اختار بعض الادباء الذين سبقوا الى دراسة اسلوب الجاحظ ان يستعين بأبرز خصال الرجل ، وان يتخذ تلك الخصلة مدخلا لموضوعه ، ومفتاحا لمغالقه . فكان حب الجاحظ للحياة هو ذلك المفتاح وأحسب ان هذا من التوفيق . نعم احب الجاحظ الحياة ، ولكن من من الاحياء لا يحب الحياة ؟ بل من من البشر غير الجاحظ لا يحب الحياة . فمن الناس من يحب الحياة المطمئنة الناعمة ، الراضية الوادعة ، ومن الناس من يحب حياة الجهد والمشقة ، منهم من يحب حياة الاستقرار والدعة ، ومنهم من يحب حياة المغامرة والمفاجأة ، منهم من يحب حياة الجد ومنها من يحب حياة اللهو . ذلك شأن الناس ، فكل فريق من هؤلاء واولئك قصر حبه على جانب من جوانب الحياة وأقبل منها على شئ واكتفى به . ولكن الجاحظ فى حبه للحياة على خلاف هؤلاء واولئك جميعا ، فقد احب الحياة كلها . واقبل اقبالا على المستباح له من كل جوانبها . ومن أجل هذا الحب المستغرق امتاز حب الجاحز للحياة عن حب غيره لها . وشىء آخر ينبغى ان نلحظه ؛ ذلك ان الناس في حبهم لما قد احبوا من جوانب الحياة كان يشغلهم ما يجدون من حظوظ فى هذا او فى ذاك من الجوانب . فصاحب الصيد يشغله من حياة الصيد ما يناله فى ملابسة تلك الحياة من غبطة الظفر بصيده . وقل مثل هذا فى من احب حياة الجاه او الشهرة او الثراء ولكن الجاحظ على خلاف كل هؤلاء واولئك ؛ اذ لم يشغله حظ من الحظوظ المباحة له . والمعروضة عليه . فقد اقبلت عليه النعم ، وتهيأ له الجاه ، وامكنته السيادة ، فانصرف عن كل هذا وأراد مخلصا ان يظل مشغولا بالحياة ذاتها . يشعله منهم التفكير فيها ، والاستبانة لشؤونها ، واستطلاع صورها من جليل وحقير ، وظاهر وباطن ، ومنكشف ومستور ، لم يشغل الجاحظ من الحياة فى حبه لها الا ان يفهم ويدرك اسرارها وما فى اضعاف حوادثها واشيائها الكوائن من الحقائق . وكانه كان لا يرضى . مطلقا ان يفوته شىء من الحياة ، من دون أن يتجه اليه ، وان يلاحظه
وان يشعر به ، وان يفكر فيه . سواء لديه فى هذا ما بدا تافها وما بدا عظيما . بل سواء لديه فى هذا ان يفكر فى الذرة ، وان يفكر فى الانسان ، من اجل هذا اتسع احساس الجاحظ بالحياة وعظم شعوره بها . ومن اجل هذا اتسع افق عقله وامتد امتدادا عجيبا نطاق تفكيره . على ان هذا المحب الذى منح الحياة كل عقله . وتفكيره لم يسكن فى حبه الى شىء الا ان يكون معبرا واصفا ان شئت ، ومنبها للعقول ومروضا لها على التفكير والاستبانة ان شئت ، ومضيفا الى ما قد انتهى اليه من علم الاوائل ما عساه يدركه ويكشف سره من الحقائق ان شئت . فقد قال الجاحظ نفسه . " وينبغى ان يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا . على انا قد وجدنا من العبرة اكثر مما وجدوا كما ان من بعدنا يجد من العبرة اكثر مما وجدنا ، فما ينتظر العالم باظهار ما عنده . وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه ؟ وقد امكن القول ، وصلح الدهر ، وخوى نجم التقيد ، وهبت ريح العلماء ، وكسد العى والجهل . وقامت سوق البيان والعلم " . ( الحيوان ج ١ ص ٨٦ ) . وقال فى موضع آخر من مقدمة كتاب الحيوان " إن من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومراشدهم ، ومضارهم ، ومنافعهم ، أن يحتمل ثقل مؤونتهم في تقويمهم ران يتوخى ارشادهم ، وان جهلوا فضل ما يسدى اليهم . فلن يصان العلم بمثل بذله ، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره "
وليس لنا ان نتساءل عن الوسيلة التى استعان بها الجاحظ على وصف الحياة وتصويرها وعلى تنبيه العقول وحثها على التفكير فى حقائقها . فلغة الجاحظ هى وسيلته السخية المطاوعة التى اجاد استخدامها وبلغ من التوفيق في ذلك ان كان فذا من افذاد الكتاب
ولبس من المثير للعجب ما يقال ههنا من ان الجاحظ احب الالفاظ بمثل ما قد احب الحياة ، ذلك لان اللفظة عنده ليست لفظة ، وانما هى رمز دقيق الدلالة على شىء دقيق المفهوم من الحياة . فلكل لفظة مدلولها . وهو لا يرضى ان يعبر عن شئ مما قد ادركه من الحياة الا ان يكون تعبيره معتمدا اللفظة المعينة الوثيقة الارتباط بمدلولها . خلوصا بتعبيره من الشبهة . وبعدا به من الالتباس . ودقة الجاحظ فى ضبط مدلول اللفظة قد تنتهى به الى مناقشة رجال اللغة فى انحاء الاستعمال . فمن ذلك قوله فى مراجعة الفصيح والاعجم . " والفصيح هو الانسان ، والاعجم كل ذى صوت لا يفهم ارادته الا من كان من جنسه . ولعمرى
انا لنفهم عن الفرس ، والحمار ، والكلب ، والسنور ، والبعير ، كثيرا من ارادته وحوائجه وقصوده ، كما تفهم ارادة الصبى فى مهده ، فنفهم ، وهو من جليل العلم ، أن بكاءه يدل على خلاف ما يدل عليه ضحكه " الحيوان ج ١ ص ٣٢
فتحديد رجال اللغة لمدلول " الاعجم " بدا للجاحظ أنه تحديد غير دقيق ، وانه يحتاج الى مراجعة . فلم يتردد في ابداء ما يلحظه بإزاء هذا التحديد من التوقف . ومن اجل هذه الدقة فى تحديد مدلول الالفاظ كانت الفاظه التى استعملها في مختلف انحاء تعابير ، من الضبط بحيث يستقيم ان تكون " معجما " فيه مادة لغوية شاملة ، فيه من الافعال والاسماء والنعوت ما يخص حياة الجد ، وفيه من ذلك ما يخص حياة اللهو ، فيه ما يخص حياة الانسان . وفيه ما يخص حياة الحيوان ، فيه ما يخص حياة المأكل والملبس والعمارة ، والاتجار ، وفيه ما يخص حياة الثقافة والعلم والفن . فيه من كل ذاك المألوف الغريب ، وفيه النادر الغريب . فمن يقرأ جزأ كاملا من كتاب الحيوان ، ولا اقول الكتاب كله . فسوف يطول عجبه من سعة لغة الجاحظ ، ومن دقته فى استعمال الالفاظ في مواقعها ومقاماتها الخاصة بها . اقرأ له هذه المقالة القصيرة القريبة المعنى ، التى ينبه فيها على " تفوق الاناث على الذكور في الاكل " فانك ستراه مدققا في تعبيره دقة تستأثر العجب . يقول " ودوام الاكل فى الاناث أعم منه فى الذكور ، وكذلك الحجر دون الفرس ، وكذلك الرمكة دون البرذون ، وكذلك النعجة دون الكبش ، وكذلك النساء في البيوت دون الرجال . وما أشك ان الرجل يأكل في المجلس الواحد ما لا تأكل المرأة ، ولكنها تستوفى ذلك المقدار ، وتربي عليه مقطعا غير منظوم ، وهن يناسبن الصبيان في هذا الوجه لان طبع الصبى سريع الهضم ، سريع الكلف ، قصير مدة الاكل ، قليل مقدار الطعم ، فللمرأة معاودتها ثم هى تبين بكثرة مقدار المأكول " ( الحيوان ج ١ ص ١١٢ ) أدى الجاحظ هذه المشاهدة اداء واضحا ويبدو ان الذي جعلها كذلك هو هذه الالفاظ المستعملة فى مقاماتها فلم يلجأ الى مجاز او استعارة . وانما هى اللفظة الدقيقة تنتخب من العارف بها لتدل على المدلول الدقيق لدى العارف به .
وما دمنا بصدد بحث " اللفظة المستجادة " عند الجاحظ فلم لا نرجع اليه ؟ وما يمنع ان نسمع منه بيانه فى تفضيل اللفظة ، واعتمادها دون غيرها في التآدية
والبيان بقول الجاحظ : " وتعطى المعنى حقه من اللفظ ، كما تعطى اللفظ حقه من المعنى ، وتحب المعنى اذا كان حيا يلوح ، وظاهرا يصيح وتبغضه مستهلكا بالتعقيد ، ومستورا بالتغريب ، وترغم ان شر الالفاظ ما غرق المعانى واخفاها وسترها وعماها . وان راقت سمع الغمر واستمالت قلب الريض .
أعجب الالفاظ عندك ما رق ، وعذب ، وخف ، وسهل ، وكان موقوفا على معناه ، ومقصورا عليه ، دون سواه ، لا فاضل ولا مقصر ، ولا مشترك ، ولا مستغلق . قد جمع خصال البلاغة ، واستوفى خلال المعرفة ، فاذا كان الكلام على هذه الصفة ، وألف على هذه الشريطة ، لم يكن اللفظ اسرع الى السمع من المعنى الى القلب ، وصار السامع كالقائل ، والمتعلم كالمعلم ، وخفت المؤونة ، واستغنى الفكر ، وماتت الشبهة ، وظهرت الحجة ، واستبدلوا بالخلاف وفاقا ، وبالمجادلة موادعة ، وتهنؤوا بالعلم ، وتشفوا ببرد اليقين ، واطمأنوا بثلج الصدور ، وبان المنصف من المعاند ، وتميز الناقص من الوافر ، وذل المخطل ، وعز المحصل ، وبدت عورة الباطل ، وظهرت براءة الحق " ( رسالة التربيع والتدوير ص ٩٢ ) خاصيات اللفظة المستجادة عند الجاحظ يوضحها قوله :
" أعجب الالفاظ ما رق ، وعذب ، وخف ، وسهل . وكان موقوفا على معناه ، ومقصورا عليه دون سواه .
وشر الالفاظ ما غرق المعانى واخفاها ، وسترها وعماها ، وان راقت سمع الغمر ، واستمالت قلب الريض . " فموسيقى اللفظ تلك التى بها يرق ، ويعذب ، ويخف ، ويسهل ثم شدة ارتباط اللفظ بمدلوله هما الخصلتان اللتان تلزمان الجاحظ الزاما ان يستعمل ذلك اللفظ دون سواه . على ان الجاحظ لايلبث ان يعود فيؤكد اختيار اللفظ الموقوف على معناه والمقترن بمدلوله حتى وان لم يكن ذا موسيقى ناغمة او جرس مستعذب . فشأن الموسيقى وحدها ان تروق سمع الغمر ، وان تستميل قلب الريض
من اجل هذا كان من ابرز مميزات اسلوبه استعمال اللفظ ليدل على ما وضع للدلالة عليه . فهو اذن يتجنب المجاز ، ويبتعد عن الاستعارة . ويكاد لا يلجأ إلى نقل اللفظ عن دلالته الوضعية الى دلالته المجازية . الا اذا تأكد عنده ان ذلك او فى تعبيرا عن المقصود . فاذا اراد ان يعبر عن " اسراع الجارية فى
رجوعها الى بيت سيدتها " فهو لا يقول " : اخذت خفها واسرعت راجعة " ولكنه يقول " : اخذت خفها وطارت " وما اشك ان الاستعارة ههنا ادق واوفى دلالة على المقصود ، وأضبط فى تصوير الموقف كله . تميزت عند الجاحظ الحركات فتميزت عنده الافعال الدالة على تلك الحركات ، وتميزت عنده المسميات فتميزت عنده الاسماء الدالة على تلك المسميات . وتميزت عنده المواقف فتميزت عنده التراكيب الدالة على تلك المواقف ، وهكذا ابتعد فكره عن الشبهة ، واختلاط المعاني . والتباس الصور . واراد جادا ان يكون الناس على هذا النحو في تفكيرهم وعقولهم من البعد عن الشبهة واختلاط المعانى . والتباس الصور . فكان اسلوبه هو الاسلوب الذى يبدو فيه المعنى حيا يلوح ، وظاهرا يصيح . وكان اسلوبه هو الاسلوب الواقعي الذي يشغلك بصوره الحسية المستمدة من الواقع القريب بما فيه من ذوات واعراض . رغب الجاحظ فى ان تكون معانيه واضحة حية تلوح وظاهرة تصبح . وتمادت به هذه الرغبة مؤكدة بما يقويها في نفسه من العوامل المختلفة ، فاذا هي تدفعه الى ذلك النوع من الادب العارى ، " الكشيف " ومن هنا قل فى اسلوب الجاحظ وجود الكناية يكنى بها عن شىء يستقبح التصريح به . كما قل وجود الرمز والاشارات الملوحة الى ما لا يستسيغ الذوق الاخلاقي الاقتراب منه ، ولئن قال الجاحظ موضحا قاعدته التى ظل يراوض نفسه على التقيد بها وهى انه " لكل ضرب من الحديث ضرب من الالفاظ ، ولكل نوع من المعاني نوع من الاسماء ، فالسخيف للسخيف ، والخفيف للخفيف ، والجزل للجزل ، والافصاح فى موضع الافصاح ، والكناية في موضع الكناية ، والاسترسال في موضع الاسترسال واذا كان موضوع الحديث على انه مضحك ومله ، وداخل في باب المزاح والطيب فاستعملت فيه الاعراب ، انقلب عن جهته ، وان كان فى لفظه سخف وابدلت السخافة بالجزالة صار الحديث الذى وضع على ان يسر النفوس يكربها ، ويأخذ بأكظامها " ( الحيوان ح ٣ ص ٣٩ ) فان شيئا آخر من نفسه كان يدعوه الى ان نقول : وبعض الناس اذا انتهى الى ذكر ارتدع واظهر التقزز واستعمل باب الورع . وأكثر من تجده كذلك . فانما هو رجل ليس معه من العفاق والكرم والنيل والوقار الا بقدر هذا الشكل من التصنع . ولم يكشف ، قط ، صاحب رياء ونفاق الا عن لؤم مستفحل ، ونذالة متمكة " ( . الحيوان ج ٣ ص ٤٠ )
واحسب ان الجاحظ كان يأبى متكرها ان يكون معدودا من هؤلاء المتورعين المرائين . فليخسر تطبيق قاعدته بسبيل ان يكون صحيح النفس سليم الباطن وليكن في ادبه صريحا على ان يكون شاعرا في قرارة نفسه بنبل باطنه . وليكن كشيف الاسلوب على ان يكون نقى الغيب من أدواء النذالة المتمكنة.
الى جانب هذه الواقعية في اسلوب الجاحظ ، هنالك خاصية اخرى لعلها ابرز ظهورا من غيرها . فسلوب الجاحظ اسلوب يستثير الحواس لتلاحظ ، ويستثير العقل ليستيقظ ويعى ، ويستثير التفكير . وقل جدا ان يعرض عليك الجاحظ قضية من دون ان يديرها امامك أو ان يدور بك امامها وهيهات ان يشفق عليك ، او ان يشفق على نفسه من العباء او السآمة
لقد اعد العدة ليدفع عنك وعن نفسه العياء والسآمة ، فليمض متقصيا جوانب قضيته ، وليتم طوافه بموضوعه ، ولينظر اليه من قريب ومن بعيد . وليذهب فى تفصيله ، وتحليله ، ما شاء . وليحدثك عن موضوعه بما يعرفه عنه العامي ، وبما يعرفه الخاصى من احواله . واوصافه واحكامه ، وليسر متماديا بهذه السبيل راويا ومستثبتا ، وشاكا ، ومتبينا ، ومناظرا ، ومجادلا ، ومحاججا ، وقد لا يكون مجادلا غير نفسه ، او محاججا سوى عقله المولع بالمناظرة والمجادلة . عقل الجاحظ اعجوبة في إقباله على الاستطلاع ، وافتتانه بالبحث والتنقيب ، وشغفه بالمعرفة وصبره على ما في طلبها الجدي من كد ومؤونة . وقد عرف من ذاته كل هذا الامتيار العقلي . وتحدث به فى كتابه الحيوان فقال فى تمهيده لباب " العصافير " . . " وهذ الباب ضمنه على كتابه ، من هو اكثر منى رواية اضعافا ، وأجود منى حفظا بعيدا ، وكان اوسع منى علما واتم عزما ، والطف نظرا ، واصدق حسا ، واغوص على العبد الغامض ، وافهم للعويص الممتنع ، واكثر خاطرا ، واصح قريحة ، وأقل سآمة ، واتم عناية ، واحسن عادة ، مع افراط الشهوة ، وفراغ البال ، وبعد الامل ، لكان قد ادعى معضلة ، وضمن أمرا معجزا ؛ لان الانسان ، وان اضيف الى الكمال ، وعرف بالبراعة ، وغمر العلماء ، فانه لا يكمل ان يحيط علمه بكل ما فى جناح بعوضة ايام الدنيا ، ولو استمد بقوة كل نظار حكيم ، واستعار حفظ كل بحاث واع . وكل نقاب في البلاد ، ودراسة للكتب " ( الحيوان ج ٥ ص ٢٠٠ ) هذه الخصال العقلية من كثرة الرواية ، وجودة الحفظ ، وسعة العلم . ولطف النظر ، وصدق
الحس ، ومن الغوص على البعيد الغامض . وفهم العويص الممتنع ، ومن كثرة الخاطر ، وصحة القريحة ، وقلة السآمة ، وتمام العناية . وحسن العادة ، وافراط الرغبة وفراغ البال ، وبعد الامل . هذه الخصال يضاف اليها جميعها خصلة التحرر من سيطرة كل عصبية دينية او قومية او طائفية . فان الجاحظ لم يعرف من نفسه بل من عقله هذا العقل العجيب انه يرضى مطلقا ان يكون منقادا الى شىء من العصبيات والاميال والاهواء . وانما هو العقل الحر وحكمته النافذة فى كل شأن . وذاك هو طابع اسلوب الجاحظ . وقد قال متحدثا عن كتابه الحيوان وكانه يتحدث عن اسلوبه . " وليس هذا الكتاب يرحمك الله - في ايجاب الوعد والوعيد ، فيعترض عليه المرجئ . ولا هو فى تفضيل على فينصب له العثمانى ، ولا هو في تصويب الحكمين فيتسخطه الخارجى ..... ولا هو فى تفضيل البصرة على الكوفة ، ومكة على المدينة ، والشام على الجزيرة ، ولا فى تفضيل العجم على العرب ، وعدنان على قحطان . ولا هو فى تفضيل مالك على أبى حنيفة ، ولا هو في تفضيل امرئ القيس على النابغة . ولا هو فى تفضيل ابن سريج على الغريض ، ولافي تفضيل سبويه على الكسائى . . فان لكل صنف من هذه الاصناف شيعة ، ولكل رجل من هؤلاء الرجال جندا وعددا يخاصمون عنهم ، وسفهاؤم المتسرعون منهم كثير . وعلماؤهم قليل .
لا تنكر هذا حفظك الله - انا رأيت رجلين بالبصرة على باب مويس بن عمران ، تنازعا فى العنب النيروزى والرازقى ، فجرى بينهما اللعن حتى تواثبا ، فقطع الكوفى اصبع البصرى ، وفقأ البصرى عين الكوفي . ثم لم البث الا يسيرا حتى رأيتهما متصافيين متنادمين ، لم يقعا ، قط ، على مقدار ما يغضب من مقدار ما يرضى . فكيف يقعان على مقادير طبقات الغضب والرضى ؟ .
وقد ترك هذا الجمهور الاكبر ، والسواد الاعظم التوقف عند الشبهة ، والتثبت عند الحكومة جانبا ، وأضربوا عنه صفحا . فليس الا " نعم " او " لا " الا ان قولهم " لا " موصول منهم بالغضب ، وقولهم " نعم " موصول منهم بالرضا . وقد عزلت " الحرية " جانبا . ومات ذكر الحلال والحرام ، ورفض ذكر القسيح والحسن " ( ج ص ٨ الحيوان ) جمع عقل الجاحظ الى كل تلك الخصال التي اضافها الى نفسه ، هذه الحرية التى ظفر بها حين اسكت منه كل هوى وكل
ميل وكل عصبية . فلم يكن مطلقا مغلوب العقل بهوى او ميل او عصيبة . فلا هو لمالك يميل ، ولا هو لامرئ القيس يصبو ، ولا هو لابن سريج ينزع ولا هو لسبويه يتعصب ، ولا هو للقحطانية يوالى . ولا هو للفرس يواصل ، وانما شأنه في كل هذا وغيره ان يعود الى عقلية المتحرر والى حكومته النافذة . . ولعمرى ان العيون لتخطئ . وان الحواس لتكذب ، وما الحكم القاطع الا للذهن ، وما الاستبانة الصحيحة الا للعقل . اذ كان زماما على الاعضاء وعيارا على الحواس " ( رسالة التربيع والتدوير ص ٨٨ ) فاذا بلغ عقل الجاحظ حق الاستبانة فى اى موضوع يعالجه ، فليس عليه ان يكون بعد ذلك فى هذا الصف او فى ذاك من صفوف المتعصبين ، بل ليس عليه وقد ظفر بالحقيقة التى ينشدها ان يكون خارجا جملة عن كل صفوف المتعصبين واقفا بمفرده بعيدا عنهم او قريبا منهم ذاك شأن الجاحظ فى مذهبه لا ينقاد الا لحكمة عقلية وسداد تفكيره . فاذا أنشأ يعبر فليس الا ان يذهب مذهبه ، فى مخاطبة العقول ، واستثارة التفكير ، ومن اجل هذا امتاز اسلوبه بالوضوح . وهل تجد اوضح من الجاحظ حين يصف او يصور ، او يناقش او يجادل . انى ارغب ان تقرأ له هذه المقالة فى وصف تعاون العصافير . يقول : " وليس في الارض طائر ، ولا سبع ، ولا بهيمة ، احنى على ولد ، ولا اشد به شغفا ، وعليه اشفاقا من العصافير . فاذا اصيبت بأولادها او خافت عليها العطب ، فليس بين شئ من الاجناس من المساعدة مثل الذى العصافير ، لان العصفور يرى الحية قد اقبلت نحو جسره وعشه ووكره " لتأكل بيضه او فراخه ، فيصيح ويرنق . فلا يسمع صوته عصفور الا اقبل اليه . وصنع مثل صنيعه ، بتحرق ولوعة وقلق واستغاثة وصراخ . وربما افلت الفرخ وسقط الى الارض ، وقد ذهبت الحية فيجتمعن عليه ، اذا كان قد نبت ريشه ادنى نبات ، فلا يزلن يهيجنه ويطرن حوله لعلمها ان ذلك يحدث للفرخ قوة على النهوض ، فاذا نهض ، طرن حواليه ودونه حتى يحتثثنه بذلك العمل " ( الحيوان ج ٥ ص ٢١٠ ) ليس الوضوح فقط في اسلوب الجاحظ هو ما نتج عن تفكيره الواضح . وعن. رجوعه ابدا في استبانة موضوعه الذى يعالج بحثه الى عقله . وهناليك صفة اخرى بل صفات اخرى نتجت عن تفكير الجاحظ وعن رجوعه الى حكومة عقله المصحح تلك هى القصد ابدا الى التحليل والتفصيل ، والى تقريب النظائر ، والتوقيف على مواطن الاختلاف والتشابه ، بين الاشياء والكوائن التى يبحثها . فانظره وقد اراد
ان يبرز منزلة العقل كيف لجأ إلى التفصيل اذ كان يرى ذلك اقرب سبيل يقول : " ووجدنا كون العالم بما فيه حكمة ، ووجدنا الحكمة على ضربين ، شىء جعل حكمة وهو لا يعقل الحكمة ولا عاقبة الحكمة ، وشئ جعل حكمة ، وهو يعقل الحكمة وعاقبة الحكمة ، فاستوى بذلك الشئ العاقل وغير العاقل فى جهة الدلالة على انه حكمة ، واختلفا من جهة ان احدهما دليل لا يستدل ، والآخر دليل يستدل فكل مستدل دليل ، وليس كل دليل مستدلا . فشارك كل الحيوان سوى الانسان ، جميع الجماد فى الدلالة ، وفى عدم الاستدلال ، واجمع للانسان ان كان دليلا مستدلا " ( الحيوان ج ١ ص ٣٣ ) . واحسب ان المضى فى عرض الامثلة المستخرجة من اضعاف فصول كتب الجاحظ وخاصة كتاب الحيوان ليس مما يمكن اشتراطه فى هذا المقال . على ان هنالك ناحية اخرى من اسلوب الجاحظ لم نتجه اليها حتى الآن . تلك هى ناحية صيغ الجاحظ التأليفية . فعلى اى نمط من انماط التأليف والنظم كان صوغ جمله ؟ يدرك الجاحظ ما تفعليه السآمة بالقارىء ، وكيف يتضاءل بفعلها ، اذا تغشت قلبه نشاطة ، وبذوى ضياء فكره ، وبنحل عزمه ، ويتدارك الفتور جهده . فكان يأبى متكرها ان تأخذ سوابقها شيئا من قارىء كتبه . او ان تلم به ، ومن اجل هذا اخذ بطاردها ، وبعمل جادا على اقصائها عنه . ولم يطارد الجاحظ سآمة القارئ بوسيلة التنويع ، واختلاف ما يشغله به من جد ، بل اضاف الى تلك وسيلة غيرها انس من نفسه الاقتدار على استعمالها والاستعانة بها في باب الترويح وحمام القارىء . وتلك هي الاضاحيك والمراح والهزل الذي خلط به الجد فقارىء كتب الجاحظ ابدا مستفيد ومستظرف ، اذ متى خرج ) من آي القرآن صار الى الاثر . ومتى خرج من اثر صار الى خبر ، ثم يخرج من الخبر الى شعر ومن الشعر الى النوادر ، ومن النوادر الى حكم عقلية ، ومقاييس شداد ، ثم لا يترك هذا الباب ، ولعله ان يكون اثقل والملال اليه اسرع حتى يفضى به الى مزاح وفكاهة ، والى سخف وخرافة ، ولست اراه سخفا . اذ كنت اثما استعملت سيرة الحكماء وآداب العلماء " ( مقدمة كتاب الحيوان ج ١ )
وكما لجأ الجاحظ الى هذا التنويع في ما يشغل به فكر قارئه حتى لا تجد السآمة مدخلا اليه . فكذلك لجأ الى تنويع صيغه ، وانماط نظمه ، اذ كان يدرك ادراكا ما يتولد عن موسيقى الجمل ، واجراس العبارات من انغام لها تأثيرها في
تنشيط القارئ ادا ما تخالفت فى اصدائها وايقاعاتها . فهو الذى يقول لنا : " على اني عزمت والله الموفق انى اوشح هذا الكتاب وافصل ابوابه ، بنوادر من ضروب الشعر ، وضروب الاحاديث ، ليخرج قارىء هذا الكتاب من باب الى باب ، ومن شكل الى شكل . فانى رأيت الاسماع تمل الاصوات المطربة والاغانى الحسنة ، والاوتار الفصيحة اذا طال ذلك عليها ، وما ذلك الا فى طريق الراحة التى اذا طالت اورثت الغفلة ، واذا كانت الاوائل قد سارت فى صغار الكتب هذه السيرة كان هذا التدبير لما طال وكثر اصلح . وما غايتنا من ذلك كله الا ان تستفيدوا خيرا " ( ج ٣ - ص ٧ - الحيوان ) وفى باب التنويع هذا تبدو براعة الجاحظ ويتجلى ذوقه واقتداره على النسج البديع ، ففي صبغ الجاحظ نجد الازدواج ، والسجع ، والترديد ، والايجاز ، والاطناب نجد كل هذا من ضروب الصيغ موضوعا بمواضعه المحكمة ، موقوفا به عند حد الاعتدال لقد كان الجاحظ ناهجا في تأليفه نهج التنميق ، وكان مع ذلك من البغض لديه ان يذهب في ذلك مذهب الاستكراه والتعسف ، ومع هذا فقد اشفق ان يجد القارىء خللا فتحمل الاعتذار له سلفا قائلا : " فان وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ ، ومن سوء تأليف ، ومن تقطيع نظام ، ومن وقوع الشئ فى غير موضعه ، فلا تنكر ، بعد ان صورت عندك حالى التى ابتدأت عليها كتابي . ولولا ما ارجو من عون الله على اتمامه ، اذ كنت لم التمس به الا افهامك مواقع الحجج لله وتصاريف تدبيره ، والذى اودع اصناف خلقه من اصناف حكمته ، لما تعرضت لهذا المكروه ، فان نظرت في هذا الكتاب . فانظر فيه نظر من يلتمس لصاحبه المخارج ، ولا تذهب مذهب التعنت ، ومذهب من اذا رأى خبرا كتمه . واذا رأى شرا اذاعه " ( ج ٤ ص ٢٠٩ )

