوض عظيم كسيت جدرانه بالصاروج، يقع على سفح التل لحبس مياه الأمطار والمتاعب المنحدرة على جوانبه، ولم يزل حتى الآن خزاناً لري حقول القمح المزروعة في وسط الخرائب. وهناك شعيب آخر إلى يمين طريقنا يقال له شعيب عينة ينحدر من الهضبة الضيقة التي تفصل وادي حنيفة عن وادي سدوس).
قوات الفريقين
برغم كثرة الروايات التي تتناول حركات اليمامة والقتال في عقرباء نجد الغموض ظاهراً في معرفة قوة الفريقين.
فالطبري يذكر نقلاً عن سيف بن عمر أن القوة المحاربة لدى قبائل بني حنيفة بلغت أربعين ألفاً. ولما ذكر أخبار السنة الحادية عشرة الهجرية نقل عن ذلك الراوي نفسه، وزعم أن القوة المحاربة بلغت عشرة آلاف. أما ابن حبيش فيذكر في رواية نقلها عن الواقدي مفادها أن قوة المسلمين بلغت أربعة آلاف، وقوة بني حنيفة أيضاً بلغت هذا المقدار ذاته. وفي رواية تسند إلى سيف بن عمر يزعم الراوي أن عدد القتلى من بني حنيفة بلغ عشرين ألفاً.
أما المؤرخ الفارسي ميرخوندي فيزعم أن عدد القتلى في تلك الموقعة بلع سبعين ألفاً، والذين قتلوا في حديقة الموت بعد المعركة بلغ عددهم سبعين ألفاً. ولعلك أدركت أنه يصعب الوصول إلى عدد يقرب من الحقيقة بين الروايات التي تقدر قوة الحنفيين بين أربعة آلاف وأربعين ألفاً، وعدد القتلى منهم بين عشرين ألفاً إلى مائة وأربعين ألفاً.
ولكن الثابت أن مسيلمة جمع أعظم قوة لمقابلة جيش المسلمين ووضعها على الحد الفاصل بين بلاد حنيفة وبلاد بني تميم، وترك القرى العامرة وراءه. وكان من مصلحة الحنفيين أن يجتمعوا تحت لواء رئيسهم للدفاع عن حيهم الذي تركوه وراء ظهورهم، ويظهر من مجرى المعركة أن عدد القتلى في قوة الحنفيين كان كبيراً.
لقد قدرنا جيش بني حنيفة عند البحث في قوات الفريقين
بخمسة عشر ألف مقاتل - بمعنى أن الحد الأقصى للقوة التي يستطيع الحنفيون سوقها لا يجاوز العدد المذكور. والذي يلوح لنا أن القوة التي جمعها مسيلمة في عقرباء تبلغ عشرة آلاف مقاتل.
قوة المسلمين
يروي الواقدي أن جيش خالد بلغ أربعة آلاف مقاتل في معركة عقرباء. وفي رواية أخرى تسند إلى عيسى بن سهل أن الجيش الذي تولى قيادته خالد لما خرج من المدينة كان بقوة أربعة آلاف مقاتل، وهذا الجيش حارب في اليمامة. والذي لا ريب فيه أن قوة جيش المسلمين بلغت أربعة آلاف مقاتل لما تركت الربذة وتقدمت نحو بزاخة وانضمت إليها قوات من بني طيء قبل المعركة. ثم زاد هذا الجيش بعد إسلام قبائل بني أسد وغطفان. ولعل قوته بلغت أكثر من خمسة آلاف لما نزل في البطاح. ومن الثابت أن جماعات من بني تميم انضمت إليه قبل أن يتوجه نحو اليمامة. وتروي لنا الأخبار أن الخليفة أبا بكر أمد الجيش بقوات من المدينة لما كان محتشداً في البطاح، وأن خالداً سبق هذا الإمداد من المدينة وانتظر وروده من البطاح. فجميع هذه الأخبار تدل على أن جيش المسلمين تضاعفت قوته بانضمام القبائل ووصول النجدة إليه قبل أن يتحرك من البطاح نحو اليمامة.
وكان من البديهي أن تلتحق به القبائل متى اتصل بها خبر خيرات اليمامة ووفرة المغنم فيها.
ويلوح لي أن قوة الجيش بلغت أكثر من ستة آلاف قبل حركته من البطاح.
الموقف قبل الحركة
لبى خالد أمر الخليفة فذهب إلى المدينة ليدافع عن عمله في قضية مالك بن نويرة، وفي رواية لسيف بن عمر أن أبا بكر أرسل عكرمة بن أبي جهل الى اليمامة لما كان خالد يحارب المرتدين في بزاخة وأمده بقوات أخرى بقيادة شرحبيل بن حسنة. والرواية تزعم أن عكرمة بدأ القتال قبل وصول شرحبيل فنكب. فأقام شرحبيل في الطريق حيث أدركه الخبر. وهذه الرواية تؤيد زعم سيف في أن الخليفة قسم جيش المسلمين في ذي القصة إلى إحدى عشرة فرقة، وعين قائداً لكل منها فوجهها إلى مناطق المرتدين. وقد سبق أن بينا فساد هذا الزعم. وفي رواية أخرى أن شرحبيل

