الاستعداد للمعركة

Share

يخص الاسلام بمظاهر ذات طابع خاص في التأثير على الجوانب الحساسة التي تتصل بالمجتمع من قريب أو بعيد ، وترتبط بالاصلاح ارتباطا وثيقا .

وفي طليعة هذه المظاهر غزوة بدر وما حف بها من احداث تنبئ بأن التكوين الانساني يحتاج إلى مثال في العمل الانساني الاصلاحي .

وهذا ما حققته الغزوة حيث أبرزت على الصعيد الانساني صورة من صراع الحق والباطل في أشد ما يكون الصراع مع عدم التكافؤ بين القوتين .

فقوة المشركين كانت قوة ممتازة على قوة المسلمين وهى القوة التي تمثل الباطل ، اذ كان عددهم في هذه الغزوة ألفا تقريبا ، ومنهم ستمائة دارع ، ومائة فرس عليها مائة درع غير دروع المشاة .

وقوة المسلمين من الضعف والقلة كما نبه على ذلك القرآن لا موازنة بينها وبين ما عليه المشركون اذ كانوا دون الثلث من المشركين اذ عددهم ثلاثة عشر وثلاثمائة . واما العدة فلا تقابل بينها وبين ما عند المشركين حتى ان المسلمين كانت وسيلة نقلهم عشر ما عند قريش ، فهذه كان لها سبعمائة بعير ، والمسلمون كان لهم سبعون . والمسلمون كان لهم سبعون .

ذكر ابن اسحق ان المسلمين كانوا يعتقبون هذه الابعرة يتعاونون عليها ، ولا فرق في الاعتقاب بين النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم غيره من أصحابه حتى أنه عليه الصلاة والسلام كان يعتقب هو وعلي ابن أبى طالب ومرثد بن أبى مرثد الغنوى بعيرا ، و كان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة ، وأبو كبشة وأنسة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا ، وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا .

ومع عدم التكافؤ بين القوتين كان النصر حليف القوة الضعيفة ، وهى قوة المسلمين.

ولم يكن النصر عفويا بل كان نصرا مركزا مبنيا على مشاورة ومحاورة بين القائد الاعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبين المسلمين .

وهو مما ابرز شيئا خاصا مثاليا يجب أن يتقدم على خوض المعركة ، وبذلك اخذت هذه الغزوة بما تقدمها-هذا الطابع الخاص، فلم تكن الا قدوة في الاعمال .

ورأس هذا الطابع الخاص ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخض المعركة بدون مبالاة بالعدو ، وبدون أن يقنع المسلمين بمهمة ما هم قادمون عليه ، فلم يكونوا مسوقين الى المعركة كأنهم غرباء عنها ، بل كانوا يخوضونها وهم مقتنعون غاية الاقتناع بضرورة هذه المعركة ومؤمنون بأنها لا تعتمد على أحد بعد الله جل جلاله الا عليهم لأنهم رغم العدد القليل قد تحملوا مسؤولية جسيمة هي خوضهم لمعركة بدر : المعركة الاولى بين الاسلام والشرك ، وبين الحق والباطل .

كان دخول المسلمين لهذه المعركة بايمان

وتفكير خاصين لم يكن لهما نظير عند المشركين . ويصور لنا الفكرة التي كانت عليها قريش حين أرادت أن تخوض المعركة، والفكرة التى كان عليها المسلمون لخوض هذه المعركة ما دار قبل المعركة .

فقريش تخوضها ونفوسها منثنية عنها ، ويوضح هذا ان با لهب وهو من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة ، وأمية ابن خلف كان أجمع القعود فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار ، حتى وضعها بين يديه ثم قال : يا أبا علي استجمر ،فانما أنت من النساء ، قال : يا عقبة قبحك الله وقبح ما جئت به ، ثم تجهز وخرج مع الناس

وقريش وان أوعبت فان هذا الايعاب الذى لم يتخلف فيه أشرافها كان مبعثه الأنفة من أن يكون من زمرة القاعدين ليس غير .

ومع ذلك كان بها غرور حتى انها خرجت للحرب وهي في خيلاء ، حتى ان المشركين اخرجوا معهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين .

وغرهم ما كانوا عليه من قوة وعدة متهاونين بالمسلمين لأنهم اقلية .

أما المسلمون فخاضوا المعركة بعد ان جرت محاورة جادة عرفت التعريف كله بالمهمة وعظمتها وما تتطلب من مجهود نفسي علاوة على المجهود الحربي .

وقبل هذه المحاورة أراد صلى الله عليه وسلم أن يتوثق للمدينة بمن يحفظها، ويتولى أمرها ، وهو أهل لما اسند اليه ، فأوكل ذلك الى أحد الصحابة المضطلعين بالمهام ، وهو أبو لبابة بشير بن عبد المنذر الذى رده من الروحاء ، وأمره على المدينة ، ولم يكن

تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم له مرة واحدة بل أمره على المدينة حين خرج غزوة السويق .

فهذا الصحابى الذى تحتضنه التربة التونسية في بلدة قابس كما هو المتناقل منذ أجيال وأجيال قد اضطلع في هذه الغزوة بتولى أمر المدينة حتى يتفرغ الرسول صلوات الله عليه مع بقية الصحابة رضوان الله عليهم للعدو المجابه لهم .

وبلاؤه في الاسلام منذ كان صلى الله عليه وسلم في مكة حيث كان احد النقباء ليلة العقبة ، وبيعة العقبة هذه مما مهد للاسلام في المدينة ، وهيأ الجو الصالح لقدومه صلى الله عليه وسلم .

لا شك انه من الصحابة الذين ساهموا مساهمة فعالة في رسوخ قدم الاسلام ، بالعمل المثمر ، ولولا انه بهذه المثابة لم يبادر صلى الله عليه وسلم الى أن يكون اميرا على المدينة والمسلمون في شغل شاغل فهو من الافذاذ القلائل الذين يعتمد عليهم في المهمات حتى تسند القيادة في الاوقات الحرجة اليهم

وبعد ذلك الموقف مع بني قريظة الذى حاكم فيه نفسه بنفسه اسند اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم امرا آخر ، وهو انه كانت معه راية بني عمرو بن عوف يوم الفتح .

وتوفي أبو لبابة بعد الخمسين .

وبعد التوثق للمدينة المنورة بأبى لبابة رجل المهمات استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم عن قريش وقد أبرز ابن اسحق ما دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الناس :

قام أبو بكر الصديق فقال وأحسن

ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن    ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله : أمض لما أراد الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون ، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا الى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له به .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا على أيها الناس ، قال سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟

قال : أجل .

قال سعد : فقد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، أنا لصبر - بضم الصاد والباء - في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله .

فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال:سيروا وابشروا ، فان الله قد وعدنى احدى الطائفتين .

ان هذه المحاورة بينه صلى الله عليه وسلم وبين الجيش الاسلامى عرفت المسلمين جسامة ما هم مقدمون عليه حتى يقدموا

بنفوس مليئة بحب تحمل المسئولية فلم يكونوا في تقاعس كقريش ، ولا مثلها في الغرور ، بل كانوا مقدرين هذه الجسامة ، مقتنعين بأنهم أمام مسؤولية كبرى .

وشتان بين من يدخل المعركة ونفسه مليئة بتفهم المهمة وبين من يدخلها مقسورا بدافع خارجى أما بقوة أو محاباة .

والمؤرخون يذهبون الى أن النبى صلى الله عليه وسلم انما ألح أن يبدى الانصار ما عندهم لأنهم عدد الناس ، وفي الحقيقة انه عليه الصلاة والسلام عرف المهاجرين ، وعرف تفهمهم للمهمة ، لكنه أراد أن يضم الى ذلك معرفة الانصار حتى يتفهموا المهمة كما تفهمها المهاجرون .

فالاسلام يحوز على النصر لا بالمصادفات أو غيرها ، وانما يحوز عليه باستعداد لتفهم النفسية زيادة على الاستعداد المادى .

وبناه الله على هذا الطبع الخاص ليعتاد ذلك المسلمون حتى اذا ألجأتهم الدوافع اندفعوا وقد أحكموها وساروا على هدى من أمرهم ، وبذلك يحرزون النصر، وينالون الغلبة ، وعسى أن يكون في هذه الذكريات الخالدة ما يبعث على التفكير الجدى للفوز فى كل الميادين ، بأحكام خطة واستعداد لنيل الظفر والمكانة اللائقة بالامة الاسلامية.

اشترك في نشرتنا البريدية