فاول ما شهدت في هذه الدنيا العجيبة سرعة المواصلات وسهولتها حيث انها لا تكلف الانسان شيئا سوى ان يضمر فى قلبه المكان الذي يريد زيارته ويغمض عينيه برهة واذا به انتهى سفره وبلغ مقصده بدون ان يشعر بخسارة مادية اوتعب جسمى .
وفى رأى انه - مهما بلغت سرعة المواصلات في عالمنا الحسي ومهما تنوعت التسهيلات التى تجرى للسواح والرواد لا تعدان شيئا مذكورا بجانب هذه السرعة الخارقة فى مواصلات دنيا الخيال ولا يتعجب الانسان اذا علم ان جميع مخترعاتنا كبيرها وصغيرها عظيمها وحقيرها ، ما هى سوى قطرة من هذا البحر الخضم الا وهو عالم الخيال .
وانى كنت قد اتصور قبل اليوم دنيا الخيال هذه ، كدنيانا لا من حيث الكمية فحسب بل كنت اظنها مشتملة على مدن وقرى وممالك ومتاجر ومعامل ومزارع وغير ذلك من حيوانات ونباتات وجمادات ، مما نعم به عالمنا هذا ، وكم اندهشت لما وجدت دنيا الخيال خالية من كل هذه الأشياء فما هى الا ارض واسعة جدا ، هذا اذا لم نقل : لاحد لها ، فانك كلما تعمقت فيها ازدادت اتساعا وانبساطا وليس فى هذه الارض من العمارات شئ سوى ابنية متعددة . فمنها ما هو شامخ حتى يكاد يفوق ناطحات السحاب ، ومنها ما هو على طبقة واحدة ، ولكنه مع بساطته أجمل بكثير من مساكننا نحن . وكل بناية من هذه البنايات محتوية
على منارة فى غاية الارتفاع شبيهة جدا بمداخن المعامل الكبيرة ومن هذه المنارة والمدخنة تنطلق اسلاك كثيرة وتذهب الى حيث لا ادرى اذ لم أر لها اعمدة تقودها ،و لا مقرا تنتهى اليه . وبعد ما فكرت طويلا فى امرها ترجح لدى انها مراكز مخابرات فقلت لرفيقي :
إن كانت هذه العمارات للمخابرة فأي عمل تؤديه . والحال انه لا يجد عندكم شئ سواها ؟ فتبسم كعادته قائلا : -
ان هذه المراكز يا أخي ليست تلغرافية تماما كما تظن ، وان كانت فى الحقيقة تؤدي عملا اسمى وتقوم بخدمة أجل من آلات المخابرة . سلكية كانت أو لا سلكية فقلت كيف ذلك ؟
قال : نعم . ان هذه الابنية عبارة عن اندية . وستقرأ اسم كل واحد منها امام مدخله . ومن هذه الاندية ؛ تستمد أولئك الرجال العظام وتثمر تلك القرائح ، بدائع الافكار ، وعجائب الاختراع والاستنباط ، كما يستمد منها كل انسان من دنياكم حسب طاقته واتساع افاق تفكيره ، ولابد لكل انسان من ارتيادها مهما عظم شأنه وصغر !
قلت : وباى واسطة يستمد عالمنا من عالمكم هذا ؟
قال : طبعا بواسطة هذه الاسلاك التى تراها .
قلت : وكيف ذلك ؟ واني لم ار قط رجلا يتصل برأسه سلك ؛ وما اظن ان ذلك ممكن فضحك ضحكة عالية ، ثم قال لى : بالطبع انها لا ترى خارج هذا العالم بل عندما تنتقل الى عالمكم تتحول تيارا كهربائيا فتؤدى عملها الجليل من غير ان ترى اوتلمس .
فقلت : هذا شئ عجيب ! الان فهمت تقريبا ما هى دنيا الخيال وتذكرت ما قاله محرر ) المنهل ( فى مقال له من ) ان لها قوة على اختراق بطون الجبال الشامخة
وعلى الصعود الى الطبقات الجوية السامية ولها اقتدار على الهبوط الى قرارات الوديان العميقة ، وعلى الغوص الى اعماق البحار ، وعلى ، وعلى وعلى الخ وكل ذلك باسرع من البرق . او قلت اذا صحيح هذا الكلام ، وسردت عليه ما قاله الاستاذ الانصاري . فقال نعم لاشك فى صحتة .
قلت : ومن الذى انبأ هذا الكاتب بهذه الحقائق كلها ؟
قال : من غير شك انه استلهمها من دنيا الخيال
قلت ياللعجب ! حتى ان الانسان إذا اراد ان يكتب عنها فلابد من الاستمداد منها ؟ قال اجل ! هذا هو الواقع
وبينما نحن كذلك : بين سؤال وجواب واخذ ورد اذا ببيناية شامخة كانها التى عناها المتنبى فى قوله : -
فأضحت كأن السور من فوق بدئه الى الارض قد شق الكواكب والتربا
تقف امامنا بغتة ، كأنها تقدم نفسها لنا معجبة بعلوها وضخامتها وجمالها ، فرفعت رأسى متذكرا قول رفيقي : ) انك ستقرا اسم كل ناد فوق مدخله ( واذا بحروف من نور ، تشتعل تارة ، وتنطفئ اخرى ، تكشف عن هذه الجملة : -
" نادى الحضارة الاسلامية
وقد خالني سرور عظيم عند قراءتها وقلت : أحمدك ربي فقد كنت اخال ان الحضارة الاسلامية انقطعت حبالها واندثرت من العالم اثارها ، وها انا ذا ارى ناديها اعظم الاندية وأفخمها واجملها .
ولكن سرعان ما انقلب ذلك السرور حزنا وألما ، وتلك الغبطة أسفا وكمدا ، عندما لاحظت ان الاسلاك المتصلة بمنارة هذا النادى التى تؤدي اعماله وتبدى اثماره ، مقطوعة كلها ، ملقاة على الارض ، ما عدا سلكا واحدا دقيقا جدا ، بحيث انه لو كان كهربائيا لما اشعل مصباحا متوسطا . فقلت : رحماك ربي
اين هذا السلك مع هذه الحبال المتينة التى اراها تنبعث من مدخن عمارة من خشب مجاورة لنادي الحضارة الأسلامية ، مكتوب عليها بحروف لاتينية كبيرة هذه الكلمات :
Cercle de Laciaillation Euro Pienne أى نادى الحضارة الاوروبية ( فقلت لرفيقى : يا للعجب ! أمن هذا القصر الشامخ ينبعث سليك دقيق ضعيف لا قيمة له ؟ ومن هذا الكوخ تخرج الحبال المتينة ؟
وهل يكفي - يا ترى - هذا النويدي لتغذية هذه الاسلاك كلها ؟
فتنفس رفيقي وتصاعدت منه الزفرات لاول مرة ، ورقرقت عيناه بالدموع بدلا من تلك الابتسامات العذبة التى كانت تبدو على ثغره كلما وجهت اليه سؤالا ولما لاحظت هذا الاكتئاب الذي علاه تيقنت ان الموضوع خطير ، ولريما اكون ندمت على هذا السؤال الذي تسبب في حزنه . وكأنه ادرك تأسفي ، فصار يظهر عوض ذلك الحزن بشاشة ؛ وقال لى بصوت جهورى يخفى وراءه أحزانا وآلاما : -
حقيقة لو لم يهجر هذا النادى ) وأشار باصبعه الى نادى الحضارة الاسلامية ( لما قام هذا بنصف عمله ان لم نقل لما وجد اصلا
فقلت : والله لا زالت المسألة فى غموضها
فلم يرد على جوابا ، سوى انه مسكنى من يدى وانطلق بي الى داخل زقيق صغير بين الناديين ، وحفر فى الأرض قليلا ، واذا بحبال متينة من حديد تظهر لنا ثم قال متحمسا : انظر يا اخي ! لما هجر المسلمون ناديهم هذا ؛ وتجمهروا على ما فى هذا الكوخ حينما ظهر حديثا ، اغتنم أصحابه الفرصة وأوصلوه سريا بهذا النادى الاسلامي بواسطة هذه الاسلاك كما ترى ، وأصبحوا يتمتعون بكل ما انتجه من تحف وطرف ونفائس ، ناسبين كل ذلك اليهم ، وموهمين الاغرار والبسطاء أنها من ثمرات ناديهم .
ففهمت اذ ذاك سبب حزنه ، وعلمت حقيقية الموضوع وخطورته . ثم قلت له : أيسمح لنا بالدخول ؟
فقال . نعم ! تفضل
فدخلنا النادى الاول ، واذا به قصر عظيم ذو غرف واسعة ، وأثاث ثمين ، كل شئ فى محله ، بترتيب لطيف ، ونظام دقيق ، بيد انه تعلوه طبقة من الغبار دلتنا على انه نسي منسى ، وكانه احد الاندية السياسية التى تغلق ويوضع عليها الختم ، ولكن هذا ليس بمختوم ، بل أبوابه مفتوحة ، وعدده مستكملة ومنهله فياض ، ولهذا كله لم أدر والله لماذا هجر واهمل
خرجت من هذا النادى ، والاسف يملأ جوانحي ، والحزن يغمر وجهي ، ثم دخلت الى جاره : نادى الحضارة الاوربية ، فوجدته فى غاية البساطة ، وهو من الخشب كأنه مخزن من تلك المخازن الخشبية التى تبنى فى المراسى لحفظ البضاعة المودعة فيها ، وكذلك اثاثه ورياشه وادواته كلها بسيطة ، فكانه أسس بسرعة عظيمة ، أو انشئ مؤقتا ، ولكنه مع هذا وجدته غاصا بالناس ، رجالا ونساءا ، مسلمين وغيرهم ؛ هذا يجئ ، وهذا يروح ، فتعجبت وتساءلت في نفسي : من أين يخرج ويدخل هؤلاء الأناسى كلهم مع انى لم ار خارج هذا المحل شخصا واحدا ، ما عدا رفيقي ؟ وبقيت مدة غير قليلة وانا انتظر مرور شخص يكون فى زى المسلمين لاسأله عن هذا السر العجيب ، وان كنت فى الحقيقة غير محتاج لهذا السؤال ، حيث يوجد بصحبتى من يجيبني على جميع اسئلتى ، ويطلعني على كل ما أريد ، وانما فضولا مني أردت الاتصال بهؤلاء الناس الذين يملئون هذا النادى ولا يكلم احد منهم الاخر ، بل ان كل واحد منهم منهمك في شغله ؛ فصرت اجول يمينا وشمالا ، واذا بي ارى شخصا لابسا طربوشا احمر ، جالسا ، ففهمت انه مطلوبي وقصدته فسلمت عليه ، فلم يرد على جوابا ، فقلت له : هل تفهم ،
اللغة العربية ؟ فكأنني اكلم صخرا ، فمخاطبى كأنه تمثال ، لم يلتفت إلى وكأنه لم يشعر بي أصلا ، فظننت انه مستغرق فى الفكر ، فدنوت منه ، ومددت يدى نحو كتفه لانبهه ؛ فلم أجد إلا هواء ، فتلفت مفزعا ، واذا بابتسامة ترتسم على شفتى رفيقي ، تطمئنني ، فقلت : - أدركني يا أخي ! ما هذه الاشباح ؟ أكلها صور خيالية ؟
قال : نعم ! ان لم يكونوا كذلك فكيف يمكنهم الدخول والخروج لهذا المحل وغيره مع هذه الاسلاك !
قلت : كيف يسيرون مع هذه الاسلاك ؟ أيمشون فوقها كما يفعل بعض الرياضيين في العاب الموازنة ؟
قال : لا ، وانما يسيرون مع السلك كما يسير التيار الكهربائي .
قلت : لا غرابة اذا فى خلقتهم على هذه الصور العجيبة ، وانما يندهش الانسان لقصر عقله عن فهم اسرار هذا الكون الغريبة ، فسبحان الله الذي خلق كل شئ لحكمة .
ثم خرجنا من هذا النادى قاصدين غيره
