- جلسنا نفكر ساهمين فى هداة الليل ..كنا خمسة نتحدث ... بعد غد ستنتهى الهدنة الأولى .. ونحن فى هذا الموقع سرية واحدة وأمامنا على بعد مئات الخطوات فقط عدد لجب من العدو . وقد كانوا طيلة أيام الهدنة يتوعدوننا وينتظرون اللحظة التى تنتهى الهدنة فيها لينقضوا علينا .. فماذا تقول يا حضرة الضابط ؟ ..
- أما أنا .. فقد قمت بواجبى .. وبرأت ذمتى .. وأرضيت ضميرى .. لقد أخبرت القيادة أن هذه السرية لا تكفى . وأن عدد اليهود المواجهين المتربصين عدد ضخم .. وأننا بحاجة لسرية واحدة على الأقل .. كما انه لاغنى لنا عن بعض المدافع والرشاشات .. وبعض الدبابات الخفيفة .. وإلا !...
- وإلا .. فالقضاء علينا هو النهاية الطبيعية المحتومة !.. فانظر اليهم إنهم يحسنون مراكزهم فى الليل والنهار ويحفرون الخنادق .. ويزداد عددهم .. ألم تر ذلك المدفع الضخم الذى رأيناه صباح اليوم منصوبا موجها فوهته نحونا .. إنه مدفع ٦ بوصة .. ( زنة قنبلته ١٠٥ رطل ) .. يحدث كل هذا على عينك يا تاجر !. على عين وبرغم أنف هيئة المراقبة !.. لكن ما رأى القيادة بهذا كله !!.
- ترى القيادة أننا نكفى لهذا الموقع .. وقد يكون ما أظهرنا من بطولة وما أحرزنا من نصر فى معركة بيت تيما .. وتغلغلنا إذ ذاك إلى الكوكبا والحليقات والمدرسة . واستيلاؤنا على هذه المواقع التى كانت بيد اليهود .. هو سبب ٥٠٩
اعتماد القيادة علينا هذا الاعتماد المطلق !... ولست أعزو موقفنا الآن إلى سوء تقدير .. معاذ الله .. ولكن أعزوه إلى ثقة زائدة عن الحد واللزوم !...
- ولكن قال تعالى : ((ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة)) !.. فأنا أرى انه ينبغى لك أن تراجع أولي الامر مرة ثانية علهم يعيدون النظر فى قرارهم وتقديرهم ... نريد أن لا يكون نصيب هذه السرية الفناء !...
- لا أظن أن هنالك فائدة فى المراجعة . . فجواب القيادة لي كان باتا وحازما .. ومن جهة أخرى لن أكون إلا عند حسن ظن القيادة بى وبكم - فالثقة الغالية التى حصلنا عليها لا نريد أن تذهب مع الريح !..
- ولكن يا أخى . لليهود عند هذه السرية بالذات تارات كبيرة ضخمة !.. لقد قتلنا فى معركة بيت تيما وحدها منهم حوالى ١٢٠ محاربا ومحاربة .. وقد أفزعتهم تلك الرؤوس التى كانت تتطاير فى الفضاء حين التقينا بهم وجها لوجه ..
فما أجبن اليهودى حين يرى السلاح الأبيض أو يراك تدهمه وتفجؤه وتقابله وجها لوجه !.. إنه عندئذ يتقلص .. ويصبح جرذانا حقيرا يطلب السلام والأمان !.. وهذه التارات بالذات هى التى تجعلهم يضاعفون قواتهم واستعداداتهم وأسلحتهم الخفيفة والثقيلة !...
- الله معنا !.. فلا تخف !.. ولكن الله يقول : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )) . قلت لك أن الله معنا .. ونحن ندافع عن حق .. لا باغين ولا عادين .. (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ))
- ولكن !! ... ( فيقاطعهم ) ...
- ولكن ماذا ؟!.. ألست مؤمنا !... ألست عربيا ؟!. فى غزوة بدر .. وكانت عدة العدو ١٠٠٠ محارب و ١٠٠ فرس و ٧٠٠ بعير - وعدة المسلمين ٤٠٠ محارب و ٢ أفراس و ٧٠ بعيرا .. وغلب المسلمون .. ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) وفى غزوة الخندق كان المسلمون ٣٠٠٠ والاحزاب ١٠٠٠٠ جاؤوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى زاغت الأبصار ٥١٠
وبلغت القلوب الحناجر وظن المسلمون بالله الظنون .. وأرسل عليه الصلاة والسلام ٥٠٠ مقاتل لحراسة المدينة خوفا على النساء والاطفال وهجم الأعداء من كل حدب وصوب .. فسلط الله عليهم ريحا شديدة ليلا .. وغلب المسلمون ! ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ... )
- ولكن ؟! .. ( فيقاطعهم ) ..
- ولكن ماذا ؟!.. حين نشر الاسلام ظله فى الجزيرة .. وخرج منها كانت امبراطوريات - رومانية - وفارسية ومدنيات يونانية ... ومدنيات ضخمة .. وأسلحة وعتاد . وفرسان .. وكان العرب حفنة من الحفاة العراة الذين نظمهم الاسلام .. ولكن ايمانهم كان أقوى من كل هذه الامبراطوريات والمدنيات .. وروحهم المعنوية كانت أعلى مما يتصورها العقل .. ففازوا وقهروا كل عدو وامتد ظلهم على تلك الدنيا الطويلة العريضة ..
- ولكن ؟! ... ( فيقاطعهم ) !..
ولكن !. وصلاح الدين .. لقد هجم على فلسطين العزيزة .. هذه التى نحن الآن بأرضها .. هجم عليها ملوك أوروبا بأسرها .. وفرسانها .. وجحافلها .. حتى ونساؤها .. وضاعت من العرب فلسطين كلها .. وقسم كبير من شرق الأردن ولبنان . وسوريا . حتى الإسكندرية كانت تهاجم .. وحتى أرسل الخليفة العاضد شعور بيت نساء قصره يقول : (( هذه شعور نسائى من قصرى يستغثن بك لتنقذهن من الافرنج )) .. رجع صلاح الدين عن الكرك ثلاث مرات . ورجع عن غزة مرات . وكاد أن يؤسر فى الرملة .. وكان يسأم من مصر فيغادرها الى الشام .. ويسأم من هذه فيغادرها إلى تلك . كان يوفق بين مختلف الآراء والمذاهب ووجهات النظر بين ملوك وأمراء العرب .. ويتغلب على ما يضعونه أمامه من عراقيل ويتغاضى عن كل حسد ويتناسى كل مؤامرة وجلس فى المصاعب والمشاق عشر سنوات : وتغلب .. وتغلب عليها كلها ..
وزحف لاستخلاص أولى القبلتين وثالث الحرمين بعزم صارم جبار .. وكان
فى الميادين ينظم صفوف جنده ويشرف على تقوية معنوياتهم وعزائمهم بنفسه - وحين نصره الله فى (حطين) وانهزمت فلول أوروبا استعاد القدس وحلب وعكا والرملة وصفد ويانا .. وكل البلاد التى اجتاحوها بجيوشهم الجرارة ...
- ولكن !؟. ( فيقاطعه الآن بشدة وحماس أشد ) !...
- ولكن !. ومليكك .. أسد الجزيرة .. عبد العزيز بن سعود .. دخل الرياض بسبعة رجال أبطال . وتألبت الجزيرة عليه .. وقاد جيوشه وجنوده واوقد فيهم العزم والمضاء .. وأسس ملكا ثابت الدعائم موطد الاركان ... ووحد الجزيرة .. كلها كان يؤمن بأنه سينتصر ، فنصره الله وثبت أقدامه .. وها الآن سبعون مليون عربى .. ومئات ملايين المسلمين تتجه انظارهم جميعا نحوه إن العالم كله يستمع لكليمة أسد الجزيرة .. انه عادل ..كان يتفادى كل شر .. ولا يقدم الا بعد أن ينفد كل سهم من سهام السلم والوداعة وتسوية الأمور عن طريق الود واللين والكرم والتسامح .. وقد تساهل العرب ثلاثين عاما من اليهود وتذرعوا بكل واسطة لحل مشكلة فلسطين بالطرق السلمية .. وكانوا يستمعون لكل كلمة تحتال بها وتخادع بها الدول ( الوسيطة ) !. التى تعطيك من طرف اللسان حلاوة .. والتى تظهر الود و ( وتموت) بصداقة العرب .. فما أجدت اية حيلة أو واسطة . وذهبت كلها أدراج الرياح .. وتشتت عرب فلسطين - نصف مليون عربى تحت السماء والطارق !. استعملوا كل حيلة ليبرهنوا لليهود على أن احلامهم غير واقعية قط . ولن يستطيعوا ان يعيشوا بين ٧٠ مليون عربى الا معيشة الرضا والود .. ويأبى هؤلاء الافاقون إلا ان يسلبوا أرض العرب . تربتهم ، تراثهم ، مقدساتهم ؛ وينتهكوا الحرمات ..
ويفتكوا بالاعراض !. وبالامس القريب كان عرض فتاة عربية واحد كافيا لاشعال حروب وتوريث ضغائن واحقاد بين قبائل العرب بعضها مع بعض الى عشرات السنين - فكيف الآن - وأعراض - أعراض المسلمين مسلوبة - وشرفهم مداس - وكيانهم مزعزع - لن يكون لهم احترام إلا إذا كسبوا معركة فلسطين ؟.. ٥١٢
ما بالك تصمت .. ولماذا سكت عن نغمة : ولكن! ...
- ولكن .. شططنا كثيرا عن لب الموضوع ! .. الموضوع الآن موضوع حرب فنية .. بحسب خطط ستراتيجية وخرائط مرسومة .. وتكتيك وحساب وتقدير .. وو .. ( فيقاطعه ) ! ..
- ياالله !.. كأنك رومل أو مونتغمرى وكأنك خريج ساندهرست أو .... كم كان العدو فى بيت تيما ؟.. ألم يكونوا عشرات أضعافنا ؟! .. ألم نذبحهم ذبح الشياه ؟!.. وفى بيرون اسحاق ؟!.. ألم ينصرنا الله نصر عزيز مقتدر ؟!.. وفى بيت عفة وعديس .، ألم نبيض وجه العرب وعبد العزيز ؟!.. أية معركة دخلناها وكنا غير منصورين ؟!.. كل منكم تفخر به عتيبة ومطير وشمر وعنيزة . الحوطة والعجمان وبنو شهر وبنو قحطان وبنو ربيعة وبنو مالك .. وكل قبيلة فى أية ناحية من نواحى الجزيرة !.. أنتم أبناء آبائكم العرب الاقحاح . لم تفسد قلوبكم مدنية مزيفة مترهلة .. بل سنأخذ من المدنية العقل والعمل والقوة . ولا مجال بيننا لكسول أو متخاذل أو انهزامى .. والقلب ! القلب يجب أن يبقى عربيا خالصا وبه نسود . وبه ننتصر .. وسنغنم فى الغد غنائم من العدو كثيرة ..
- نؤمل ونرجو ذلك ولكن ! ..
- قلت : لا مجال لتردد قط إنها معركة الحياة أو الموت . اما أن يحققو ميثاقهم الذى يسعون وراءه منذ ألفى سنة .. منذ هدم هيكل سليمان على يد الامبراطور الرومانى طيطس . والذى نشأ على أنقاضه المسجد الاقصى ( الذى باركنا حوله ) والذي يبكون على حائطه المقام مكان ( البراق ) .. اما أن يحققوا حلمهم بهدم المسجد الأقصى وإعادة بناء هيكل سليمان على انقاضه . ام أن يحققوا ميثاقهم التلمودى الذى يقول : ( لقد وعدتك يا إسرائيل من دجلة الى النيل ) ... إما أن يصلوا خيبر التى طحنهم فيها سيد البشر واستولى على حصنه فيها بعد أن أرسل أبا بكر فما فاز . فعقب بعمر فما فاز . فثلث بعلي ففاز واستولى على حصونهم وقتل منهم آلافا . وهم يحلمون بخيبر أكثر من حلمهم بفلسطين .. إما أن تكون لهم دولة إسرائيل التى ستمتد الى أجزاء البلاد العربية المذكورة .. وتحل محل الدول العربية ولديهم كل الامكانيات إذا تقووا ومد لهم الحبل بسبب ما لديهم من دولارات أمريكا وسلاح روسيا ، وشباب اليهود ملايين منهم ينتظرون ليتدفقوا علينا كالسيل العرم ... ٥١٣
اما ان يكون كل هذا ... واما . واما . فاذا صمدنا الآن فى معاركنا هذه فسنهزمهم وسنقضى على كل آمالهم ونبددها كما بددهم وشتتهم هتلر الذى لم يكن مخطئا قط فيما فعل .. بعد ما نرى من اطماعهم حين يمد لهم الحبل .. اما ان نثبت اننا احفاد خالد .. واسامة .. وابى عبيدة .. ومصعب .. والمهلب .. وعبد العزيز .. واما ان نفنى عن بكرة ابينا وليس من حل وسط فالعاقل التأنى فى الحرب لا ينتصبر ولا يغلب قال تعالى ( ان الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) وقال ابو بكر عليه السلام : ( لا يدع احد منكم الجهاد فانه لا يدعه قوم الا اضربهم الله بالذل ). وهل هنالك اثمن واعظم واجل من ان ينال الانسان الحظوة والحب من الله تعالى بالجهاد فى سبيله
عندما نقضى على الاحلام الصهيونية الخبيثة وتعود فلسطين عربية خالصة يستطيع أن يهدأ العرب ويعيشوا فى امان وطمأنينة .. اما الآن فلا استقرار لعربى
وبعد غد ... لم تنم هذه السرية قط ليلتذاك .. كانت اعصابهم متوترة كانوا آذانا صاغية .. كانوا كتلا بشرية متقدة كانوا ينصتون ويشكون بحركة النسمات والاعشاب وحفيف الاوراق .. وفى الساعة الرابعة ( افرنجي ) صباحا اى العاشرة عربى اعطيت اشارة من طلائع استكشافنا ان العدو يتأهب الزحف على مواقفنا فكنا اسبق اليه .لم ندع له مجالا ليزحف .. زحفنا عليه فى خنادقه .. واعمل جنودنا فيهم قتلا وتذبيحا كالنعاج لا يبقون ولا يذرون . وكانوا يرمون بالرؤوس المقطوعة الى الخطوط الامامية فيفر من فيها فتتلقفهم نيران بنادقنا ورشاشاتنا ومدافعنا
وغنمنا من العدو نعم غنمنا كما قال قائد السرية المسئول غنمنا منه مدفع هاون ؛ ورشاشات برن ، وبنادق ، وذخيرة كثيرة صناديق منها ... ولم نغنم لا اسيرا ولا اسيرة قط !!..
كانت جثث (٧٤) محاربا ومحاربة ملقاة فى وديان ووهاد ذلك الموقع الشمال من بيت تيما ..
اما الضابط القائد فهو محمد الهنيدى .. واما السرية فأطلق عليها (سرية النصر)
