أخي الأستاذ الزيات: إليك أقدم تحية الشوق، ثم أذكر أني أكتب هذه الكلمة، وهي مقدمة القصيدة الآتية، بعد المحادثة التليفونية التي دارت بيني وبينك منذ لحظات في صباح هذا اليوم، وهو يوم عرفات، أعاده الله عليّ وعليك بخير وعافية!
وقد اتفقنا على نشر هذه القصيدة بالرسالة في العدد المقبل، لأستريح منها وتستريح مني، فلو بقيت بين يدي أياماً أُخر لقتلتني، لأنها تقهرني على الغناء بعد نصف الليل، وهو أصلح الأوقات للغناء، ولكنه يكدَّر بمحادثات تليفونية مزعجة،
فقد يحلو لكل سامر أن يسأل عني بعد نصف الليل، وكذلك الحال مع السامرات، فهنّ يزعجنني بلا ترفق ولا إشفاق أنا اعرف أن قرائي يحبونني، لأن أدبي يقوم على الصدق،
ولكني أرجوهم أن يترفقوا فلا يسألوا عني بعد نصف الليل عفا الله وصفح عن أولئك الهاتفات بعد نصف الليل! أترك هذا وأحدثك عن تاريخ هذه القصيدة، فلها تاريخ وتواريخ
هذه القصيدة من وحي روح غالية، هي الروح التي تلقيت عنها الدرس الممتع المشبع في شرح نظرية وحدة الوجود ما أكرم دمعي وما أسخاه حين أسمع صوتها الجميل! أترك هذا أيضاً وأحدثك عن التاريخ الجديد لهذا القصيد: رأى صديقٌ عزيز أن يغنيه الأستاذ محمد عبد الوهاب،
فقابلت صديقي عبد الوهاب في مكتبه بشارع توفيق من يصدِّق أن هذا الباكي الشاكي رجل أعمال؟! قدمت إليه القصيدة ومعنا الأستاذ عبد الحميد عبد الحق، الذي وضع قانون اللغة العربية، فنظر في القصيدة لحظات، ثم اقترح تعديلات، فما تلك التعديلات؟ إنه اقترح أن أنوّع الأوزان ليلعب كما ألعب (وذلك نص كلامه بالحرف)
وكان الوجد في ثورته العاتية، فرأيت أن أنوّع الأوزان، ليلعب كما ألعب، وما كنت يوماً من اللاعبين! ثم خطر في البال أن أغني قصيدتي في محطة الإذاعة بصوتي، وهو في رخامة صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب، ولكنَّ أبنائي اعترضوا، فما يجوز عندهم أن يكون أبوهم من المغنين،
وهو يملك أكبر مجموعة من الألقاب العلمية قلت لأبنائي: ألا تسمعونني أغني من حين إلى حين بقوة تنقل صوتي من الدور الثاني إلى أسماعكم بالدور الأول؟ قالوا: نعم
قلت: أنا أغني أشعاري حين يجود بها الوحي، فما الذي يمنع من تقديم صورة ناطقة يعرف بها الجمهور كيف أنظم أشعاري؟ قالوا: وأين الملحّن؟ قلت: أنا الملحّن، فالشعر شعري، وأنا أعرف كيف ألحنه بالصورة التي تموجت بها خفقات قلبي
لم يكن من السهل أن أقنع أبنائي، وهل أقنعت نفسي حتى أقنع أبنائي؟ إن جاز أن أغني هذه القصيدة في محطة الإذاعة، فيجب أن أكون في حال تشابه حالي في الأوقات التي نظمت فيها هذه القصيدة
وهذا غير ممكن، ففي المذيعين فريقٌ من تلاميذي، ولم يرني أحدٌ من تلاميذي في لحظة بكاء نظمت هذه القصيدة وأنا أبكي من الفرح، وأصرخ من الفرح، فما أنعم الله على شاعر بمثل ما أنعم علي بإقبال تلك الروح من حق الحياة أن تصنع بأبنائها ما تريد، فتسعدهم أو تشقيهم كما تريد، ولكنني فوق الحياة، لأنني العاشق المسيطر على تلك الروح
ثم ماذا؟ ثم أخبر صديقي صاحب (الرسالة) باعتراض الصديق محمد عبد الوهاب، إنه يقترح ترك المكان والزمان، فلا أقول (مصر الجديدة) ، ولا أقول (يوم الثلاثاء) أنا أوافق على اقتراح هذا الصديق العزيز، بشريطة واحدة هي أن يسمح بتزوير العواطف، والغرام الذي أوحى هذه القصيدة
مكانه في مصر الجديدة، وزمانه في أيام الثلاثاء إن قراء (الرسالة) يذكرون أنني أول كاتب وجه الأنظار إلى الفتن التي تنثر نثراً فنياً في شارع فؤاد سأغني بجمال بلادي، سأغني بجمالها إلى آخر الزمان أما بعد، فقد اتفقت مع الأستاذ الزيات على إيداع هذه
القصيدة (بمطبعة الرسالة) في يوم الأربعاء، لأستريح منها وتستريح مني، فما لي قدرة على التفكير في مصر الجديدة أيام الثلاثاء، ولا أنا قادر على تصور غرامي بمصر الجديدة أيام الثلاثاء، ولا أنا مستطيع نحر قلبي في يوم عرفات أنا بخير وعافية، فلي مع هذه الروح في ليلة عيد القمر وميعاد وسأغني بحضرتها القصيدة الآتية فأقول:
يا ليل، يا ليلى، يا ليل
يا ليل، يا ليلى، يا ليل
يا ليل، يا ليلى، يا ليل
وهنا أذكر أن الأستاذ عبد الوهاب اعترض على هذه الزفرة المحرقة:
يا ليل، يا ليلى، يا ليل
وقال: سأترك هذه الكلمات عند الغناء فقلت: ولكني كنت أهتف بهذه الكلمات عند كل فاصلة من فواصل هذا القصيد، فتأمل لحظة ثم قال: هي كلمات غير مفهومة، ولكنها (شمهورش) ، وللجن وحيٌ يضلل الشعراء! وأردت أن آخذ القصيدة لأردها إليه في حدود ما اقترح، ولكنه قال: اترك لي هذه النسخة، وعدّل النسخة التي عندك، فستكون لي معاودات أصل فيها إلى سريرة قلبك في اللحظات التي نظمت فيها ذلك القصيد
تاريخ لطيف
الصفحات الماضية كتبت بالأمس، وهو يوم عرفات، والصفحات الآتية أكتبها في مساء هذا اليوم، وهو يوم العيد، فما الذي وقع في صباح هذا اليوم؟ مضيت إلى قصر جلالة الملك لأقيد اسمي في دفتر التشريفات، وتلك فرصة ذهبية أرى فيها أصدقاء لا يتسع الوقت للسؤال عنهم في يوم العيد
وراعني أن أرى رجلاً يجذب يدي بعنف وهو يقول: قيد اسمك وتعال معي! والتفتُّ فإذا هو الأستاذ وهيب دوس الذي تحدثت عنه في مجلة (الرسالة) مرات، ففرحت بلقائه وصحبته إلى حيث يريد، وشاء كرمه أن ينقلني بسيارته إلى سنتريس، فكانت النتيجة أن يصحبني إلى حيث أريد
وفي الطريق سألني عما يشغلني من الشؤون الأدبية فقلت: إني مشغول بنظم قصيدة فصيحة على وزن الموَّال
- وما الموجب لذلك؟ - الموجب واضح في نفسي، وهو أن وزن الموال وزنٌ قديم عرفه المصريون قبل الإسلام بأزمان وأزمان، ولهذا يغنُّونه بسهولة عجيبة، تشبه السهولة التي يغني بها أهل الشام والعراق قصائد العرب القدماء
- وإذن؟ - وإذن يجب أن ننظم الأغاني باللغة الفصيحة نظما تأنس إليه الموسيقى المصرية، فنجمع بين المزيتين، ونتقي لذعات الأستاذ سليمان الصفواني
- ومن هو الصفواني؟ - هو صديق عراقي عيّرني في مجلة بغدادية بأننا ندخل (لم) على الفعل الماضي فنقول: (في البحر لم فتكم في البر فتوني)
وقد أجبت بأن (لم) تجعل المضارع ماضياً، فدخولها على الماضي توكيد، والجواب صحيح، ولكن ما الذي كان يمنع من أن يقول صديقنا عبد الوهاب: (في البحر ما فتكم. . .)
- وما خصائص هذه القصيدة؟ - لها خصيصة أساسية، وهي التحرر من مراعاة ما يسمى في علم العروض بالإبطاء، فاللفظة تقبل بكل ترحيب حين يوجبها المعنى، فلن ألتزم ما التزمته في قصيدتي عن الإسكندرية وقصيدتي عن مصر الجديدة، وقصيدتي عن بغداد، فكلمة (الساقي) كررتها عامداً متعمداً لأنها مطلوبة في القطعة الآتية: شربتُ دمعي فلا كأسٌ ولا ساقي
مضى نديمي وخلاّني لأشواقي
يا ساقِيَ الراح هات الدمعَ يا ساقي
دمعي هو الراح فاسقِنيه يا ساقي
يا ساقيَ الدمع بعد الراح يا ساقي
دمعي دمٌ فترفَّق أيها الساقي
- إذن نرجع - إلى أين؟ - إلى القاهرة، وإلى دار أم كلثوم، فهي القادرة على غناء هذا القصيد - نروح إسكندرية! - ماذا تقول؟ - كل طريق على غير هُدىً هو (نروح إسكندرية) كالذي وقع في فلم (يحيا الحب)
- لا أفهم ما تقول - أنا أهديت هذه القصيدة إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب - وأنا سأهديها إلى الآنسة أم كلثوم بإذنٍ صريح من الأستاذ محمد عبد الوهاب
رجعنا إلى القاهرة، فما لقينا أم كلثوم ولا عبد الوهاب، فقد صمت التليفون هنا وهناك، وأراد الأستاذ أن يدعوني للغداء فاعتذرت، برغم ما سمعت عن فخامة المآدب التي يقيمها الأستاذ وهيب دوس
أنا لا أشكو إلا من جوع روحي هل أنشر في هذا العدد من الرسالة (غرام يوم الثلاثاء) ؟ الموعد في العدد المقبل، وأنه لقريب

