- الحلقة الثالثة . في حي الشارع المهجور
بعد أن غادر جابر المستشفى وجرحه لم يبر - بعد - معارضا بذلك فكرة الاطباء القائلة ببتر رجله . . اتجه هو ورفيقه سليمان الى حي الشارع المهجور حيث تقطن المرأة العجوز التى قال له عمه : ان لها صلة قرابة بأمه ، والتي كان قد عثر سليمان على مكان دارتها بحى الشارع المهجور
وبجانب المستشفى والى ان يحضر سليمان سيارة اجرة تنقلهما للمكان المقصود ، بسط سليمان فراش جابر له ، وبعد أن استراح جابر على فراشه رفع يديه الى الله داعيا وقال : اللهم انى خرجت من مكان التداوى لا عن رغبة منى عن التداوى فما أنزلت من داء الا وأنزلت له دواء انك انت الشافى ومنك الداء والدواء ، وبحولك وقوتك ارجو منك الشفاء غير قانط من رحمتك القريبة من المؤمنين الصابرين فى الباساء والضراء يا أرحم الراحمين . . وقد تبع هذا الدعاء بقطرات ساخنة من الدموع أخذت تنساب من على خديه انسياب الماء في الجداول . . دموع ناابعة من عروق لازمها السهد واضناها الالم . . لكنه لم يلبث أن أتبعها ببسمة أمل وتفاؤل ارتسمت على محياه . . فزادت ايمانه قوة وعزيمته مضاء ، وصبره جلدا
وعلى الرغم مما يعانيه جابر ورغم الموقف الحرج الذي يلازمه والحال التى هو فيها واللازمة التى يعيشها فان طيف ليلى ومرابع عشيرته لم يبرحا مخيلته انهما مؤنساه الخفيان -بعد الله - في غربته وسلوته في
ساعات حزنه واكتئابه وكان يتمثل بالبيتين التاليين من قصيدة لعنترة قالها وهو في حومة الوغى وميدان الطعان وقد حفظهما من بعض الاصدقاء المتعلمين الذى كان دائما يرددها أمامه :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لانها
لمعت كبارق ثغرك المبتسم
وبينما كان جابر فى تفكير عميق سرح به الخيال الى ان تردد فى فكره الخراطر التالية : ليت شعرى كيف حال عمى وليلى والعشيرة فقد انقطعت عنى اخبارهم ولم أعد اسمير عنهم الا النزر اليسير من الاخبار التى تردنى من رفيقى سليمان وهي لاتشفى غليلى ؟ ربما ظن عمى وظنت ليلى اننى اصبحت موظفا وان عودتى سالما غانما باتت قريبة . . لكنهم لا يدرون ان الاقدام عليها احكام . . اننا نريد والله يفعل ما يريد .
فلله الحمد وهو على كل شئ قدير .
أفاق جابر من تفكيره العميق على صوت منبه سيارة الاجرة التى أحضرها سليمان ، ونزل السائق وتعاون مع سليمان وحملا جابرا وأجلساه على المقعدة الاخيرة منها وسار ثلاثتهم في اتجاه حى الشارع المهجور وما هى الا دقائق حتى وصلا اليه ، فقال صاحب السيارة . . لسليمان : أتريدان المداوية ؟ فقال سليمان نعم ! قال : ذاك بيتها ، (وأشار اليه بسبابته اليمنى) ونزلا من السيارة وتعاونا على حمل جابر حتى باب دارة المدااوية . وهناك استأذن سائق سيارة الاجرة بعد ان دفع له أجره . وبقى جابر وسليمان على الباب ،
من الداخل يقول : ادخل ! فدفع سليمان الباب وولج الى داخل البيت واذا به امام عجوز شمطاء قابعة فى ديوان وأمامها العديد من الاعشاب تهرسها في مدق كبير من حجرأسود قديم وعلى وجهها لثام من نوع لثام الاعرابيات ، وكانت مربوعة القوام ذات صوت ضخم ، فسلم عليها جابر واخبرها بأمره فقامت معه وأدخلته فى حجرة صغيرة وألقته على سرير أعد لمثله من المرضى ، وباشرت في اعطائه الوصفة الاولى من العلاجات وأوضحت لمرافقه المأكولات المرخص له بأكلها والمأكولات التى يجب ان يمتنع عنها ووعدته بعد توفيق الله بالشفاء . . فطلب منها سليمان ايضاح تكاليف العلاج
قالت له : انا لا اشترط على احد شيئا ولكن متى شفى المريض واعطانى شيئا فأنا آخذه ، وهذا دأبي منذ بدأت مزاولة هذه المهنة .
ومضى الاسبوع الاول وحالة جابر فى تحسن مستمر . وفى بداية الاسبوع الثاني تمكن سليمان من ان يذهب الى المكان الذي يتجمع فيه رفاقه من اصحاب القوافل فالتقى بأحدهم واخبره ان كل شىء فى الديرة والعشيرة على ما يرام .
وقد من الله عليهم فأنزل عليهم الغيث وسالت أوديتهم وجرت شعابهم ورويت ركبانهم وضيعاتهم بعد القحط الذى لازمهم فترة من الزمن . واخذت مواشيههم ودوابهم في الانتعاش وبدأت تدب فيها الصحة من جديد بعد نمو الاعشاب البرية واخضرار الاشجار الكبيرة . . فسر سليمان لهذا النشأ الذى تبتهج به نفوس كل أبناء
ودار بينه وبين رفيقه حمدان رسوله للعشيرة هذا الحوار :
سليمان : ماذا عن عم جابر وأسرته ؟ حمدان : كلهم بخير !
سليمان : وهل بلغهم ما حدث لجابر ؟ حمدان : لم يبلغهم عنه شئ . .
سليمان : جابر - والحمد لله - على وشك الشفاء من الداء الذى انهكه ان شاء الله .
حمدان : لكن عم جا جابر في قلق على جابر اذ لم تصله منه بعد سفره حتى اليوم رسالة يطمنه فيها عن حاله الصحية ، وحاله الاجتماعية خاصة من ناحية حصوله على عمل في البلد
سليمان : لقد اتفقت مع جابر على أن يكتب رسالة لعمه يخبره فيها بوصوله سالما وانه الآن بخير وصحة وانه يعمل بالأجر اليومي باحدى العمارات الى أن يتمكن من الحصول على عمل وظيفى يناسبه . وها هى الرسالة خذها وسلمها لعمه واياك أن تخبره بشئ من أمر جابر غير ما في الرسالة .
عاد سليمان الى جابر وأخبره بالأمر - مفصلا - فارتاح لما حدث ، ولما سمع من أخبار مراتع صباه وخاصة خبر هطول الامطار عليها التى منها معيشتهم وقوت دوابهم
لم يبق على انتهاء الاسبوع الثاني سوى ثلاثة أيام وقد لمس جابر تماثله للشفاء واطمأن على اندمال جرحه . ففاجأ سليمان بقوله :
جابر : أرى أن تنصرف الى مشاغلك وتعودنى فى كل اسبوع مرة سليمان : لا بل سأبقى معك حتى تبرأ نهائيا . .
جابر : أنا أصر على انصرافك لمشاغلك الخاصة بك لئلا تتعطل . . ولك اذا استطعت أن تعود الي مرة في كل أسبوع كما قلت لك آنفا وهذا من أجل مصلحتك أيها الصديق العزيز .
سليمان : ما عملته نحوك ليس سوى ما يمليه على ضميرى وما دمت مصرا على سفرى فسأرحل في هذا اليوم وسأعود اليك في آخر الاسبوع ان شاء الله وقد أوصيت " مداويتك " بك خيرا وتركت عندها ما يكفى مؤونتك وطعامك . حتى حضورى .
جابر : شكرا كثيرا والى اللقاء أيها الصديق الوفي النادر وفاؤه بين أصدقاء هذا الزمان .
سليمان : الى اللقاء . .أرجو أن أراك وقد من الله عليك بكامل الشفاء . .
وغادر سليمان " حي الشارع المهجور " فى طريقه للبادية تاركا أحاسيسه تتفاعل مع أحاسيس جابر الذى ما كان ليفارقه لولا اصراره المصمم على فراقه من ذلك اليوم بالذات .
أما جابر فقد بقى الى جانب " مداويته " الدائبة على معالجته ، مستعينا على وحدته وغربته ومرضه بالصبر والايمان حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا .
( الطائف )
