الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "المنهل"

حياتنا العامة

Share

الناحية العلمية

ولنتكلم الآن فى بحثنا هذا عن الناحية العلمية . فالناحية العلمية هي اهم  قوة تتمركز عليها حياة المجتمع فى كل زمان ومكان ، ونرؤسها ، ولا سيما عند بالامم المتمدنة ..  وحسبها أهمية أن يتوقف عليها مدار جميع نواحي الحياة العامة وحسبها فضلا وإجلالا ، ان يكون لها التاثير الكبير ، والعامل القوى فى تكييف حياة المجتمع ، وتنوير الاذهان ، واعداد الافكار لقبول كل ما يتطرق اليها من الخارج وفحصه واختباره على ضوء العلم الصحيح ، والايمان القوى والمعرفة الحقة ، كما انها فى الوقت نفسه قوة عظيمة لها أهميتها وخطرها ، ولها تاثيرها الاستقلالي ومفعولها الفردى كناحية مستقلة بذانها غنية بمميزاتها من نواحي الحياة المتعددة .

هذه كلمة بسيطة عن الناحية العلمية من حيث هى ، قدمناها كتوطئة لموضوعنا هذا ؛ وهي لا تعدو الحقيقة ، أو تخلف الواقع فى شئ ، كما انها لا تخرج عن كونها فذلكة متواضعة لا بأس من وصفها وادما جها ، لما تضمنته من التعريف او ما اشتلمت عليه من الايضاح والاداء كما تشاؤه قواعد الكتابة ، أو يقتضيه مقام النشر .

فالناحية العلمية في بلادنا لا تحتاج الى التفسير والايضاح . وقد نبعد عن الحقيقة اذا قلنا انها إذا كانت مناهج فهى لا توصل الى الهدف المنشور . وحياتنا العلمية فى مجموعها لا تعدوان تكون نتيجة اثرين معروفين :-

فاتر الاول هو هذه المدارس المعدودة ، التى اشتغلت مدة من الزمن غير

قصيرة ، ولم تنتج من الأثار العلمية ما يشبع نهمة البلاد ، او يسد فزاغها ، وان انتجت شيئا فليس سوى بعض الشباب الذين هيأتهم للوظيفة ، واعدتهم لها ، واضاعت عمرهم الدراسي في العمل لاجلها ، على بساطتها وقلة موردها .

وليس معنى هذا ان هذه المدارس لم تشتغل بغير ما يختص بالوظيفة ؛ أو لم تعمل بسوى ما يؤهل لها . لا بل هناك كثير من الدروس ، يكتظ بها منهج هذه المدارس وتضيق بجمعها اذهان التلاميذ ، وتعجز عن استذكارها حافظتهم وهى فى الوقت تدرس بطرق قليلة الجدوى .

هذه الطرق ، وهذه المناهج ، لا تزال متبعة فى بعض مدارسنا حتى الان ومن المؤسف جدا ، تمسك هذه المدارس بهذه المبادئ واستحسانها وتفضيلها على غيرها .

وان كانت البلاد اليوم تتمتع بشباب حر مثقف ، وذي نظرة صائبة وتفكير ناضج وعقلية متزنة ، فليس هو نتيجة تأثير هذه المدارس فقط . لا ! بل لو اعتمد هذا الشباب على ما أفادته اياه المدرسة لما استطاع ان يعمل ، ويكتسب ثقة الامة به واخلاص الشعب له ! وانما كان ذلك نتيجة ذكائه الفطرى وايجاهه الفكرى الى المجتمع ومميزاته ومجاراته لقواعد الحياة وسنن الطبيعة بحث تأثير عقليته المتزنة ، وتفكيره المعتدل .

هذا الشباب هو الذي استطاع ان يحيى حياة المعجب بعمله ، المعتمد على نفسه وهذا الشباب هو الذي يرى فيه الاديب ، والشاعر ، والصحفى ، والرئيس العامل والمدير الحازم  ..كل هذا والمدرسة لم تعده لان يكون اديبا ، او صحفيا ، ولا لان يفهم معناهما ، ولا لان يتسلم زمام رئاسة ، او أهمية ادارة ، او أقل من ذلك هذا الشباب الذي أصبح ينظر الى المجتمع نظرة اخلاص وحب وعمل ، وينظر اليه المجتمع نظرة اجلال واكبار وتقدير ، لما بذله ويبذله من الجهود الصادقة والخدمات الجليلة التى يرفع بها من شان امته ، ويبنى لنفسه من ورائها مجدا جديدا وعظمة لائقة ، وحياة سعيدة .

هذا هو الاثر الأول . أما الاثر الثاني في تكوين الناحية العلمية فهو من أبسط قيمة ، لانه لا يبدأ من نقطة معينة ، ولا ينتهى الى غاية معروفة ، وهو بين هذين لا يتمشى مع نظم تحمى نتائجه - ان كان تمت نتاج - من الضياع والاهمال . ذلك هو ( دراسة المسجد )  هذه الدراسة التى نشات منذ نشوء المسجد ، وعملت عملا مهما فى ترقية الناحية العلمية وابرازها فى ثوب قشيب . وقد كانت لها التاثير الكبير والقوة الفعالة فى تثقيف المجتمع ؛ وانهاض الحياة فى الازمنة الماضية ، ثم  أخذت تتضاءل .

اذا تلمسنا تاريخ المسجد ، واثر دراساته فى حياتنا السابقة ، وجدنا أنه فى  زمن من الازمنة الماضية كان منهلا للعلم ، وملجا للاطلاب ، من جميع الاقطار الاسلامية وعرفنا انه كان مدرسة لفطاحل العلماء ، وكبار المدرسين ، فى العالم الاسلامى .

واذا نظرنا الى حياته اليوم ، أدركنا مقدار الفرق الكبير ؛ والبون الشاسع بين ماضيه المليىء بالذكريات البيضاء ، وحاضره . وكان سبب ذلك هو التغيير الوضعى الذى طرا على حياته الدراسية فقد كانت الدراسة فيه من قبل ، تسير من مبدإ معلوم ؛ ونقطة معينة ، وتنتهي الى غاية معروفة ، ونتيجة محدودة ، وتسلك  فيما بين ذلك منهجا خاصا ، له ميزته وخواصه بين مناهج المدرسة القديمة الناجعة ، كما كانت تدرس فيه العلوم الدينية بصفة واسعة جدا ، وطرق مؤدية للغاية . وكانت الغاية تتجه نحو علوم التفسير ، على اختلاف وجهاته ، والفقه بمذاهبه الاربعة ، والحديث وأصوله والفرائض . كما كان يعنى بدراسة بعض العلوم العربية والرياضية كالنحو . والحساب . والبلاغة . وغيرها .

وان دراسة كهذه لها مبدأ ، ولها غاية ، ولها أساس ترتكز عليه ، لاشك أن لها تأثيرها الفعال ، فى تكوين المجتمع واسعاد حياته وانهاضها ، الى المستوى

المناسب لها فى ذلك الوقت ، كانت هيئة التدريس ووضعيته ، كما هى عليه الآن فى حلقات منظمة ، يتوسطها المدرس ؛ فيلقى درسه بصورة عذبة ، وصوت رنان يسمع به الحاضرين بسهولة لا يتكلفها ، وصيغة لا يعجز عن تمثيلها متى شاء فكان يثمر ثمرا طيبا ، وينتج انتاجا حسنا .

أما المسجد فى الوقت الحاضر ، فحياته الدراسية هي حلقات يتجدد أفرادها فيستبدلون بغيرهم ، وهؤلاء لا تكون نتيجتهم احسن من سابقيهم ، ولذلك تجد  نفس المقررات ، أو الكتب التى تدرس فى هذه الحلقات بعضها لا يتغير فى الخمس السنوات مرة واحدة ، والبعض الآخر يتغير فى الشهر الواحد مرارا عديدة .

بهذا الشكل ، وبهذه الصورة تسير الدراسة فى المسجدين المكى والنبوى فالاصلح ان يسن لهذه الدراسة منهج خاص وان يراعى في ذلك تكييف شكل التدريس ، تجديد وضعيته بالشكل المناسب الذي تقتضيه المصلحة العامة والفائدة المشتركة .

وفي نهاية الكلام عن المسجد ودراسته لا يفوتنا ان نسجل شكرنا الى بعض حضرات علماء المسجد الافاضل المخلصين في خدمتهم ، والمواظبين على اداء مهمتهم بدافع الغيرة الدينية الصحيحة والشمور الانساني النبيل ، وحبا فى تعميم الثقافة بين ابناء الحنيفية السمحة ، وخدمة لوجه الحق والاخلاص .

هذه هي الناحية العلمية فى بلادنا وهذه صورة سيرها ، ومقدار تاثيرها على الحياة ، إلا انها فى الوقت الحاضر تحسنت كثيرا ، وتغيرت صورها فقد عملت مديرية المعارف جهدها فى تعديل المناهج الدراسية واختيار المناسب من المقررات لتدريسه كما زادت في وضعيتها بتاسيس بعض المدارس العالية وانشاء فروع خاصة للتخصص في القضاء الشرعى وغيره ، وهي خطوة حميدة في بابها ، يجب ان تقدر للمعارف ، وان تشكر على تنفيذها .

وموضوعنا من الناحية العلمية ، لا يعنى جانبا خاصا منها ، ولا يختص بصورة معينة فيها ، بل نقصد بالناحية العلمية ، جميع العلوم الكونية ، بمافيها علوم الدين والطبيعة والعلوم الرياضية والعربية وكلما يتعلق بهاتة الناحية فان لكل قسم منها . ميزة خاصة ووظيفة معينة لها تأثيرها فى تكوين حياة المجتمع ولها عملها فى رفع شأن الامة

فحياتنا يجب ان تتزود بجميع اقسام الناحية العلمية ، وان تتغذى بالصالح الجيد منها وان تحرص اكتساب الاهم فالمهم كما اضطرها الى ذلك سنة التحسن الحيوى وطبيعة الترقى العلمي ، او النهوض الثقافي ، كما يشاؤه التعبير :

كما انه لا يفوتنا فى الحالة نفسها ، ان ننوه بجهود بعض الاساتذة ، والمدرسين القديرين فيما يؤثرون به على اذهان الطلبة ويوجدونه فى طبائعهم بشتى الوسائل التى يستعملونها فى تدريسهم ، ويقاطعون بها القاءاتهم لا غراء الطلبة بالدرس ، وايجاد عوامل الانتباه والتشويق العامين فى ضمائرهم ومخيلاتهم فيحسنون بذلك الى انفسهم كما يقتضيه واجبهم الادبى وتحتمه عليهم وظيفتهم الدراسية والى الطلبة بما يبعث فيهم روح النشاط واليقظة لكل ما يتلقونه عن مدرسيهم ، او يطرق اسماعهم من مختلف الدروس ومتعدد الفنون ، والى الفن الدراسي نفسه بما يزيد قيمته ويظهر رونقه ، وطرافته ويمثل اهميته ومقدارها فى الحياة والمجتمع ؟

يتبع

اشترك في نشرتنا البريدية