الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

مصر تكرم صاحب السد

Share

فى مساء الاثنين : ١٣ مايو ١٩٥٧ اقام " معهد الدكتور ابراهيم ناجى الثقافي " حفل تكريم للروائي التونسي الاستاذ محمود المسعدى وقد شاركت الاذاعة المصرية فى تسجيل الندوة وكان بين الحاضرين الاستاذ : مصطفى عامر : رئيس الجمعية الجغرافية المصرية واستاذ الآثار بجامعة القاهرة ، والاستاذ عثمان الكعاك : حافظ المكتبة القومية بتونس ، والدكتور عبد الرحمان ايوب : استاذ علم اللغة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة ، والاستاذ فاروق خورشيد : عضو جمعية الادباء واحد الموجهين للقسم الثقافى بالاذاعة المصرية المدعو : " بالبرنامج الثاني " ، وزميلته الاساتذة سميرة الكيلانى المذيعة المعروفة وزوج الكاتب المصرى الاستاذ محمود امين العالم ونخبة اخرى من المثقفين والطلبة الجامعيين ....

دعوة الى " التحاضن " الفكري

وقد افتتح الندوة الاستاذ محمد ناجي مدير المعهد فنوه بضرورة دعم العلاقات الثقافية والبشرية بين البلاد العربية . وشكا عدم اكتمالها بين مصر وشمال افريقيا بالخصوص ثم نقل القضية الى الصعيد الانسانى فقال ما مؤداه :

كثيرا ما صلح الانسان " سدا " لنفسه ! بوعى او بدون وعى . فنحن عندما نستسلم الى ذلك النوع المقيت من الانفصام الداخلى بيننا وبين الاخرين . ونستلذ الخمول والانغلاق فى عالم يتطلب الصحو والانفساح انما نتخلى عن اخطر مسؤولياتنا ازاء عصرنا وازاء الحياة ذاتها فى النهاية . . ولقد استطاع الرسام التونسي " حاتم المكي " ان ينبهنا بحدة درامائية الى مثل هذه الحالة الفاجعة في النفس المتجمدة عند ما رسم بريشته الخالقة تلك الصورة الرمزية المثبتة على غلاف المسرحية التى نحن بصددها . والتى تمثل انسانا منتصبا في قلب التيار . . في معمعان عالمنا الزاخر ، انتصاب " الاهرامات ! " . . انه كتلة من الصخر ، كتلة من الموات . . لقد تعطلت كل وظائفه الحسية والعقلية وحتى البيولوجية ، بل تحجرت واصبحت لا تملك ذرة من مقومات الفعالية والمسؤولية ، وان كانت

تواجه الاحياء فى صفاقة الجلمود " الجلمود الآدمى ! " الذى يتضمن في تصلبه وانبتاته معنى التعويق للتدفع الحيوى الغامر ، ويتطلب منا النضال ضده ملء الانعتاق . .

ثم اضاف بقوله : انثى ادعوكم الى الامتلاء الداخلي " بحضور " صاحب " السد " ولن تعوقنا حواجز الزمان والمكان عن ان نفعل ذلك ، لاننا لا نزال نملك ان نعيش حضوره المعنوى معنا . . وانا املك ان اطمئنكم الى القيمة الكامنة في مضمون هذا " التحاضن " الفكرى فالانسان كما قلت يمكن ان يصبح فى ذاته حاجزا لنفسه وسدا بازاء الآخرين ومن ثم يفقد ذاته ويفقد الاخرين معها في اللحظة ذاتها . . ولن يجدها ثانية الا فى ذلك الامتلاء العميق بالاخر ، امتلاء الانسان بالانسان ، ذلك الذى يصهر اعماقنا ويبلورها ، فيحيلها بعد امحال واقفار ، الى تدفق واخصاب . . ويمكن للمحبة ان تورق وتثمر في الوجدان ويجعل صلاة بطاقات الوجود الحى اعمق وارحب . . وهاهنا فحسب يمثل انعتاقنا الحقيقى . لانه لا جدال فى ان تحرر الانسان متوقف على مدى حميمية ارتباطه الوجودي بالغير ومتضمن فيه .

تعليق وشارك الدكتور عبد الحميد يونس استاذ النقد بجامعة القاهرة في الندوة فقال ما نصه :

" ظللت الاعوام ألح على ان الاصل فى اللغة هو التلفظ والجهر ، وليس الكتابة او التدوين . وكنت اوثر فى هذه الندوة ان اتحدث بشخصى عن كتاب " السد " وما أظن ان الاعتذار يشفع لى فى ان استعيض عن الجهر بالكتابة والتدوين . ( ١ ) يردهما الى الحياة غيري ، ولكن ماذنبى والحياة التي تتحقق باللغة قد تعبر احيانا بما يرمز الى هذه اللغة مما تفصح احيانا اخرى حتى بالصمت ولكن هذا الاعتذار نفسه يحمل فى طياته المنهج الذى تقوم عليه دراسة الكتاب ، فأنا امام عمل فني ، وامام عمل فنى من نوع خاص . واشهد أني منذ بدأت اطوف حول هذا السديم أصعد فوق مدارجه وأنا اتساءل بيني وبين

نفسى : اي نوع ادبى يمكن ان يسلك فيه هذا الاثر الفني ؟ ! . ونحن نعلم ان الادب ينقسم اولا الى شعر ونثر ، وينقسم ثانيا الى ادب ملحمي ودرامي وقصصى . . وثمة سؤال آخر : هل قصد بهذا الاثر الفنى ان يجسم امام الناس وان تتحقق الحياة فيه وفى ألفاظه امام الاعين والاذان ؟ ! . . ام انه يتوسل بالتدوين فحسب ؟ ويقصد الى المطلق فحسب ؟ ويستثير التأمل فيه ؛ وفيما قبله وما بعده ؟ وما فوقه وما تحته ايضا ؟ ! . . اسئلة كثيرة تزحم النفس ولا يستقر المرء فيها على جواب حاسم . .

والواقع ان " السد " فى ظاهره نثر ، وفي قالبه السطحى تمثيل ولكنه بعد انعام النظر يصطنع الموسيقى فى اللفظ المفرد ، وفى العبارة المركبة . . وهو تمثيل مقسم الى مناظر بينها سياق زمني منصوص عليه ، ولكل منظر التمهيد الواجب من وصف يحسمه او يقربه او يرشد المخرج والممثل اليه

والحديث حوار متتابع يدور على السنة البطلين ، ويصدر عن هواتف وعن كائنات واشياء تتجسم وتتشخص ؛ بيد ان هذا التمثيل لا ينقسم الى فصول تنتظم المشهد الواحد او المشاهد المتعددة . ولعله ثورة تشبه ثورة " برناردشو " على تقاليد المسرح ؛ ولكن برناردشو وان اخضع تمثيله لوظيفة وغاية فانه تصور الحياة متواصلة ، وحاول فى بعض الاحيان ان يجعل الدراما مشهدا واحدا كالحياة المنسابة من نقطة معينة فى اولها واخرى فى آخرها ، وان لم تكن النهاية والختام ...

وخيل إلي ان اتصورها قصة مرسلة ، ولكن تقسيمها الى مناظر واعتمادها على الحوار جعل فيها من خصائص الدراما عناصر ، ومن خصائص القصة الحرة المرسلة عناصر اخرى . وخير لنا ان نعد هذا " السد " فى منزلة بين المنازل : بين الشعر وبين النثر ، بين الدراما و بين القصة .

وتبقى نقطة اخرى اهم تتصل بالوظيفة . فالسد : رمز ، وميمونة وغيلان وسائر الكائنات : رمز ، تقصد الى افكار !

فالسد لا يستهدف ذاته وانما يستهدف غاية اخرى وراءه ، وان لم يتكلف إبرازها والنص عليها ، واكتفى فيها بأن تحس وتدرك ، مثله فى ذلك مثل الموسيقى الذي يستطيع ان يجعل الالحان تنتظم الرموز وتحكى الافكار وتحلق تحليق الصوفية ! .

ونحن نستطيع بالتأمل العارض السريع ان نتبين موقفنا كمجتمع بين حدي الزمان والمكان ، وبين ثقافات متضارعة متضاربة ، وبين شروح وتأويلات فيما يتصل بالحياة وما بعد الحياة ، وما فوق الحياة ، وبين الاستسلام الغبي ، والمشاركة الارادية ، في تصحيح وضع بشري ممكن. وحسبي هذه العبارة ، : « انما هم قوم افعمت نفوسهم مياه كاذبة، ورطوبة كاذبة ، وسماء كاذبة . وان نفوسهم لنفوس باطلة الكيان ، كاذبة . فروا من الفعل عجزا وبطلان نفس بل انظري هذه العين البديعة تنفجر عند جنب الجبل، كيف تركوها منذ آلاف السنين تذهب فتغور مياهها وحياتها في الهاوية بمنقطع الوادي ... ولكنه مع هذا كله لا يغرق المادية او الوضعية ، ولا يغفل عن الجانب الصوفي من حياة الانسان ، ولا يتصور التطور شيئا اجنبيا من خارج النفس ، او عرضا زائفا لا يتصل بالجوهر .. وكنت اريد ان استطرد في تحليل هذا الاثر الادبي الذي لا اريد ان اسلكه في نوع بذاته ، فهذا شأتنا معاشر النقاد ، واما المبدعون فلا اظن انهم يفكرون في الاطار والقالب والمقياس : بقدر ما يفكرون في تحقيق الحياة بالتعبير عن الحياة .. وهذا حسبی

ألوهة الانسان ومأساته ! . . واختتم الحفل بهذه العجالة لناقل هذه السطور :

ايها السادة . منذ ان اعلن محمود المسعدى ان : " الادب مآساة اولا يكون . مأساة الانسان يتردد بين الالوهية والحيوانية ، وتزف به في اودية الوجود عواصف آلام العجز ، والشعور بالعجز . امام القضاء ، والموت ، والحياة ، وامام الغيب والآلهة ونفسه ، . . " كان فى الواقع يدعو مواطنيه من الادباء الى التزام وجهة النظر التى اختارها من ناحية ، كما كان من ناحية اخرى يعبر عن مفهومه العام للادب ، ويخطط نقط الانطلاق الكبرى لمنهجه الادبى الذى طبقه بالفعل في مؤلفاته القليلة . . المنهج الذى ظل امينا له بحميمية وأصالة كمذهب حياتي في كل عملياته الابداعية المعاشة من الداخل . . ورواية " السد " يمكن ان يقال عنها انها مسرحية  رمزية من نوع المسرح المقروء اعنى غير القابل للتمثيل ، وهي ليست فى رأينا غير امتداد طبيعي لدفق تلك المآساة التى يعانيها المؤلف بفظاظة دموية تتجلى خلال تعابيرة المتماسكة الصلبة ، واجوائه المعقدة القاسية ، التي

تحتاج عملية تذوقها الى جهد واع يتطلب من القارىء والناقد انتباها وثقافة غير عاديين . .

ونحن اذا نظرنا اليها من ناحية " الشكل " ، اى كمعطى جمالي ، يمكننا ان نضعها فى مصف الشعر المنثور ، ذلك النوع من الشعر الذي قال عنه " ألفريد دى موسيه"A.de Musset" فى كل شعر عظيم مادة تفوق الكلام بثلاثة اضعاف ، وعلى القارىء ان يكتشف الباقي المحذوف ....

اما من ناحية " المضمون " فيصح ان نكرر إزاءها قوله : " بلزاك " : " ليس هناك من مبادىء ، وانما هناك حوادث ! . . الحوادث التى تتخذ بين الحين والآخر صبغة المواقف ، وتظل فى جوهرها جملة معطيات نفسية يتوجب ربطها بملابساتها الاجتماعية التى نشأت عنها ، وإلا ظلت مجرد صيغ لفظية مبهمة خالية من الروح والحياة

واذن فلنتناول " السد " كمعطى نفسي : إن مجموعة شخوصه واجوائه الرئيسية والثانوية ليست سوى رموز إيحائية استغلت جميعها للتعبير عن قضية تعيش فى داخل إنسان واحد ، لدينا من الدوافع المبررة ما يجعلنا نرجح انه المؤلف نفسه ! "

فالسياق الحوارى بين كل من " ميمونه " و " غيلان " ليس في مجمله الا صراعا يكاد يكون متكافئا بين نزعتين متناقضتين : نزعة الضعف المثبط الذي يرمز اليه باسم " ميمونة " ونزعة التوق الخيالى المتحمس الذى يرمز اليه باسم " غيلان " . . اما " السد " فهو المشخص الصخرى للجانب الوضىء في الانسان والذى هو : " عظمته " والوهيته الارضية " تلك العظمة التى يسعى الفرد الى توطيدها فى داخله ، ويجهد فى اقامتها : بناية منيعة كما لو كانت " سدا " يختزن رصيد الماء الذي هو حيوية وفعالية ليخصب الذات وواقعها معا ، ويثريهما بالامكانيات الخالقة الغنية غنى الخضرة والاثمار . . ولكن هذه العظمة الانسانية تظل فى معظم الاحايين خارجة عن طوقنا كما لولم تكن ملكا لنا ، لان " الآخرين ( بالمفهوم " السارترى " للاخرين ) (١) يشاركوننا فى صنعها ، وربما كان قسط

مشاركتهم فى هذا الصنع اكثر اساسية وضخامة من قسطنا كيفا وكما . . وهى خلال كل ذلك معرضة ابدا لشتى المعوقات التى تبلغ حد العدوانية ! . . فهناك مطالب الجسد التى يرمز اليها المؤلف هنا " بالبغل " هذا المشخص الحيوانى الذى لا يخفف من حدة وقع حضوره ان يصفه الكاتب " بالذكاء " ! " وهناك رواسب العقائد المورثة المتفسخة التى يرمز اليها هنا : بتشكيلة من الشخوص الخرافية بالالهة : " صاهباء " وبمجموعة من الاطياف والهواتف تبلغ حد التجسد في شكل " رهبان " ، وترق حتى تكاد تتلاشى : فى طيف : " ميارى " الروحانى الهفهاف !

ولقد تعرضت قضية العظمة الانسانية التى يرمز اليها هنا : " بالسد " والتي تتم فى مجال الفعل والخلق العمليين ، للتصدع والانهدام : في المرة الاولى من جراء " تمرد الآخرين " الذين شاركوا فى تشييدها اول الامر بأنفسهم . . وفي المرة الثانية من جراء تمرد " القوى الغيبية " التى يظهر انها لا تريد ان يزاحمها الانسان على عظمتها فيستقل عنها بالمقدرة والسلطان الكونيين . . وهكذا فهى لا تملك لاستبعاده وقهر سوى ملاشاة جهوده التى ما تكاد تبلغ التمام حتى تتسلط عليها فى شراسة ساخرة ! .

هكذا تتبلور امامنا الخطوط العريضة لمأساة الانسان التى عاناها المؤلف . حينما حدد طبيعتها وابعادها بحصرها فى : " تردده بين الالوهية والحيوانية " او بين التوق المصعد الى أعلى ، وبين الهوى الى السحيق عبر منزلق : " اودية الجور وعواصف آلام العجز ، والشعور بالعجز امام القضاء والموت والحياة ، وامام الغيب والآلهة ونفسه . .

ولكن الانسان ينهزم ولا ينسحق ، ولذلك يجد المؤلف مخرجا لورطة الانسان خلال هذا الانهزام في عالم الأرض ، فيربطه بنوع من المطلق الغيبي المتمثل في « ميارى » التي هي ليست في جوهرها سوى « نزعة طهورية » : ( Tendance puritaine ) مسعفة ، يلجأ اليها الحطام الانساني الفاشل الممزق ، « كملاذ نهائي » يصفه المؤلف بأنه : « القرار والاسلام ! » أو بتعبير آخر : الهروب والاذعان !.. :

ونحن اذا ربطنا هذه المأساة الرمزية بملابساتها التاريخية والمجتمعية نجدها تعبيرا عميقا عن وصفية جيل برقته ، الجيل الذى خلقته النزعة

الاستعمارية في البيئة التونسيه .. فاذا كان الغرب - كما يقول : كونستانتان جيورجيو - قد خلق مجتمعا شبيها بالآلة ، وارغم الآدميين على الحياة في قلب هذا المجتمع وعلى التكيف مع قوانين الآلة . . » فان الحضارة الغربية، بوصفها تركيبه من : الانسان والتراب والوقت ، قد خلقت النزعة الاستعمارية ، التي خلقت بدورها : « الانسان المنبت » (lhomme de racine') ، المنشطر على ذاته  الممزع الداخل ، وكتبت عليه ان يُشَد باعقد الاحابيل والكبول الى التأزم والقلق وفصلت بينه وبين الواقع، وبين عظمته الحقيقية كذلك ، من حيث وضعته في منفى الاغتراب بين أطلال الانهزام وضعف الركون والاسلام الى المغيبات ، عساه يجد في تقمصها الطمأنينة والعزاء !..

ان " السد " مأساة : " الانسان الاله ! " الذي قضى عليه الى الابد ان تظل حياته تراوحا بين الاسفاف والتصعيد ، ونضالاته نهبا مرتهنا للصمود والانهزام ، وهو في كل هذا ، ذلك الوجود العميق الحافل بالنقائض والامكانيات ! .

اشترك في نشرتنا البريدية