بلغ (قاسم افندي) ما يطلقون عليه ( السن القانونية ) فى عالم التوظيف والموظفين و ( قاسم افندي ) هذا هو احد كبار مستخدمي الحكومة فى الحجاز فى أواخر العهد التركى ؛ واذن فقد احيل هذا الموظف الكبير القديم الى التقاعد ليحل محله فى خدمة الدولة من يكون أقوى منه على القيام بأعباء هذه الخدمة ، وأقدر على تحمل مسؤلياتها ممن لم يبلغوا تلك السن ولما يزالو فى دور الكهولة أو فى دور الشباب وفي الحق لقد جنى القانون أيما جناية على هذا الموظف الكفء النشيط وما اكثر جنايات القانون ! ولو أنها فى الغالب ليست عمدا وليست بسبق إصرار فعلى الرغم من بلوغ ( قاسم افندي ) حقيقة سن الستين ؛ وهي سن الإحالة على المعاش ، فإنه لما يزل الى ذلك التاريخ شابا بكل معنى الشباب ملء نفسه الفتوة والقوة ، وملء جسمه الحيوية والنشاط لقد كان أقوى على القيام بأعباء عمله الحكومى ؛ وأقدر على تحمل مسؤلياته الجسام من كثيرين من الشباب - دع عنك ما أفادته إياه تجارب السنين من خبرة ونضوج وما أكسبه مرانه الطويل فى شتى الأعمال من حنكه قلما تتاح لمن هم دونه فى السن من الشبان الأقوياء !
ومن حسن الحظ أن قد استطاع ( قاسم أفندي ) أن يجمع خلال خدمته الطويلة للحكومة ( قليلا من المال ) ولم يكن هذا القليل الا من متوفر راتبه ليس إلا لقد كان ( قاسم افندي ) حقا انسانا ( على الفطرة ) إن صح هذا الوصف فى مثل هذا المقام ، لم يكن يعرف هذا الموظف النزيه ؛ أو بعبارة أخرى لم يكن يستبيح لنفسه موردا كموظف - سوى راتبه الذى يتقاضاه فى نهاية الشهر ، اما ما عدا ذلك مما قد يتاح احيانا لأمثاله فقد كان ( شذرذ ) قاسم افندي في إبائه تناول أي شيء من هذا القبيل مما يدهش - الى حد بعيد - كثيرا من معاشريه !
وفي المعاش الذي اصبح يتقاضاه بعد أن أحيل إلى التقاعد ما يكفيه لتأمين احتياجاته كلها ، واذن فما أخلقه بعد ان ادى واجبه العملي فى الحياة وبعد ان منحه (قانون الدولة ) حق الاستراحة ، والعيش في ظلال السكينة والهدوء وبعد ان أصبح لديه من المال المتوفر ومن معاش تقاعده ما يكفيه لتأمين تلك الاحتاجات ما أخلقه بعد كل هذا أيستجيب لكل هذه الدواعي . وان يظل فى البقية الباقية له من العمر مرتاحا هادئا ؛ بعيدا كل البعد عن هذا العناء الذي لا مخلص من ان يتكبده العاملون جميعا وعن هذه الضجة التى لا مفر لهم من ان يخالطوها وتخالطهم ولو كانوا لها كارهين
وصاحبنا اذ يفعل ذلك لا يأتي أمرا بدعا بل هو يحذو فيه حذو جميع اخوانه المتقاعدين
لكن قاسم افندي! قاسم افندي الشاب ، قاسم افندي الذي جنى عليه القانون بإحالته على المعاش قبل الأوان قاسم افندي هذا يا يأبى الا ان يواصل جهوده العملية على الرغم من إباحة القانون له ان يستريح ولم لا يعمل ؟ ولم لا يستمر فى ان يعمل وأن يعمل الى ما شاء الله وقد منحه الله القدرة على هذا الاستمرار ؟ !
ويظهر هذا الموظف القديم العهد بالرسميات اروع الامثلة على انه فى الميدان التجارى ميدان ( عمله الجديد ) لا يقل عن أمهر رجاله مرونة وكفاءة ونشاطا لم يكن رأس ماله فحسب ذلك ( القليل من المال ) الذي انتهى اليه بعد ان انتهى من تأدية رسالته الاولى ... بل كان ( رأس ماله الآخر ) طموحه وارادته ومرونته ونشاطه ثم أولا وأخيرا استقامته التى كانت لدى جميع عارفيه مضرب الامثال .
هذا النجاح المرموق هذا النجاح الذى ما فتئ يرافق على الدوام هذا الموظف القديم والتاجر الكبير منذ ان خاض معمعة الحياة شابا وكهلا وشيخا هذا النجاح السعيد ما كان أجدره حقا ان يجعل من حياة هذا الرجل واحة خضراء مملوءه بأفانين السعادة والهناء ولا يكدرها أى ألم أو شقاء
لكن الحياة!.. لا مناص فيها من الألم ، ولا محيص فيها من الهم ولا مندوحة فيها من الشقاء ، وقاسم افندي الرجل الناجح الموفق السعيد ، لابد أن يتألم ، ولابد ان يبتلى بشيء من الفشل والإخفاق ، ولابد أن يشقى ، وهو اذ يشقى انما يشقى بأقرب الناس اليه ، إنما يشقى بابنه ( سليم ) هذا الابن الذي لم يشأ القدر أن يكون شبلا من ذلك الأسد وأن يرث أى خصلة من خصال أبيه؛ وان تجدي نفعا معه شتى المحاولات فى سبيل إصلاحه ؛ ثم فى سبيل تعليمه ، وأخيرا فى سبيل تدريبه وإعداده لأن يكون رجلا.. ومن ثم ليحل محل أبيه يوما ما في إدارة أعماله الواسعة تلك التى لم تكن لولا عصامية هذا الأب شيئا مذكورا .
كان سليم هذا ذكيا ولكنه نشأ فى أحضان الدلال ، وترعر في ظل الرخاء وشعب على عقيدة انه من ابناء الاثرياء الذين لهم من ثراء اهليهم ، وما سيصل اليهم من ميراثهم ، إن عاجلا او آجلا مندوجه عن هذا الهم الذى يفرضه عليهم التعليم فما اكثر ماحاول له ابوه ان يستمر فى مدرسة الرشدية ، وهي المدرسة الحكومية الوحيدة فى مكة فى عهد الاتراك ، ولكنها محاولات كانت كلها عقيمة ، وأبى سليم الا أن يثور على أبيه ، والا أن يثور على العلم ، ومن ثم إلا أن يثور على كل محاولة من محاولات إصلاحه وتقويم اعوجاجه ، فما هو الا وقد اخذت احواله تسوء وتسوء ؛ كنتيجة محتومة لهذه الثورة الذعناء ؛ وما هو الا وقد بدأت تتطور هذه الاحوال من شيء الى أسوء ، وما هو الا ان اضاف الى ) الجهل ( - ) سوء الاخلاق (
كانت البيئة فى ذلك الوقت هي العامل الاول فى هذه النهاية التى انتهى اليها سليم ؛ فقد كانت روح التعليم أقرب الى الموت منها الى الحياة ، وكان الأكثرون من الناس - الا من شذ - ينظرون الى أى تعليم بنفور واشمئزاز ، ويكاد يكون من العيوب الفاضحة فى محيط المتمولين ان يبعثوا بابنائهم وفلذات أكبادهم الى دورة العلم ، لأن معنى ذلك الاحتياج إلى توظيف هؤلاء الأبناء ، وهم أنأى الناس عن هذا الاحتياج!!
لم يكن قاسم افندي طبعا من هذا الطراز ، ولم يكن ممن يحملون هذه الفكر الخاطئة عن التعليم وعن العلم ، ولذا فإنه فكره غير ما يفكرون ، وحاول ان يفعل غير ما كانوا يفعلون ولكنه أخفق فى كل تفكيره ، وفي كل محاولات ، واندفع ابنه مع تيار البيئة الجارف ، لأن تأثير هذه البيئة كان أفعل فى نفسه من تأثير أبيه !
وحم القضاء وجاء اليوم الموعود ؛ وانتقل ( قاسم افندي ) إلى رحمة مولاه وتحقق ما كان ينتظره سليم ؛ إذ آل إليه ذلك ( الميراث العظيم ) الذي طالما كان به من الحالمين
ولو أن الجهل وحده كان الداء الذى منى به سليم وكفى ، اذن لكان ميسورا له - وميسورا جدا - أن يهيمن على هذا الميراث هيمنة من يستطيع المحافظة عليه وأن يدير أعمال أبيه بمنتهى السهولة التى يدير بها مختلف الأعمال التجارية كثيرون من أمثله ممن حرموا العلم وعاشوا فى عداد الجاهلين .
لكنه الجهل ومضافا اليه ( اخلاق الضعفاء ) من جبن وخور وتردد ، ومن صغار فى النفس ، وسقوط فى الهمة ، وركود فى الضمير ، ومن ضعف فى العزيمة وفقدان للإرادة ؛ وعدم القدرة على مواجهة أى صعوبة من الصعوبات ؛ أو يحمل أى مسئولية من المسئوليات ؛ ولا تنس ما ساقه إليه ميراثه ، وما ساقه اليه فراغه ، وما ساقته إليه أخلاقه ملك من انغماس فى حمأة اللذة ، وتورط ما بعده تورط فى أخلاق السوء والفساد
كل هذه الادواء التى أصيب بها سليما ، كانت كفيله بأن تهلك الحرث والنسل وأن تقضي على ذلك الميراث خلال سنوات معدودات !
لم يستطع سليم بعد أن أضاع ما وصل إليه من مال غير قليل أن يعيش فى عهده الأخير موظفا على الأقل ، كما كان أبوه يعيش فى عهده الأول ، لأن ما تتطلبه الوظيفة من مؤهلات لم يكن متوفرا لديه
قال محدثي : -
وكان الزائرون لمنزل ( ٠٠٠٠ ) أحد الوجهاء المعروفين منذ ربع قرن يرون على الدوام فى إحدى الغرف المجاورة لمدخل ذلك المنزل ( انسانا متهدما ) يحمل من مظاهر الشيخوخة الفانية ما يبعد كل البعد عن سن الشباب الذي لم يجاوزه بعد ذلك هو ( سليم قاسم ) طاهى المنزل .. . . بل ذلك هو ربيب النعمة والثراء والذي كان فى عهد من عهوده التى تولت مع الماضى القريب من كبار الوراث المعدودين!
مكة المكرمة
