الحلقة المفقودة، فى تاريخ الحجاز، على من تقع مسئوليتها؟؟

Share

لعله لا يعيب المكتبة الحجازية شيء بقدر ما يعيبها فقدان الحلقة التاريخية التى تصل أواخر العهد العثماني بالعهد الحاضر في الحجاز . فانت تقرأ العصر الذهبي للحجاز فى كل كتب التاريخ الاسلامى ، فى سعة تشبع نهمك ، وتكشف لك عما يهمك من نواحيه المتعددة . كما تقرأ مثله عن عصور سبقته ، ممعنة فى أعماق الجاهلية وعصور لحقته فى ظلال الدول الاسلامية ، الى جزء غير قليل من العهد العثمانى ، ثم تفقد الحلقة ، وتقع فجأة فى تيه بباب ممسوح ، مظلم المسالك ؛ لا تكاد تتبين فيه إلا بصيصا لا يهدي الى جادة ؛ ولا يساعد على فكرة ، .. أجل فقد كان المؤرخون الاسلاميون فى كل العصور ؛ يعنون بالتاريخ فى بلادنا كحدث إسلامى فهم إذا وسعت دراستهم ، وإذا تشعبت ومضت متغلغلة في جميع نواحي التاريخ فهم إما يترسمون فى ذلك هذا الحدث العظيم . واذا كان الحجاز وطن هذا الحدث الجليل ، وأبطاله أبطاله : فقد قالته بالضرورة هذه العناية التى تجدها مبسوطة فى كتب التاريخ الإسلامى . بيد ان هذا الحدث ما فتئ أن عرج فى طريقه إلى الشمال فاستوطن منازل الأمويين ، ثم انحدر جنوبا شرقى الوطن الأول فنزل فى قصور العباسيين فعرج وراءه التاريخ يستقصيه ويترسم آثاره ، حتى اذا تشعبت فروع الخلافة وضربت في الأرض ضرب المؤرخون وراءها جددا ومشوا وراء أبطالها من الشرق الى الغرب ، وما ان استوي الامر للعثمانيين حتى مضى التاريخ خلفهم وراء الحدث الأحدث الإسلامي وفي كل هذا ترك الحجاز الموطن الأول

غفلا ، لا يذكره التاريخ إلا عرضا ولا يعنى بأحداثه إلا كما تعني أنت بمناسبة خارجة تعترضك أثناء الحديث عن موضوع خاص بك.

على هذا بقى فى التاريخ من ناحية الحجاز ثلمة ، وبقيت فيه ثغرة ، يتيه الباحث فيها ، ويضيع فى فقرها المجدب . فانت اذ يبدوا لك اليوم ان تقرأ الحجاز كتأريخ متصل ، يبدأ بالجرهميين على اعتبارهم بناته ؛ قد تستطيع ان تشبع رغباتك في معلومات وافيه عنه متسلسلة الى اليوم الذي بزغ فيه الإسلام ، وتستمر فى أوسع من ذلك الى اليوم الذى غادرته الخلافه ، ثم يقصر بك حتى اذا جئت للقرون المتوسطة ، والعصور التى سبقت أيامنا بنحو قرنين ؛ فقدت دفعة واحدة كل اثر يدلك عليه تقريبا وأصبحت امام مجهل تنقطع فيه الصلة أو تكاد ، وتفقد الحلقة بين ذلك الماضى وهذا الحاضر الحالي.

إذا فعيب مكتبتنا الحجازية هو فى هذا القصور الفاضح ، وليس ثمة مؤاخذ به فى نظرى سوى جماعة العلماء فى بلادنا فى القرنين السابقين لعصرنا . إذ المعروف أن التعليم فى خلالهما كان مقصورًا على العلماء أو طلبتهم ؛ فليس هناك من يمكن أن يكتب التاريخ فى الحجازيين غيرهم . لا أدباء كانوا يومها بالمعنى الواسع المعروف اليوم ولا بحاثين ولا غيرهم ممن تصح مطالبتهم بذلك.

ولقد كانت لعلمائنا هؤلاء جهود لا يصح غمطها بالمرة الا ان التاريخ كان مظلوما إلى أبعد حد فى الظلم ، مما أنتج هذه الثغرة المفتوحة . فقد شوهد انتاجهم فى كثير من علوم الدين وملأت مجلداتهم فى اللغة وقواعدها وبلاغنها وبديعها وبيانها قسما كبيرا من زوايا المكتبة الحجازية ، ولم ينسوا ان يعنوا مع ذلك بالشعر وغزلياته بالخصوص فيتركوا لنا أثرا ضافيا بأبدع ما وصفت به الاعين الجميلة والأهداب الطويلة ، والخواصر الرقيقة ، وما تندر به ادباؤهم وفقهاؤهم وأصحاب النكات فى أيامهم وهكذا .. وهكذا إلا التاريخ فقد بقى مفنود والعناية

فى غير ما شذ . أجل .. فقد شذ أعلام من علمائنا فعنوا بالتاريخ الحجازي ، وتحدر به بعضهم إلى الأيام التى عاشوا فيها فى القرنين السابقين ، وكاد هذا ينفعنا لو لم يقصروا  كذلك على الكعبة وأصحاب كسوتها والمساجد والمآثر وبناتها والأمراء وغزواتهم وتناطحهم السياسي فجعلوا فيه كثيرا من الغنية فى الناحيتين الدينية والسياسية ولم يزيدوا ، فبقيت المسألة بذلك فى مكانها لم تتقدم شيئا . فهناك النواحي الاجتماعية وسير العلوم والعمران والعادات والافكار ، أشياء . مقفلة لا أثر لها فيما كتبوا . قد تمر بك عرضا وبدون سابق اصرار نُتَفٌ فى الشؤن الاجتماعية والعمرانية فى ثنايا بحوثهم عن كساوى الكعبة ، أو نطاح الأمراء ، لكنها لا تزيد عن كونها تزيد فى أوارك ، وتعظم في ظمئك ، وتزيد فى بيان حاجتك الى مثل هذا السياق لتتعرف به شيئا مما يهمك من أخلاق أجدادك ومدى تفكيرهم ، وعما ببلادك ومدى تطورها.

هذه الثغرات المفتوحة هو العيب الفاضح الذى يظل يلازم مكتبتنا وهو هو الشيء الذي نشارك اليوم نحن فى وزره ، ويتحمل مسؤليته هذا الشباب المتعلم بيننا

ليكن لأجدادنا عذرهم فى تنحيهم فى بحوثهم الى ما يعتقدونه غاية فى التاريخ أما نحن فلن نجد إذا تحرينا العدل ما يصح أن نسميه لنا عذرا بعد أن بدأت تتفتح أمام العالم جوانب في التاريخ ما كان يعرفها اجدادنا ؛ وبعد ان اصبح من أغراض التاريخ ما لم يكن فى يوم ما غرضا نحن مسؤلون أمام الحق الواقع عن هذه الثغرة ، ومطالبون بها ويعتبر تقاعدنا عنها جناية لا تغتفر ، ولا تنتحل لها الأعذار التى تلمسناها للسابقين من أجدادنا لنخرج من هذا الجمود ، فنعمد أولا الي مطمورات المكاتب العامة فنغوص في لجاتها باحثين وكما يتغلغل غواصو اللؤلؤ فى لجج المياه وبين شعاب البحار بحثا وراء لؤلؤة واحدة يستخرجها من بين

الأوحال لنغص فى المجلدات المطمورة مترسمين آثار بلادنا الضائعة بين المطولات ملتقطين الواحدة أثر الأخرى حتى نعقد من ذلك ما نسد به الثغر ويكمل منه النقص

وفى يقيني أن من أقوى الدوافع لخدمة هذا الغرض هو التشجيع وتقدير الأيدي العاملة بمختلف أنواع المشجعات والمغريات أما أننا نقابل على الدوام كل محاولة فى هذا الصدد بشيء من الفتور والإعراض حينا والاستياء والاستهجان أحيانا فذلك سبيل يحول على الدوام دون الوصول الى نتائج نافعة ويساعد على مباركة الاقحال والامحال ويبقينا لا نتقدم الى الأمام خطوة واحدة

ويحسن بعد هذا السياق أن أقدم أول محاولة يقوم بها شاب حجازى - السيد إبراهيم هاشم فلالى - فى كتابة - رجالات الحجاز - وأحسبني أستطيع أن أمضي طويلا فى دعواي بأنها محاولة مشكورة نحو الغرض الذي أشرنا اليه اجل فشابنا الذي تقدم اليوم لمؤلفه روح حساسة تتحرق غيظا على هذا الماضى المبعثر وتتألم لاندثار معالمه وتتناسي حقائقه الناصعة وهو فى الوقت نفسه يشعر بحوه بقدسية ويمضي في هذه القدسية ممعنًا فى عصبية حادة الغيرة ينتزع فيها الرجال من اقطاب الإسلام -كما سترى - انتزاعا ليردهم الى أصولهم فى الججاز وليضفي اثوابا عليهم حجازية بحتة ، ويروح على حساب ذلك يغنى بالحجاز مما يهز العواطف ويرتحها وكأنه بهذا يريد ان يثأر من هذه الاجيال التى أدمجحت الحجار ورجاله ثم أفنتة فى جامعة واسعة فناءا رآه جديرا بالبعث وكأنه فيه أراد أن يقسرك على الاعتراف بكينونة خاصة لها ميزتها فى تاريخ أجبال الإسلام ولها استقلالها الذي يجب ان يكون محلا لإلفات النظر بصفة خاصة .

ونحن إذا كنا لا نريد ان نناقش المؤلف في هذه الحدة كثيرا لأنها عقيدته التى لا ينفع النقاش فيها ، فإننا نريد أن نعتبره عاملا من عمال هذا الصرع الذي ننعى إهماله نعتبر مؤلفا حجازيا يضع اليوم لبنة هامة فيه صحيح إذا ادعى مدع

إن الغرض الذي نرمي إليه وننادى بمحاولة السير نحوه ابعد من هدفة فقد كنا نحرص على ان يكون لنا رجال يبحثون للتاريخ الحجازى اكثر مما يبحثون نواحيه الاجتماعية ، وصاحبنا اليوم يقصر بحثه على تراجم رجالات الحجاز وليس ذلك كل شيء فى غرضنا الذي ندعو اليه اقول في مثل أن هذا الادعاء صحة لا ننكرها كما أن إلى جانبها فى عمله هذا حسنة جديرة بالتقدير والشكر

فحضرته فى سن هذا التوجيه الحجازى المحض في مؤلفه عامل يضع لبة فى صرح هدفنا وهو فى سرده هذه التراجم بمثل هذه الروح الحادة فى عصبيتها ينشئ لنا أنغاما قد تصح لتساوقها فى مؤلف واحد أن تعتبر مهيجا يحرك الأعصاب للعمل فى البحث عن هدفنا البعيد بين التراث وفي الأطباق المطمورة .

لنقدر إذن جهده كغيور متحمس فى غيرته ولنقابل لبنته بما تستحق من عطف ولنؤجل حسابه على قاعدة البعد عن استهجان كل ما يصدر منا وأملا فى تشجيعه وإغراء غيره على المضي نحو الهدف المنشود والغاية المطلوبة .

اشترك في نشرتنا البريدية