القصصي، علية بنت المهدى

Share

((خاصة بالمنهل))

كان الليل من ليالي الربيع الضاحك الطروب ، وقد شاعت نشوة الحياة الغضة فى هذا العصر الذهبى - عصر امير المؤمنين الرشيد  .

وأوى الطير الى اوكاره ، وقام الزهر في أكمامه وسكن الناس ، وهذا الكون إلا من ومضات النجم الساهر ، وأطل القمر بوجهه الزاهر على البنيام ، وأسكر النسيم برياه الانام .

وكان امير المؤمنين متكئاً على اريكته تحت ضوء مهباح عسجدى جميل في قصر الخلد يقرأ شعراً من اشعار الجاهلية حتى جاء الى قول ابن الحلاج :

صحوت عن الصبا والدهر غول          ونفس المرء آونة فتول

ولو اني اشاء نعمت حالا      وباكرني صبوح او نشيل(١)

ولاعبني على الانماط لعس      على افواههن الزنجبيل

ثم ذهب الى مخدعه ، واطمأن في مضجعه ساعة ، ولكنه ما ما لبث أن نهض وسار في غرفته جيئة وذهاباً ، وجعل يفكر وكأنما أهمه امر من الأمور ، ثم توضأ ، واخذ يصلى لله ركعات كعادته حين كانت تؤرقه الهموم .

وبعد الصلاة لبس رداءاً اسود ، ودراعة(٢) من الديباج ، ونادى جاريته فأقبلت مسرعة فى إهتمام :

- لبيك يا سيدي . . لبيك . . قال لها الرشيد : - هاتي لي قليلا من الطعام يا خالصة . .

فذهبت وعادت باناء من ذهب فيه جشيش الارز والحنطة المخلوط بالحلوي وفي يدها الاخرى ملعقة فجعلت تلعقه شيئاً فشيئاً . وكان الرشيد يتناوله في بعض حالاته ، ويرى انه نافع للاطراف وتشنج الاعصاب وصفاء البشرة ونقاء الدم . حتى اذا اكتفى نادي غلمانه :

- هاتوا حماري . !

وكان له حمار اسود قصير الساقين يركبه فى بعض نزهاته ، فركبه ومضى ومعه طائفة من الخدم فيهم ابو هاشم مسرور الفرغاني أوثق خدامه عنده وكان جريئاً عليه لمكانته . فلما بارح باب القصر قال له مسرور .

- اين بريد امير المؤمنين فى هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ فقال الرشيد :

- أريد منزل ابراهيم الموصلى ، فاني اشتقت ان اجلس معه لأزيل ما فى نفسى من الهموم .

فسكت مسرور ، ومضى الرشيد حتى انتهى الى منزل ابراهيم فطرقه وخرج الخدم فاذا امامهم امير المؤمنين ، فاسرعوا الى سيدهم ، وايقظوه من نومه ، ونهض ابراهيم فارتدى ثيابه واستقبل الرشيد وهو يقول :

- يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك ، أفى مثل هذه الساعة تظهر . ؟ قال :

- نعم شوق طرق بي ... - على الرحب والسعة يا سيدي ، وأهلاً بمقدمك الميمون ونزل الرشيد فدخل الأيوان وجلس على سدته ، فقال ابراهيم : - أتنشط يا سيدي لشئ تأكله ؟

- نعم وما هو ؟ - خاميز(١)ظبي - آتني به ، فاني أحبه

فاسرع الخدم فاحضروه ، وتناول الرشيد منه شيئاً ، ثم قال : - هل لك فى شئ من اللعب يا إبراهيم ؟

فأجاب : - إذا اذن أمير المؤمنين

واخذ الاثنان يلعبان جانباً من الوقت ، ثم نهض الرشيد ، ومشى فى الايوان قليلاً ثم جلس فقال له إبراهيم :

- هل أسمعك صوتاً ؟

فقال : - أسمعني !

ثم قام وركب حماره وذهب الى اخته علية من ساعته وطرق بابها ، ففزعت لمقدمه فى هذا الوقت المتأخر من الليل ، فقال لها :

- لاتفزعي يا علية . . أني أشتقت أن أزورك في هذه الساعة

قالت : - مرحباً بك يا أخي ، وأهلا وسهلا

ثم دعث بجواريها فنصبن الأيوان ، واحضرت له ماذمن الطعام والفاكهة فأنس بلقياها وانزاحت الهموم عن صدره واقام عندها حتى الصباح .

كان هارون الرشيد يجب اخته علية حباً شديداً ، وكانت اديبة فنانة ، وقد ولدت ) ١ ( لأبيه المهدي من جارية جميلة الوجه تدعى " مكنونة " ، وكان المهدى يحبها حتى كانت زوجه - ) الخبزران ( تنفس عليها هذا الحب ، وتغير منها غيرة شديدة ، وتقول : " ما ملك المهدى امراة اغلظ على نفسى من مكنونة "

وقد كانت علية كامها مليحة الوجه واسعة الجبهة اتساعا كانت تتخذ لاجله العصائب المزدانة بالذهب والفضة والجواهر النفيسة ، فكانت نساء بغداد

بقلدنها فى ذلك ما عدا " زبيدة " زوج الرشيد ، فكانت لا تتحلى بالجواهر الا فى خفيها لفرط جمالها .

وكانت علية رقيقة العاطفة سريعة التأثر شأن أرباب الفنون ، فنظمت الشعر واهدى اليها الرشيد غلاماً يدعى " طلا " وكانت لها جارية تدعي ) خلوبا ( جميلة الوجة ، فدخل عليها يوماً أخوها إبراهيم بن المهدن وقد جلست على أريكة ولبست أجمل ثيابها ، وفوق رأسها خلوب " ممسكة بالمذبة لتذب عنها كعادة سيدات ذلك العصر ، فسلم ابراهيم ، وجلس ، ثم قال لها :

كيف أنت يا أختى جعلنى الله فداءك :

قالت : - بخير يا أخي ، والحمد لله

فقال ؛ - وكيف صحتك وحال نفسك ، وكيف هناؤك في حياتك ؟

قالت : - بخير ، أشكر الله

ونظر الى خلوب وتشاغل بالنظر اليها ، ولحظت اخته ، فاستحيا وخفض رأسه إلى الأرض ، ثم رفعة . وقال :

وكيف أنت يا أختى جعلت فداءك ، وكيف حالك ؟

قالت في فتور : - أحمد الله

فقال إبراهيم : - وكيف ضحتك وحال نفسك وكيف هناؤك في حياتك ؟

فرفعت رأسها اليه ، وقالت : - سبحان الله .. أليس هذا قد مضى مرة ، وأجبنا عليه..!

فخجل إبراهيم ، وقام فى سكوت وإنصرف قام إبراهيم ، واستدعت علية جواريها تحادثهن ويحادثنها ، وبينما هي

كذلك إذ علمت ان أخويها الرشيد والمنصور يجلسان فى قصر الخلد ، فبعثت اليهما ببعض جواريها وإذا باسحق الموصلى ، وما ان راه " طل " حتى قال له :

- أني في إنتظارك يا سيدى ، أمرتني مولاتى علية ان أدعوك اليها.

فانصرف معه الى قصر علية ، ودخل غرفة معدة فيها ما لذ وطاب من الطعام والفواكه والحلوى ، واذا ستارة منصوبة ، فجلس اسحق ، ودخل طل وخرج يقول :

- تقول لك مولاتي : انا اعلم أنك غدوت الى امير المؤمنين بصوت جديد قد اعددته له فاسمعنيه ولك جائزة سنية تتعجلها ، فقد يسمعه امير المؤمنين فلا يقع منه موقعاً حسناً ، فيذهب سعيك سدى .

فقبل اسحق واندفع فى صوته فاستعادته مراراً حتى حفظته واسمعته اياه ثم قالت :

-كيف تراه ؟

قال : - أرى والله مالم ار مثله

قالت لجاريتها : - يا خلوب ضاعفي له الجائزة

فاحضرت له عشرين الف درهم وعشرين ثوباً ، ثم أحضرت له مثلها وقالت علية :

- يا اسحق ! هذا ثمنه . وانا الآن ذاهبة به الى امير المؤمنين واخبره انه من عملى ، وانى اعاهدالله ان نطقت بان لك فيه دخلا لأقتلك ...!

فخرج من عندها وماجسر ان ينطق به . وذهبت به الى اخيها الرشيد ، فاثنى عليها ثناءاً جميلا . . وقال لها : " ياعلية انى مسافر الى الري فهل لك فى مرافقتى ؟ "

قالت : - يا أخي ، وهل عهدتنى رفضت لك طلباً ؟

قال لها :  -إذن تجهزى من الغد

وخرج الرشيد الى الري ، وهي في ركابه حتى اذا صار بالمرج بالقرب من همذان إشتاقت الى بغداد ، وكتبت شعراً وأنشدته :

ومقترب بالمرج يبكى لشجوه         قد غاب عنه المسعدون على الحب

اذا ما أتانا الركب من نحو أرضه            تنشق يستشفى برائحة الركب

فلما سمعها الرشيد أمر بالعودة إلى بغداد

عاد الرشيد وعادت علية معه وبقيت في صحبته ، وحضور الكثير من مجالسه الخاصة حتى توفي الرشيد ، فجزعت عليه جزعاً شديداً ، وهجرت المجالس واعتزلت الناس إلى ان جاء عهد المأمون فألح عليها بترك العزلة ، فكان يكثر من دعوتها اليه والجلوس معه ومع أخيه " أحمد بن الرشيد(١) " . وكان احب اخوته اليه واجملهم خلقاً واحسنهم نادرة وظرفاً

فخرج احمد يوماً للصيد ، فوقع عن دابته ، فاصيب برجة فى رأسه ، خلفت عنده صرعا مات به ، فحزن عليه المأمون حزناً شديداً ، وجلس يبكيه وبجانبه وزيره وكاتبه عمرو(٣)بن مسعدة ، فدخل عليهما احمد بن ابي داود ، فتمثل بقول الشاعر :

من الدنيا واسبابها       نقص المنايا من بني هاشم

فزاد بكاء المأمون ، وجعل يمسح عينيه ويغطى وجهه بمنديل معه وينتحب واخذ يتمثل :

سابكيك ما فاضت دموعي فان تغض         فحسبك مني ما تجن الجوائح

كأن لم يمت حي سواك ولم تنح             على أحد الا عليك النوائح

ثم التفت إلى " أحمد " وقال : " هيه يا أحمد " فتمثل بقول القائل :

عليك سلام الله قيس بن عاصم           ورحمته ما شاء ان يترحما

وما كان قيس هلكه هلك واحد               ولكنه بنيان قوم تهدما

فبكى ساعة ثم التفت الى عمرو بن مسعدة . وقال : " هيه يا عمرو " . قال : نعم يا امير المؤمنين .

بكوا حذيفة لم يبكوا مثله        حتى تعود قبائل لم تخلق

وكانت عريب وجوار معها يسمعن ما يدور بينهم فقالت : - اجعلوا لنا معكم فى القول نصيباً .

فقال لها المأمون : - قولي ، فرب قليل خير من كثير

فقالت :

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر       فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

كأن بني العباس يوم وفاته            نجوم سماء خر من بينها البدر

فاشتد بكاء المأمون وحزنه . وهنا دخلت علية بنت المهدى ، فقالت :

- يا أمير المؤمنين إن لنا فيك أعظم العوض ، وفي بقائك أحسن العزاء وان خير ما يذكر به الذاهب ادب تركه وفضل خلفه ، وقد خلف فينا " ابو عيسى ) ١ ( " من أدبه وشعره ما يجمل بذكره !

قال المأمون : " هاتي يا عمتي" فانشدت من شعر ابي عيسى قوله :

رقدت عنك سلوتي           والهوى ليس يرقد

واطار السهاد نو              مي فنومي مشرد

فقال المأمون " احسنت يا عمتى " ونهض فضمها اليه ، وقبلها فى رأسها قبلة قوية ، وكان وجهها مغطى ، فشرقت وسعلت . ولما عادت الى قصرها شعرت بالحمى تسرى فى جسمها ؛ فمكثت بها اياما وماتت ، وقد انتهت حياتها بقبلة .

اشترك في نشرتنا البريدية