١
يجـتاز الادب العربى اليوم اعسر ازماته منذ القرون العباسية الاولى . ذلك انه اليوم بين اثنتين : اما ان يحافظ على تقاليده بعينها في لغته وابوابه واما ان يجرؤ على قطع الصلة في بعض الميادين او معظمها فيجدد العبارة ويتقحم على ابواب جديدة من الادب لم يكن لاجدادنا بها معرفة .
اما ان يختار الاديب الحياة ويفضل الاضطلاع بمسؤوليته في العصر بان يقبل على الدنيا يعالج مشاكلها ويمارس صعابها ، فيركن الى لسان معاصريه ويدع مواطنتهم بالفصيح من كلام العصور الغابرة : الا ان ذلك يؤديه الى قلب الاوضاع وتجشم اللفظ الحى بما فيه من نقص وعدم التئام فينحرف عن الجادة الكلاسيكية ويغامر بنفسه .
واما ان يحافظ على اللغة التي دونها آباؤنا واجدادنا في المشرق والمغرب ، فيبقى بعيدا عن الحياة وعن الواقع لعجزه عن تأدية ثنايا الحياة اليومية وتفاصيلها واطوارها .
فلا يكون الادب وصف " المظاهر " الحسية الارضية وإلماما بما تغوص فيه الحياة البشرية من ظروف خاصة والوان طارئة ؛ بل ان وظيفة الادب الاساسية تكون اذ ذاك تجريد الواقع من ثوبه الحسى المبذول وتصعيده الى سماء المعانى وجفاف العبر . فيبطل الوصف وتاتى الاشارة محله وينتفى التصريح وتخلفه الكناية والاقتضاب . فيقصر الادب على هذا " التجريد " الفاحش الذي نشاهده اليوم في كتبنا ومجلاتنا وصحفنا، وتنقطع الصلة بين الادب والواقع وتنقطع الرابطة بين الادباء ومعاصريهم ، فيستحيل الادب صوتا من وراء القبور يتحدث بلغة لا يأنس اليها الا خاصة من المثقفين ولايفهمها الا قلة من الاحياء .
المشكلة اذن راجعة في اصلها الى اللغة من حيث استعمالها وفهم وظيفتها كاداة "تعبير" عن مقاصد الانسان .
فلغتنا العربية كانت في العصور الجاهلية لغة العامة لا لغة الخاصة . وكان كل عرابي يحسن فهمها ويجيد استعمالها بالطبع والسليقة (بقطع النظر هنا عن مختلف اللهجات) .
ولئن وجدت فروق بين لغة الكلام ولغة المعلقات فلا تتصل بادوات اللغة التي هي الألفاظ والصيغ وترابط الكلام بل بكيفية استعمال تلك الادوات . فالفرق يهم الكيف ولا يتخطاه الى صلب العبارة . الفرق جمالى منشؤه الذوق والقريحة الفردية لا تلك المصطلحات الجماعية التى يشترك فى فهمها واستعمالها جميع العرب . لذلك لم تكن العبارة الشعرية منفصلة كل الانفصال عن لغة الحديث والتخاطب .
فلما اتي الاسلام وشمل الاعاجم وضمهم الى الحضيرة العربية ، تغير كل شئ واختل ذلك التوازن الفطري ودخل اللغة انواع الرطانة واللحن . ذلك انه يمكن توحيد الشعوب من حيث العقيدة والمبادىء ، ويعسر ان تزرع فيهم سليقة لغوية هي من باب الغريرة والملكة -كما يقول ابن خلدون ولا تكتسب الا بطول الممارسة . وهذا التطور الذي طرأ على لغة العرب يتلخص في زوال "الاعراب" من لغة العامة . فقد نزع الناس الى تبسيط الكلام باسقاط تلك الاحوال المتغيرة التى تنتاب اواخر الكلمات حسب موقعها في الجملة ، وخرجوا بها عن التغاير والتقلب الى التماثل والاستقرار
الا ان الدين لا يستقيم الا اذا حافظ المسلمون على القرآن والتراث النبوى وادوا فيهما الامانة بالسهر على اللغة التى بها نزل الوحى . لذلك سيصبح اللسان العربى مقدسا ينزه عن التطور والفساد . فاذا هو لسان اهل الجنة واذا هو سرمدى لا يتطرق اليه زمان ولا يؤثر فيه تاريخ : حفظه العلماء من التلاشى والفساد فدونوا قواعده واسرفوا فى ضبطها وتدقيقها ؛ فلم تزل الشقة تزداد بينه وبين لغة العصر حتى اختصت به الكتب . ومن العوامل التي ايدت القطيعة ظهور لغة مكتوبة ، يعرفها الفقهاء ويدرسها الادباء وتحفظ من رطانة الكلام وهجين التوليد . فسارت اللغتان جنبا لجنب وامعنتا فى التباعد
في كيفية ارتباط الكلم ونسجه والتئامه . فلغة العلم بقيت متجمدة في قوالب وصيغ يعترف لها وحدها بالفصاحة والجودة ، بينما تتغير لغة الكلام وتنمو وتتطور حسب حاجيات العصر ونزوات النفوس . ثم ان المفردات اللغوية ستحيا حياة موزعة مشتتة : فلها في القواميس والدفاتر معان قارة ولها فى كلام الناس حياة صاخبة بها تتغير وتغتنى وتموت .
ولم تزل الفروق تشتد وتتفاقم حتى اصبحت قراءة اللغة المكتوبة عسيرة اذ تقتضى سابق فهم ودراية بقواعد تبلغ احيانا من التعقيد مبلغا بعيدا . والتكلم بها على وجهها اعسر اذ يجب ان يعلم المتكلم تصاريف الكلام وفواعده وشؤونه وذلك لا يتسنى الا لمن استفرغ جهده لدرسها والالمام بشواردها واسبابها .
واثر ذلك في الأدب عظيم جدا ، اذ القطيعة اللغوية ستؤول الى قطيعة فكرية . فلغة العلم ستكون لغة الدين والتفكير ، وادبها مرتبط بالماضى . فهى حينئذ بمعزل عن حياة العصر وواقع البشر ، وانتاجها ينحصر فى الاغراض الشريفة السامية ، وينبذ الواقع ويحتقر الهجنة . وليس للتيقن من ذلك كالنظر في فهارس عصورنا العباسية : فهى نعج بالتآليف الادبية في الميادين التقليدية اما الكتب التى عالجت مشاكل العصر فعددها ضليل جدا .
ذلك ان اللغة تفرض على مستعملها نمطا خاصا من التفكير بان تجعل ببن يديه مجموعة من الكلمات والصيغ لها تاريخ ولها معان ووجوه . فهى بمثابة الآلات بها يسبر الاديب عالمه .
فاذا لم تتجدد الآلة وبقيت بمعزل عن الحياة النابضة تقلص نفوذها على الواقع وضيقت عن التفكير في انبساطه وخنقته وجمدته . فالكلمات اذن مستودع التاريخ ، والصلة بين الحضارة والفكر ، يقيد بها الانسان ما حوله و "يعقله" عقلا . وليس ادل على هذا الترابط المكين بين اللغة والفكر الحي من الكلمة اليونانية Logos : فهى تتضمن معنى الكلام والعقل معا في اصلهما العلوي .
ولغتنا الفصحى اهملت مدة طويلة من الرمن ذلك التساير الجوهري بين اللغة في تطورها وسعيها الى العالم وحركة الفكر الدائبة الى تنسيق الواقع البشري والواقع الكونى في الحدس الوجودي (يتبع)

