الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

من باريس, رسالة التربيع والتدوير للجاحظ

Share

تحقيق الاستاذ بلات

لقد اعتنى المستشرقون الاوروبيون منذ نصف قرن بالدراسات الجاحظية ، فتح ذلك الباب بالنشر والبحث الهولاندي خ ، فان فلوتن حوالى سنة ١٩٠٣ ثم استانف المصريون عمله فى غير تقدم ولا كبير نقدو فى غير ضبط ولا تحقيق للنصوص الا قليلا (اول طبعة نقدية علمية طبعت عن الجاحظ بمصر هى طبعة طه الحاجرى لكتاب البخلاء - القاهرة سنة ١٩٤٨)

ولقد اهتم المستشرق الفرنسى الاستاذ بلات Pellat منذ عشر سنوات تقريبا بدرس الجاحظ وبيئته وعصره ومؤلفاته فأخرج اخيرا رسالة للجاحظ طريفة هامة هى " رسالة التربيع والتدوير " (طبعت على نفقة المعهد الفرنسي بدمشق سنة ١٩٥٥)

وهذا الكتاب من القطع الكبير جاء فى ٢٦٤ صفحة وفى صورة جميلة نظيفة ، الرسالة فى حد ذاتها لا تفوت الصفحة ١٠٦ والبقية درس لها وتقديم : هناك مقدمة باللغة الفرنسية (١٨ص) ثم قائمة للمصادر بالفرنسية (٢٨ص) ثم فهرس للالفاظ والمصطلحات الجاحظية (١١٢ص)

قبل الكلام عن عمل الناشر القيم وتحقيقه العلمي يحسن بنا ذكر موضوع الرسالة واتصاله بالجاحظ وبعصره .

رسالة التربيع والتدوير رسالة يهجو الجاحظ فيها رجلا من " نخبة " العصر يقال له احمد بن عبد الوهاب ويفحمه بعدة اسئلة عويصة تتصل بالعلوم والادب والتاريخ - لماذا يهجو الجاحظ احمد بن عبد الوهاب ومتى كتب اليه بهذه الرسالة وكيف كان ذلك ومن هو احمد بن عبد الوهاب هذا ؟

كل ما نستطيع ان نظفر به فى الرسالة نفسها هو ان الرجل يوصف بالكاتب وانه ممن اتصل بالوزير ابن الزيات فى ايام الواثق بالله (المتوفى سنة ٢٣٢-٨٤٧) وانه من المائلين الى التشيع وانه مقيم - عند كتابة الرسالة - بمكة . وانا اذا ذكرنا

من جهة اخرى ان " الحيوان " يلمح الى هذه الرسالة وانه مهدى الى الوزير ابن الزيات نفسه (المتوفى سنة ٢٣٢ ايضا) علمنا ان الرسالة " معاصرة " فى العقلية والشواغل والافكار للحيوان وانها كتبت - طبعا - بضع سنين قبل سنة ٢٣٢ . ثم اذا نحن نظرنا كتب التاريخ وجدنا فعلا بين كتاب الدواون فى مدة الواثق (من ٢٢٧ الى ٢٣٢) اسم احمد بن عبد الوهاب . واحمد هذا كان له اخ يدعى صالحا مقرب عند ابن الزيات وكان لصالح قينة جميلة الوجه حسنة الصوت حاذقة يقال انها اعجبت الخليفة فطلبها من مولاها فى خمسة آلاف دينار يدفعها الوزير بعد اجل مسمى غير ان الوزير تغافل او ماطل فكان خلاف بين صالح وابن الزيات وكانت مشاجرة غامضة ثم يفي الوزير بوعده دفعا للشر او حذرا للفضيحة ويذهب صالح واخوه الى مكة

هذا كل ما نجده بعد درس الرسالة والبحث فى المصادر

ويذهب الناشر حتى يتساءل : هل كتب الجاحظ هذه الرسالة بايعاز من الوزير ابن الزيات للانتقام من صالح باخيه ؟ وانى لا اميل الى هذا التقدير تمام الميل ولا ارتاح اليه . لان الحكاية التى نعتمدها غامضة فى ذاتها غامضة فى مغزاها لا توضح لنا الدافع الى هجاء الاخ فى اثم اخيه واخذ احمد بعمل صالا واني لا ارتاح الى هذا التقدير لان الرسالة لا تظهر لي عند الدرس رسالة مكتوبة بايعاز اجنبى لارضاء وزير او لمجاملة صديق . هذه الرسالة تظهر موافقة لمزاج الجاحظ الفتاك المنتقد . الجاحظ رجال فقير دميم خامل قد رفعه ذكاؤه وعلاه حظه فعمر طويلا وفهم مليا وفاق القوم ونظر الى من حوله نظرة العتو او النقد او الازدراء ، هكذا تناول طبقات كثيرة بالبحث والنقد : رأى الاغنياء الجدد وماهم فيه من مضحك السيرة فنقدهم فى " البخلاء " واظهر هناتهم واخرج منهم " مثلا " دائما خالدا وراى القيان وما صرن فيه من حب تجارى وادب تجارى فنقدهن وابرز خصائصهن ولعله راى - هذا ما اظنه شخصيا - نوعا اخر من الناس هم " النخبة " والعلماء الافذاذ " مصابيح الظلام . . الخ يدعون الاحاطة بكل شئ علما ويتقربون الى عظماء العصر ويتمذهبون بالمذاهب التقدمية (كالتشيع فى القرن الثالث والشيوعية فى القرن الرابع عشر للهجرة) لا حبا فى المذاهب التقدمية وانما تظاهرا وتكلفا واختيالا فاراد الجاحظ ازدراءهم وتسجيل نوعهم وضبط خصالهم والحط من قيمتهم ولعله اختار

أحمد بن عبد الوهاب لان احمد بن عبد الوهاب كان مشهورا بما يؤاخذه به الجاحظ معروفا في الاوساط البغدادية بتلك الهنة وبتلك العيوب والجاحظ من اولئك الادباء الذين ماشوا عصرهم و " عاشوا " فيه باتم معنى الكلمة واصفين محصلين ناقدين الذي يمكن انتقاده داعين الى الذى يحسن اتيانه . والجاحظ من أولئك الادباء الذين يضحكون ويضحكون حسب استعداد القارىء وذوق العصر فهو لا يضيف الحكاية المضحكة الا لرجل يتوقع القوم ان يروه كذلك مضحكا والا ما ذكر الاسم ولا اوضح الشخصية .

فالمتوقع حينئذ ان احمد بن عبد الوهاب كان معروفا بما يصفه به الجاحظ معروفا عند ابن الزيات وامثال ابن الزيات ولعل قصة القينة زادت فى اهتمام حاشية ابن الزيات ومجلسه باخى صالح والفتت الانظار اليه .

والرسالة لها قيمة كبيرة مزدوجة : قيمة ادبية بحتة وقيمة علمية تاريخية ، هي من الناحية الادبية هجاء نثري بديع رقيق الفكاهة كثير النكتة بعيد الغمزة يدق حتى يقارب المدح ويعظم فيقارب الخزى وكل الادباء وجميع القراء يعرفون هذه الفقرة :

" وبعد فانت - ابقاك الله - في يدك قياس لا ينكسر وجواب لا ينقطع ولك حد لا يفل وغرب لا ينثنى . وهو قياسك الذى اليه تنسب ومذهبك الذي اليه تذهب ان تقول : " وما على ان يرانى الناس عريضا واكون فى حكمهم غليظا وانا عند الله طويل جميل وفى الحقيقة مقدود رشيق ؟"

وقد علموا - ابقاك الله - ان لك مع طول الباد راكبا طول الظهر جالسا ولكن بينهم فيك اذا قمت اختلاف وعليك لهم اذا اضطجعت مسائل . . "

وهذه الفقرة البديعة فى اسلوبها تقربنا فى معناها من الناحية الثانية : الناحية العلمية . هنا يتحدث الجاحظ - سطحيا - عن القياس وعن النظرية النسبية ولكنه في سائر الرسالة يلقى على مخاطبه عدة اسئلة هى لنا احصاء لمعارف الجاحظ خاصة وبالتالي لمعارف القرن الثالث للهجرة عامة . فى الناحية الاولى نرى الجاحظ الاديب وفي الناحية الثانية يبرز لنا الجاحظ المفكر ، الجاحظ يفكر فى معارف البشر كما فكر فيها الفلاسفة وكما حللوها ولكن المسائل التى يعرضها - من تاريخية وعلميا

تهم الرجال او البلدان او الحوادث دينية كانت او عقلية او وهمية - مسائل عويصة يعسر الجواب عنها . وهذه الخاصية تأتينا من جهة بمغزى الرسالة ومن جهة اخرى بقيمتها التاريخية .

اما مغزى الرسالة فهو عبرة للتواضع والتنقيص من قيمة المعجب بنفسه المعتد بعلمه فالذى " علم شيئا قد غابت عنه اشياء ".

وأما قيمتها بالاضافة الى شخصية الجاحظ والى حالة العلوم فى عصره فهي - على الاقل - حب المعرفة والميل الى اعمال العقل (المعتزلة !) والبحث عن اصل كل شىء . والاستاذ بلات يذهب اكثر من هذا اذ يجعل الجاحظ في رسالته هذه يشك شكا منها حيا Doute methodique. نعم ان الجاحظ عمد الى الشك واعتبره طريقا الى اليقين غير انه لم يقف عند هذه الطريقة دائما ولم ياخذها رائدا قارا له هو يغرف مما يجد فيمزح وينكت ويلهو فى غير منهاج مسطر ولا اسلوب رئيسى ولقد يظهر بطريقة علمية ولكنة لا يقف عندها ولا يتشبث بها دائما ولا يتبع سبيلها الى آخر حد .

وانه لا يسعنا الا ان نتساءل : هل الاسئلة التى يلقيها الجاحظ على احمد ابن عبد الوهاب اسئلة يلقيها على نفسه ايضا فيحتار ويشك ويعمد الى غاية علمية ام هي اسئلة يريد ان يظهر من ورائها جهل احمد عبد الوهاب وجهل البشر مهما اتسعت معارفهم وان الله اعقل واعلم ؟

على كل فان الاستاذ بلات اخرج لنا كتابا محققا تحقيقا علميا او انه قسم النص الى اقسام ثلاثة :

١- النص الاصلى الذى لاشك فى نسبته للجاحظ والذى هو الدعامة لموضوع الرسالة وجوهرها (جعل الناشر فى الهامش سطرا مسترسلا يتبع النص)

٢ - فقرات مشكوك فيها - لا محالة مزيدة من بعد الجاحظ (خط فى الهامش منقوط)

١ - فقرات لعلها اصلية غير انها ذات اهمية ثانوية ( بلا علامة ) ثم ان اهم عمل قام به الناشر - بعد تحقيق النص - هو جعل قائمة لجميع الكلم والعبارات المستعملة فى الرسالة مبينا كثرتها او قلتها محاولا الوقوف على حقيقتها ومعناها الاصلي .

وبعد فالغاية ليست الاجابة عن اسئلة الجاحظ العويصة بل فهم هذه الاسئلة وفهم الدواعى التى حملت الجاحظ على القائها ، ونشر الاستاذ بلات يعيننا على ذلك لا محالة .

اشترك في نشرتنا البريدية