الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

مع ماضى

Share

ها انا ذا بمكتبى ، في ساعة مؤخرة من الليل . وقد نام بيتى كل من حولي : نامت زوجتى ونام اطفالي . وبقيت هنا مختليا بضيف عزيز على ، حبيب الى نفسى ، لا اذكره فى حال مغيبه عنى الا بشوق وحسرة ولربما بألم مرير ايضا . هذا الضيف الكريم . وهذا السمير اللطيف هو ماضى . نعم ماضى - انا - المتمثل بعض الشئ فى مجموعة اوراقى ، وصورى ، والمشتت المجزى المبعثر فى رسائل وخواطر ومقطوعات وقصائد وصور يدوية وشمسية متنوعة مختلفة . ففي هذه وتلك ألفى الليلة من جديد بعض مظاهر طفولتى البريئة وصباى المتطلع وشبابي الملتهب العنيف الواثق الغرور وحتى جزءا من كهولتى الحاضرة النامية الحكيمة

وهذا الزائر - الذي احب كثيرا - اعرفه انا وحدي كاملا او يكاد . ولكن كل هؤلاء الذين حولي الان نيام وكل الآخرين الذين جمعتنى بهم الايام او المناسبات او الصدف المحضة لا يعرفون منه - ان عرفوا - الى خرقا مبعثرة ، وقصاصات مشتتة ، قد تتفق فيما بينها وتتلائم ، وقد تختلف وتتناقض ، ولكنها- سواء اتفقت أمر اختلفت ، تلاءمت امر تناقضت - لا تمثل ضيفي ولا تعرفه ولا تعبر لهم عنه ، ولا تقرب به منهم تقريبا صحيحا . فهو لديهم ناقص التكوين مشوه الخلقة ، مدلس الصورة نقصا وتشويها وتدليسا ، لان ضيفي العزيز كل كامل ولن يعرف ذلك الكل الكامل غيرى انا ، فانا وحدى استطيع النظر اليه كما هو من خلال مجموعتى هاته : اذ كل رمز من هذه الرموز وكل ورقة من هذه الاوراق وكل دفتر من هذه الدفاتر وكل صورة من هذه الصور وكل تاريخ وكل اصلاح وكل تشطيب بل وحتى كل نقص او اهمال او اغفال ...كل هاته الاشياء بمجرد دوقوعها تحت نظرى تقيم لحينها فى مخيلتى عالما حيا كامل الجوانب متعدد الظروف والاحوال والملابسات اربط فيه الاسباب بالمسببات واساير فيه مختلف التقلبات والتطورات فكانما احيا من جديد فى هذه الليلة الوانا من الحياة كنت عرفتها من قبل وكانى الاقى ما كنت لاقيتة من غرائب وكاني اكتشف ما كنت قد اكتشفته وافاجئ بما كنت فوجئت به . وكانى انتصر وكانى اخيب . وكانى أسر وكاني احزن

واني كلما امد الليلة يدي لجيب هذا الصديق المتسامح او لمحفظته لاتناول ورقه او صورة الا ويطنب - هو- معى الحديث فى شأنها اطنابا . فيذكرني بما عسى اكون قد نسيته . وينبهنى لما عسى اكون قد غفلت عنه فيحيي في الذكريات المختلفة ويهيج اشواقي وتحسراتي . ويبعث اشجاني واحزانى . ويثير نشاطى وحماسي

فانا معه الليلة ، في ارتفاع وانخفاض . وفى صعود ونزول . فقد يسمو بي الي عالم الادبيات والروحانيات والقيم العليا الخالدة . وقد يهوى بي الى درك السخافة والاسفاف والى حضيض الغرائز والشهوات . وهو قد يتحدث الى عن توافه الاشياء وبسائط الامور والعاديات والمالوفات . وقد يقص على نوادر البطولة والاقدام والجرأة ، ومواقف العزم والحزم ، ومظاهر الفوز والنصر وفرص النجاح والظفر

وهكذا لا يستقر لي مع ضيفي في هذه الليلة حال فهو يأخذ نفسي- فى هذا السمر الطويل المسترسل بينى وبينه - باللين والرفق طورا وبالشدة والعنف اطوارا ، فيشرح تارة صدري ، ويحرجنى تارة اخرى ، ويدخل على نفسي الالم او الندم او الغم في بعض الاحيان .

واجد - انا - في هذا المخض العاطفى وفى هذه التقلبات النفسانية لذة خاصة لا عهد لي بها من قبل . وهى لذة لا اجد لها مثيلا عندما احادث زوجي فى شؤون هذا البيت الذي يجمعنا منذ ثمانية اعوام او فى شؤون زينتها او مجالسها المرحة مع صويحباتها من ربات الخدور ، وهى لذة لا اجد لها مثيلا ايضا عندما اداعب اطفالي الصغار او انصت لهم او القنهم احرف هجاء هذه الحياة الدنيا . وهي لذة لا تحصل لي عندما اتحدث الى زملائى فى المحاكم عن القضاء والاقضية وعن النزاع والمتنازعين وعن الاحكام والقوانين . فاحاديثي مع كل من هؤلاء واولائك تنحصر فى منطقة خاصة وان خيل لنا امتداد رقعتها وصغيرة وان حسبناها واسعة الرحاب لان موضوعها دائما واحدا او يكاد : فهي - لو تأملنا لا - تطرق في نهاية الامر ، الاجانبا واحدا صغيرا من هذه الحياة الكبيرة العريضة المتعددة الجوانب . ولا تتعلق الا بمظهر فرد من هذه الدنيا الثرية بالمظاهر .

اما سميري في هذه فهو الدنيا كلها ، وهو الحياة باسرها : واني لاجد فيه الطفل والبيت والابوين والاخوة والعائلة والاجوار والسوق والحي . واجد فيه المدرسة والاقران والمعلمين . واجد فيه الريف والقرية والمدينة والوطن الكبير

الشامل ، واجد فيه الجمعيات والندوات والمحاضرات والسهرات . واجد فيه النجاح والغرور والتحدى . واجد فيه العمل والمثابرة والكد ، واجد فيه الرقى والفوز والمجد وان شئت اجد فيه الانسان وحتى الحيوان فألحق به فى خلواته وادخل معه مكامنه واسايره فى مغامراته وغرامياته وفى سلواه ولهوه . وفى ساعات عبثه البريء وغير البريء والطاهر وغير الطاهر .

وهكذا فان ضيفي الليلة هو بمفرده ثروة من الاحاديث طائلة وكنز من العبر لا يفنى . وهذا ماجعله احب الاصدقاء لدى . واقربهم إلى وافضلهم عندى واعزهم على وهذا ما جعلني اكثر - ولا اكثر معهم - السمر ، وأطيل ولا اطيل معهم السهر.

جبل المنار ١٩٥٥/٩/٢

اشترك في نشرتنا البريدية