التطور ضرورة لازمة فرضتها نواميس الحياة على الافراد والامم فكان من المستحيل البقاء على حالة واحدة لا تغير فيها ولا تحول عنها سواء كان ذلك بتقدير الإنسان وعمله أو بمقتضى سنة الكون الطبيعية . ويختلف سير التطور باختلاف
العوامل التى دفعت اليه والدعائم التى ارتكز عليها فيكون تطورا تقدميا تارة وتطورا رجعيا تارة أخرى ويكون فى بعض الاحايين تطورا عنيفا يكتسح كل ما يعترضه كما يكون فى بعض الاحايين الاخرى بطيئا
متسكعا وذلك حسب الوسائل التى يتذرع بها والقادة الذين يضطلعون باعبائه وكما تملية الحياة المحيطة به ومستوى البيئة التى يكون فيها وليس للتطور بحكم العادة زمان خاص أو قاعدة معروفة يستطيع الانسان لحصره فيها
وتحديده بها ولكنه متهئ دائما ليصدع بوحى الواقع ودواعى الاقتضاء . وهو كذلك لا يسير على وتيرة واحدة يكون عاما يتناول كثيرا من النواحى ويكون خاصا فى ناحية لا يتجاوزها ولكن مهما كان لون التطور وصيغته فهو نتيجة للتطور الفكرى على كل حال .
وانا إذا اردت اجابة " المنهل " الأغرب ولا مجيد عن ذلك - بعرض مدى تطورنا الفكرى فى خمسة وعشرين عاما فلابد لى من أن أمهد لهذا العرض بالماعة عاجلة عن العوامل التى سببت هذا التطور والبحث عن هذه العوامل يرجع بنا الى الحرب العالمية الاولى فقد كانت تلك الحرب حافلة بانقلابات عالمية شاملة لم تقتصر على شعب دون شعب وان اختلفت بواعثها ودواعها وتباينت طوابعها
تأثيراتها . وكان من نتائج تلك الانقلابات أذ دخلت بلدان الشرق الأوسط فى وطور من أطوار الحياة جديد كان من تأثيره التحول التى بدأت ارهاصاته تهئ هذه البلدان لثورة فكرية جامحة اختلفت باختلاف البيئة والمؤهلات فلم تكن بلادنا فى المقدمة كما لم تكن فى المؤخرة فقد حفزها طماحها وما تتلقفه من اخبار العالم وسباقه فى ميادين العمل المثمر والكفاح الصادق . الى مسايرة الركب المندفع فكان ذلك نواة تطورها الفكرى الحديث وبدأت تشعر شعورا عاما بانطوائها وعزلتها وخمولها وبالاوضاع التى زجت اليها بادىء الامر ثم استساغتها فأصبحت من تقاليدها التى تدين بها وتحرص عليها .
وهكذا ظل هذا الشعور المتوقد بضع سنوات طلاب كل حلم ، وخيال كل امنية ، يتوثب للانطلاق عند كل مناسبة وتثور به الانفعالات النفسية دائما ولكن تقعد الحواجز القاهرة بالشاعرين به عن تحقيق ما يصبون اليه وتعميم الاسباب ، حتى استقبلنا عهدا جديدا منذ خمسة وعشرين عاما ...فما هى تطوراتنا فى هذه الحقبة من الزمن ? او ماذا كان اثرها المباشر ?
إن ابرز مظاهر تطورنا الفكرى تتمثل فى فهمنا لمعنى الحياة الصحيحة فهما يتمشى مع روح العصر الحاضر وفي ازدراء كل ما كان يغشى تفكيرنا من عنعنات بالية واتجاهات قاتمة وعادات مهلهة ، وكان من لوازم يقظة هذا الوعى الذى بعث تطورنا الفكرى الرغبة الملحة فى سحق تلك العوائق التى كانت سدا سميكادون ما كان يعتمل فى النفوس من طموح . وفهم معنى الحياة كما ينبغى ان تفهم ، أصل تنشعب عنه فروع تمس نواحي الحياة المختلفة وتنشئ فيها ضروبا من الوسائل التى تؤدى بها الى المثل التى تحتذيها ، وتجهد وراء بلوغها والى نبذ كل ما يتعارض مع مبادئ تطورها ، فها أنت ترى الاندفاع الى التعليم اندفاعا شديدا تساوت فيه الطبقات على اختلاف نزعاتها ومراكزها الاجتماعية . فهل كنت تسمع قبل هذا التاريخ أن من آبائنا من كانت تسمح نفسه أن يفارق ابنه ويبعث به بعيدا عنه فى سبيل التعليم ؟ ولا سيما ما يتعلق بالصناعة والأعمال منه . . إلاما كانوا يتخيلونه مكملا للحياة الناعمة ، ولازما للوجاهة الشكلية . . ولكنك ترى اليوم
غير ما كنت تسمعه أمس . . فهؤلاء الآباء يتشبثون بكل ما يستطيعون لارسال ابنائهم للتعليم الى داخل المملكة وخارجها ؟ وقد يكون من الاباء من ليس له سوى ابن واحد وقد يكون منهم من هو فى حاجة ماسة الى مساعدة ابنائه فى تكاليف العيش ، والى جانب ذلك ترى الابناء أنفسهم يتزاحمون فى هذه السبيل وينزحون الى طلب العلم مطرحين كل ما يتمتعون به فى بيوت آبائهم من رغد وعطف وحنان . وها انت ترى كيف نبذنا حياة الكسل والخمول ونشطنا الى العمل الشريف كيف ما كان نوعه ومهما كانت متاعبه فى شتى نواحي حياتنا التى بدأنا نعالجها بأساليب تشف عن يقظة فكرية توجه الجهود الى ما نستهدفه من نفع ونجاح ، غير عابئين بتكبد المشاق والاغتراب ، ولا بما كان يسود الاعتقادات القديمة فى مزاولة بعض المهن والاعمال صدو فاعنها واستهجانا لها ؟ ! وبالاضافة الى اقبال الناشئة على التعلم والابتعاث والجندية والطيران وبالاضافة الى تحمل الشباب للمسؤليات فى مختلف ميادين العمل اولئك الذين يعتبرون مقاييس دقيقة تسجل لنا مدى تحول افكارنا واتساع آفاقها - فلنعرج على جوانب اخرى من حياتنا الحالية ، ولنقرأ ما تنشره صحفنا من أفكار وآراء ومقترحات حول اوضاعنا الخاصة ، وتعليقات على الأحداث العامة ، وموضوعات فلسفية واجتماعية وفنية ، فان فى الصحافة دليلا على التطور الفكرى ومداه .
على أن هذا كله وان كنت اراه معك تطورا اجتاز مرحلة لا بأس بها فهو لايعدو ان يكون طليعة لتطور ابعد اثرا ، واكثر نتائج ، وانضج فائدة ، وانا لنرجو له الاتزان وعدم التطرف ليحقق لهذه البلاد أمانيها التى تعمل لها ، حكومة وشعبا ، يصدق وإخلاص . . فنحن كأمة لم تعتمد على غير ابنائها وتراث اجدادها لا بدلها فى توجيه حياتها والعروج بها الى المستوى اللائق بها ، من ان تسير افكارها فى مقدمة تطورها على ضوء تاريخها الماضى المجيد ببصيرة وحزم واعتدال .
الطائف
