الطائف فى ذكرياتي

Share

أذكر الطائف لأول مرة، وأنا فى نحو التاسعة من عمري ، وكان ذلك فى أواخر العهد الهاشمي، ولم تكن المواصلات ميسورة فى ذلك الحين، ولا كان الطريق مأمونا، وكانت ادارة المواصلات الوحيدة يومذاك الجمال والبغال والحمير ولا أداة غيرها، وان تكن السيارات قد شاع استعمالها فى ذلك الجيل.

وكاني أرى الآن - وقد غبرت عشرون سنة على ذلك - كيف خرجنا من مكة فى عصر يوم صائف على عدد من الجمال، بينها اثنان يحملان شقذفين للحرم ، وكنت احتل واسطة الشقدف الاول، يحمله جمل أورق يتولى القيادة .

فاما سير الجمال فقد كان وئيدا جدا كتلك الجمال التى عنتها الزباء ملكة تدمر وكانت تحمل الايطال -بقولها :-

أرى الجمال سيرها وئيدا        أجندلا يحملن أم حديدا ؟

ولكنا لم نكن بالطبع جندلا ولا حديدا، وانما كنا خليطا من رجال ونساء وصبية -أنا حاميهم الوحيد- الذي يعتز بانه كذلك وان لم تكن عنده كفاءة تؤهله لذلك.

ياللذكريات! لقد كنا نسير الليل كله، ونستريح النهار كله ، كما لو كنا مهاجمين فى الخفاء لا نريد ان تبصرنا عيون الجواسيس والأعداء، وسرنا ثلاثا، نجتاز فيها بالزيمة والسيل، كما لا يزال الناس يجتازون بهما الى الآن، حتى رأينا الطائف عن كثب، وكانه خميلة ملفوفة فى الضباب ورأينا كذلك قصر شبرة أمامنا وكانما هو سبابة من يد خفية كبيرة تشير بالشهادة وترتفع في الفضاء!

والطفل بطبيعته فرح مرح مطراب، فقد وثبت الى الأرض من الشقدف ورحت اقفز في الهواء من الجذل والغبطة وتدفق اسم الطائف من فمي بالمئات اتحدث الى من معي، وأشير الى الطائف اشارة أبلغ من دلالة، كانهم لا يستطيعون رؤية الطائف الا اذا جذبت ضوءه الايجابي الى عيونهم حتى يصبح منهم يمنظر يتكشف عن طيب مخبر .

أما انا فقد أصبحت فى حالة انجذاب لا تطاق، ولست استطيع وصف تلك الحالة، ولو كان معي ابو الطيب وابو العلاء فما استطاعا ان يقولا شيئا غير ما يمكن ان يقال من مثلي ومثلهما وهو تافه يسير بالقياس الى ذلك الشيء الكبير الكبير .. كل شيء يراه الطفل أو يلمسه ، إن هو - فى نظره - الا ألعوبة أو ملهاة يتسلى بها حينا ثم يقذف بها الى غير عودة اليها.

أما الطائف فقد كان في نظري - وأنا ذلك الطفل الغرير - أهم من ذلك وأعظم وأشبه بلغز مستبهم، لقد فرض الطائف سحره وجماله على طفل ، وان الطفل ليفرض أيسر قسط من سحر الطفولة على الحياة باجمعها .

وهذه الذاكرة ما تزال تختلس أشياء طواها الزمان في ماضيه طيا بعيدا فقد أقمنا في الطائف - ذلك العام - صيفا كاملا او يزيد، وما أبرح ذاكرا كيف كان المطر يباكرنا وبراوحنا كل يوم فى ذلك الصيف باكمله - الا ماندر منه - حتى لكأنا كنا نتنفس مع الربيع بانفاسه.

وما انفك أذكر - فيما أذكر- كيف كنا نذهب فى العشي والابكار الى الحدائق - وهي مفتحة ابوابها - فنأكل ما نشاء من الاثمار ، ونحمل ما نشتهي من أطايبها لا صاد يصدنا عنها، ولا مانع يمنعنا منها !

كنا كالعصافير تنطلق من اوكارها خماصا فتعود بطانا، وكنا نعبث ما حلا لنا العبث، حتى إذا ولجنا باب بستان بدا علينا ما يشبه الرصانه والوقار، فما تتمكن

اشترك في نشرتنا البريدية