الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

التعليم ومقتضيات الإستقلال

Share

لا تتمتع امة باستقلالها فى راحة وطمأنينة الا بفضل سيادتها السياسية ونضجها الاجتماعى وازدهارها الاقتصادى . ولا تبلغ هذه الدرجات من الرقي الا بفضل الرجال الصالحين الناشطين الذين نجد منهم نخبة متنورة تقود الحركات ، وتدبر الامور ، وتصلح الفساد ، وتقوم الاعوجاج وتوفر اسباب الخير وتعلق ابواب البلاء . . ونجد منهم ايضا أصنافا متعددة من الشغالين القائمين بأعمالهم بكفاءة وإخلاص  . . . هؤلاء الرجال لا تمطرهم سحب مدرارة ولا يندفقون من منابع فياضة ، بل هم من تكوين المجتمع ، يتعلمون ويتهذبون في المدارس ثم يتممون ثقافتهم وتكوينهم بالاطلاع وممارسة الحياة .

الاستقلال السياسى : لا تفوز امة بهذا النوع من السيادة بمجرد تنظيم الحكومات القومية والهيئات الرسمية داخل البلاد وخارجها ، كما لا تكتسب الوظيفة السياسية بمجرد الجلوس على الكراسي وتوقيع الاوراق . السياسي الحقيقي له مهارة فى استغلال الظروف . وفى توقع الامور قبل وقوعها وفي مجابهتها اذا فاجأته ، وله خبرة فى حل المشاكل الداخلية والخارجية مهما تعقدت ومهما اعوزته معطياتها . وله براعة فى تدبير الحيل وفى التقلب مع الاحوال . فتارة يتشدد ويتصلب ويتعنت ، وتارة يلين ويتساهل ويتغافل ويتلطف ، كل ذلك دون ان يحيد عن اتجاهه الاساسى او يخون مبادئه الاصولية فهو يحتاج الى مواهب جوهرية كقوة النفس ، وحدة الادراك . وثبات العزيمة ، وسكون البال ، ومرونة الطبيعة . . . ويحتاج ايضا الى تكوين ثقافي متسع يناله بالدراسة والتمرين والتجربة . السياسة فن لا يسمح لكل احد بالنبوغ فيه . لكنها علم ايضا ولها اصولها وقوانينها واحكامها واساليبها ، وتدرس فى المنظمات الحزبية وفي المعاهد السياسية العليا ،

لقد تحقق كثير من اهدافنا السياسية منذ استقلت بلادنا . لكننا لا نزال

نحتاج الى ساسة خبراء يدعمون استقلالنا ويشركوننا فى النشاط السياسى الدولي حتى يكون لنا دور نقوم به ومسؤولية نضطلع بها وجزاء نناله لا يمكن بلوغ هذا الهدف بدون تعليم حي يتماشى مع واقعنا ومع العصر الفوار الذى نعيش فيه ان جل طلابنا لا ينخرطون فى المعاهد السياسية العليا الا قصد التمتع بالقروض الشرقية والمنح ولا يهتمون الا بدراسة الحقوق - فلا تروق لهم العلوم السياسية الا عرضا ولا يفكرون الا فى الصحافة او الوظائف الادارية او المحاماة ، بينما نشاطنا السياسى والديبلوماسى يحتاج الى اهل الكفاءة والعبقرية .

النضج الاجتماعى : المجتمع الراقي له وعى دقيق بلوازمه وبإمكانياته ، وله معرفة بقضاء حاجاته واستغلال خيراته - وكل فرد منه يشعر بواجباته وبحقوقه وبحدود كليهما فتتوازن رغبات الافراد مع مقتضيات العيش في المجتمع وتتوفر اسباب السعادة للجميع .

الوصول الى هذه الدرجة من الازدهار يقتضى محق الجهل والبؤس ، وقد يمكن القضاء عليهما معا اذ صار البؤس اليوم مقرونا بالجهل . كانت القبائل الجاهلة نعيش عيشا حيوانيا او تكاد ، لا تنمو ولا تتطور ، بل تركد فى نظمها البسيطة وتقنع بمواردها القليلة ، وترضى بحالها وباحكام السماء . لكنها كانت معتدلة فى حياتها ، وذلك بسبب التوازن بين ما تقبله يد الحاضنة وما تقبضه يد المنية . اما اليوم فالحضارة تدخل كل بيت فى شكل ممرض او طبيب ينقذ العليل من الموت دون ان يغذى الافواه الفاغرة ولا ان يعمر الادمغة الخاوية . فبكثر ما تدفعه البطون بالنسبة لما تبلعه المقابر ، وينمو عدد الاحياء بلا مقابل غذائى ، ويثقل حمل الاسرة ويشتد بؤسها فيزداد نصيب الشوارع من الاطفال الشرد ، وتتعقد مشاكل الدولة ، من بطالة الى تشرد . . لا ينمو عدد السكان الا قليلا فى البلاد المتمدنة وقد لا ينمو بتاتا اذ الاسرة الواعية بواقعها ومشاكلها والحرية على رفع مستواها فى العيش لا تنتج من الاطفال الا ما يمكنها ان تربي اما الامم الضعيفة الجاهلة فعدد افرادها في نمو مستمر يدهشنا ويريعنا -

الجاهل لا يعرف للنكاح شروطا سوى ما تمليه عليهما شهواته ولا يعرف لعدد ابنائه حدا ولا لتربيتهم سبيلا . فهو يلد قياما بوظيفة طبيعية ويوكل الله عليه في ارزاقه وارزاق اولاده ! لست ادرى هل يقبل الله هذا التوكيل ، لكنى الاحظ

مع الناس جميعا ان البؤس ينتشر فى الشعوب الضعيفة بالرغم من مجهودات الامم فى مقاومة الجوع واسعاف البائسين - يوم تعجز فيه الارض عن تغذية سكانها ، اذا لم يقف تيار المواليد عند حد معقول - ولا يقف هذا التيار الا بالقضاء على الجهل وتعميم الثقافة

لا يتفق الاستقلال مع الانحطاط الاجتماعي لان الضغف يدفع الى الاستغاثة والتداين ، أى الى الافلاس والرق . فلابد من ان نمحو من نفوسنا العقائد الزائفة حتى نعى عاقبة الاتكال على الغير وحتى تثمر جهودنا في الميادين السياسية والاقتصادية . ولابد ان نهتم بتعليمنا فنحييه وتنميه ونوحد طرائقه ونوجهه الى تكوين الرجال كما وكيفا وعلينا ان نهتم خاصة بتعليم البنات ونهىء لمستقبلنا الامهات الواعيات بمكانتها فى الدنيا . المرأة الجاهلة لا تمتاز عن الدواب المسخرة الا بالنطق ، وليتها بكمت وسلم الناس من لسانها السام ! فهى معدة للنكاح ولخدمة البيت وللولادة والحضانة والاكل والشرب والموت . ولما كانت شهوتها طاغية على عقلها فهى تحرج اهلها وتنغص عيشهم - بيد ان دورها فى المجتمع هو ارقى  الادوار واهمها فهى الرفيقة لبعلها فى السراء والضراء ، تؤازره فى تسوية المشاكل العائلية بآرائها السديدة وعطفها الرقيق - وهى المربية لاطفالها تعلمهم حقوقهم وواجباتهم وحسن السلوك مع الناس ، وتعينهم على القيام بعملهم المدرسى وتزرع فى نفوسهم بذورا أخلاقية طيبة تحققها المدرسة وتنميها وهى الحلى الذي يزين كل اجتماع فيطفو حسنها ولطف حديثها على الخوشنة الآدمية ويترقق الكلام وترتفع النفوس وتتغلب على الشهوات البهيمية .

لا يتوقف الازدهار الاجتماعى على رفع الجهل والبؤس فحسب بل يتوقف ايضا على علو الاخلاق - ان الفسق والخبث و " الشيطنة " امراض تصيب كل البيئات مثقفة كانت ام جاهلة ، وربما تنتشر فى المجتمع الثرى المتعلم اكثر مما تنتشر في المجتمع البائس الجاهل . ان تربية البنين والبنات فرض على كل اسرة وعلى كل مدرسة . لكن لا يفلح العلم التربوى بالنصائح والوصايا والوعظ والقاء الدروس بطريقة " قال المصنف رحمه الله . . " لا يقبل الطفل قاعدة اخلاقية ولا يؤمن بها ولا يعمل بمقتضاها الا اذا لمس حقيقتها واتضحت له معانيها ومراميها ولا يلمس الحقائق المعنوية الا اذا تركزت على الواقع الحى الذى يحيط به ويطرق حواسه . فكيف يمكنه ان يهتم بنوع من الاحجار او الاشجار او غيرها من المواد اذا لم

ير شكلا ولا لونا ولم يشم رائحة ولم يذق طعما ؟ وكيف يعير أوصاف الكمال عنايته اذا لم يصادفها فى طريقه وفى حركاته بين ذويه واقرانه ومعلميه ؟

الازدهار الاقتصادى : الحضارة لا تؤخذ ولا تعطى مجانا بل تكتسب بالكد وبالمال والمال يستخرج من خيرات البلاد ويتوفر بتنميتها واستغلالها احسن استغلال وطرائق الاستثمار والتنمية صارت فى هذا العصر عديدة متنوعة مما يجعل كل بلاد تختار ما يليق بها ويروق لها . الاكتشافات والاختراعات تتوالى بسرعة وبلا انقطاع ، والمشاريع الزراعية والصناعية والتجارية تنظم بدقة ، بحيث لا نهمل حبة من البذور ولا ذرة من المعادن ولا درهما من رأس المال ولا دقيقة من الوقت . ان من يزور المصانع العصرية يعجب كل العجب بدقة الحركات وتناسقها وانسجام نظامها ويبهته اهتمام الشغالين بالوقت وبتوالى الدقائق بل الثوانى منه . وكيف لا يعتنى المعمل بالحصص الزمنية وهو مطلوب بانتاج معين مفروض عليه كل يوم ؟ انى اعرف مركزا فرنسيا به آلة تستهلك خمسمائة الف فرنك فى كل ساعة !

التنقيب عن المواد الاقتصادية ، وطرائق تحويلها واستثمارها ، علوم متسعة متعددة الاقسام والاحكام تحتاج الى الاجهزة الخاصة بكل نوع منها والى الرجال العارفين بكل فن من فنونها ! قد يمتاز عصرنا الحالى بتحطيم الحدود الفاصلة بين البحوث النظرية والتكوين الفكرى ، وبين الاجراءات التطبيقية والمهارة اليدوية ، بحيث صار الصانع يحتاج الى دماغه والمثقف الى يديه .

كان الفلاح فى قديم الزمان يحرث قطعة الارض التى ورثها عن ابيه ، ويزرعها ويترقب رحمة الله . . ثم يحصد ويذخر ما يمنحه الله حصاده واذخاره ، مقلدا اسلافه في عقائدهم واشغالهم - اما اليوم فنحن فى حاجة الى دراسة الارض من حيث الجيولوجيا والفيزياء والكيمياء حتى نعرف مميزاتها وامكانياتها وعيوبها فنعين طرق تحويرها وخدمتها وزراعتها ونحتاج ايضا الى معارف عديدة فى تكييف الحبوب قبل بذرها وفى تاثرها على الارض عند نباتها ، وفى تناوب الزراعة من سنة الى اخرى ، وفي تصنيف الحبوب في " المشاتل " وفي علاج الزرع اذا اصابه مرض ، وفى استعمال الآلات بشتى انواعها . .

تريد بلادنا ان تفوز بنهضة اقتصادية لتحقق استقلالها ولا نبلغ هذا الهدف الا اذا استغللنا مواردنا كلها واستثمرناها استثمارا منطقيا كليا . فلنا اراض واسعة

صالحة للزرع ولتربية المواشي ، ولنا مواد منجمية يمكن تحويلها واصدارها ، ولنا سواحل مديدة يمكن تكييفها لصيد الاسماك وصناعة التصبير ، ولنا سماء جميلة وجو نقي معتدل ومناظر بديعة . . كل ذلك يروق للسائحين ويجذبهم

لا تستغل هذه الخيرات الا بفضل اليد العاملة المتخصصة والمهندسين الاكفاء القادرين على انشاء المشاريع وإدارتها ومراقبة نشاطها . . فلا بد لنا من تعديد المدارس الفنية ومن بعث الطلبة الى المدارس العليا ليتناولوا الفنون بشتى اصنافها ؛ اذا أردنا ان يتم تجهيزنا الصناعى بعد عشر سنين وجب ان نكون كل عام خمسمائة مهندس على الاقل واذا فرضنا اننا نوجه ثلث الطلبة الى المهن الصناعية وجب ان تخرج كل سنة من المدارس الثانوية الفا وخمسمائة طالب ، أي ضعف ما تنتجه اليوم بسبع مرات ، اذ لم يتجاوز عدد الناجحين فى الجزء من الباكالوريا مائتين واثنى عشر تلميذا فى السنة الدراسية المنصرمة ) منهم ٩٤ في قسم الفلسفة و ٤٥ فى قسم العلوم التجريبة و ٦٨ فى قسم الرياضيات وخمسة في الشعبة الفنية ! ( قد تؤلمنا هذه الارقام وتريعنا تعاستنا الثقافية . لكننا عازمون على تلاقي هذا النقص المخجل والخطير . سنعمل على تحديد المدارس وتكوين المدرسين وعلى تحوير نظمنا المدرسية وبرامجنا وطرائقنا للتدريس حتى يصير تعليمنا منتجا وحتى ينمو عدد الناجحين من التلامذة فى الاختبارات والامتحانات ، وحتى يصير الزيتونيون في صف المدرسين يشربون من مشربهم ويتجهون معهم الى العلوم والفنون العصرية

صارت المهن " العلمية " اليوم ضعف المهن " الادبية " بست مرات فلا بد من مراعاة هذا التطور عند تحوير التعليم وجعله يتماشى مع العصر . هذا شرط اساسي من شروط الازدهار الاقتصادى إذا لم يتوفر بقينا في حاجة الى جلب الاخصائيين من الخارج والى قبول شروطهم والى الاكتفاء بما يتبرعون علينا به من اعمال . وهل يخلص الاجنبى الى مشاريعنا كما يخلص له المواطن ؟ اذا لم نفز بتعليمنا توا ولم نعمر البقاع التى تشغر بانجلاء الاجانب والتى تنشئها بأهلها من المواطنين ، فاننا نبقى امة ضعيفة مدينة الى الغير ، مهددة بخسارة استقلالها بعد ما كافحت فى سبيله ما كافحت ، وبعدما كدحت فى سبيل تدعيمه ما كدحت .

اشترك في نشرتنا البريدية