(تلقينا هذا الحديث القيم الذى اذاعه منشؤه الدكتور الكبير احمد زكي ابو شادي من اذاعة صوت أمريكا بالولايات المتحدة)
كنا نقرأ مقالا لأديب سعودي ينعى فيه على الشعراء السعوديين ضحولتهم وحصرهم انتاجهم فى شؤونهم الشخصية وتقليدهم الاعمى لشعراء الأقطار الأخرى ، واسفافهم فى موضوعاتهم . وحرقم البخور للأدباء السياسيين الذين بنوا شهرتهم على أكتاف السياسة ، بدل التعاون مع الأدباء النابغين فى عالم العروبة ولو كانوا متوارين او صادفين عن الشهرة والظهور . وضرب لهم الأمثلة بنماذج من الشعر تمنى لو كان للشعر السعودي نظائرها . فلما نظرنا فى هذه النماذج وجدنا نظما منهوبا من الأدب الغربى ، واستقر فى ذهننا أن ذلك الناقد الفاضل لم يكن منصفا للشعراء السعوديين وللادب الحجازي خاصة .
ولسنا من نبرئ الشعر السعودي من معظم هذه العيوب فى مجمله ، بل قد نضيف اليها وصولية عدد من الشعراء واشتغالهم بالمدح لذوى الجاه والنفوذ ، بدل أن يشغلوا بهموم الشعب . ولكن مثل هذه الحالة مشهودة - مع الاسف - فى أقطار عربية اخرى ، وعلى الأخص فى تلك الاقطار التى لم تستكمل نهضتها الفكرية الادبية ، بعد ما انتابها من تأخر من جراء الاحتلال الاجنبى الطويل الذى قضى فى أثنائه على مواهبها الحرة .
والبلاد السعودية تشهد الآن بعثا أدبيا أسهمت فيه عوامل الجوار والتبادل الفكرى الادبى مع الاقطار العربية الأخرى ، وهى الآن فى دور انتقال لا مفر منه . فمن الحيف أن لا يقدر لها هذا الوضع . واننا لا ننكر أن كثيرا من الشعر السعودي المعاصر هو شعر تقليدي او شخصي
ضيق النطاق ، وقليل منه يرتفع الى المستوى الانسانى ، واندر من ذلك أن يسلك مسلك الزعامة الفكرية فى الشعب . ولكن بحسبنا أن نذكر أنه فى الواقع وليد جيل وأنه لم يشب عن طوقه بعد . لذلك وجب علينا أن ننظر نظرة التسامح الى عثراته الحاضرة التى ينتقدها الحصيفون من السعودبين أنفسهم ، بدافع غيرتهم على إنشاء أدب قومى رفيع ؛ دون أية مماراة منا ؛ إذ لا ريب لدينا أن اليوم غير بعيد حينما ينتقل هذا الادب السعودي - شعرا ونثرا - من الدور الاتباعي الى الدور الابتداعى : ومن تقديس الاشخاص الى تقديس المبادئ ؛ ومن الاهتمام بالامور الذاتية والغناء الوجدانى الى العناية بهموم الانسانية والغناء بأناشيد الخلود .
وقفنا هذه الوقفة وتأملنا هذا التأمل ؛ عند اطلاعنا على ديوان ) الهوى والشباب ( لاحمد عبد الغفور عطار . واذا كان هذا الشاعر لم يسلم من الاتهام بحرق البخور سواء فى التأريخ السياسي أو فى كتابه الادبى ) المقالات ( أو فى غيرهما ؛ فبحسبنا أن نذكر تبريزه اللغوي الذي نوهنا به من قبل وكيف أن هذا الاديب اللغوي الضليع ليس مع ذلك عبدا للغة ، بل عرف كيف يستعملها فى رصانة أسلوبه . وليس من طبعنا أن نفتش عن العثرات ، بل دأبنا أن نبحث عن مظاهر التسامى وأن ننوه بها ، ولهذا يطربنا أن تقرأ فى ديوان ) الهوى والشباب ( مثل هذا الشعر الانسانى ) ص ٨٣ ( : -
انما السيد المطاع الذى سخر إخوانه ودق الطبولا !
ثم أبدى مهارة، وذكاء، وعراما، وأتقن التمثيلا
آكلا حقهم ويبدو عفيفا، وهو يخفى كالصل سما وبيلا
فالجرىء الجرىء من حجز الخير وآذى عشيره والقبيلا
والعظيم العظيم من ساعد الحظ فاضحى المسيطر المأمولا
والقوى القوى يلتهم المضعوف، لا يرحم الضعيف النبيلا
همهم أن يمزقوا الطاهر الفاضل أو يفنوا الكريم الاصيلا
ويجودوا على الخليفة ظلما ليخافوا ويضمنوا التذليلا
بئس عصرا يعيش فيه أثيم يتحدى بالمخزيات الجليلا
ويسود اللئيم، والغافل القدم، ومن كان فى الحياة جهولا
والعصر تشوه فيه المعانى، فيسمى الجديب روضا ظليلا
ويكون الحقير شهما عظيما، ويصير اللئيم فى الناس نبيلا !
قال محدثي : ولكن هذا الشعر ليس بذى خطر من الوجهة الفنية قلت : ولتذكر أنه نظم منذ عشر سنين تقريبا .. ثم لا تنس أن لهذا الشعر ما بعده من مراحل التقدم الفني والفكرى والإنساني. ولتذكر أن الطابع الاهم فى الظرف الحاضر هو سمو الاخلاق الحرة التى لا تذبذب بين الأمام والخلف، ولا تترجح بين اليمين واليسار على غير وعى سوى وعى الوصولية ونشدان الشهرة الرخيصة بتملق أصحاب الشهرة ومجانبة اصحاب المواهب. ولم يكن كذلك أمثال مطران والزهاوى والشابى والجواهرى وغيرهم من الشعراء الاحرار الذين تعلقوا بالمثالية العليا وبجلوا المبادئ والمواهب ولو حاربتها أغلب الناس. وعملوا على إنصاف الألمعية الغبينة بدل حرق البخور للادعياء، ومهما يكن من شيء فانه لتعجبني من الشعر الانسانى لهذا الأديب السعودي فى ديوانه ) الهوى والشاب ( - ص ٩١ - قصيدته المعنونة " حمار فوق الرؤوس " فاستمع اليه. ولا تنس أن الشعر السعودي لا يزال فى دور حسن من الانتقال . اللهم الا اذا أفسد الشعراء السعوديين الترف والانانية وصراع الحياة التجارى، وهذا ما نرجو أن لا يكون :
يا صاح، ما الصبر إن الصبر معجزة والصبر تعزية الواني ومن هانا
فالميت من صبره تلفيه مضطجعا وما شكا ألما أو صاح جردانا
والحي تلقاه كالبركان مضطرما جم النشاط. كثير الشكو غضبانا
لا يستريح إذا ديست كرامته حتى يذيق الردى من جار أو خانا
أو يستحيل حساما جن حامله أو يسحيل على الحكام نيرانا
وإن حمته القوي عن كشف كربته فالشكو أو يدع الأكوان آذانا
والشكو دل على أنا غطارفة نأبى الهوان، ولو لا الشكو ما بانا
فكيف تنصحني بالصبر، واعجبا أن تطرى العجز يا من كنت بركانا؟
كيف التصبر والمأفون منتفخ ريا، ويغدو العظيم الندب صديانا؟
كيف التصبر والرعديد فى شبع والقرم يطوى الليالي السود غرثانا؟
كيف التصبر والمملوك فى حلل يختال فيها. ويمشي. الحر عريانا
كيف التصبر والظلم يحمده من كان بالامس للظلام طعانا؟
أين الخراب لبيت الظلم؟ لم أراه إلا رفيع الذرى. قد طال بنيانا؟
ومنزل العدل -يا ويحى- غدا طللا مستوحشا يجرع الآلام غصانا !
إنا لفي زمن ساد اللئام به وأصبحوا فوق ظهر النجم ركبانا
والجاه فى قولهم. والمال فى يدهم وكل شهم يعاني الفقر ألوانا
آه، لو انا بلا قلب نعيش به وحبذا لو غدونا اليوم عميانا !
فلا نحس بآلام ومنقصة ولا نرى من يبيع العرض دهقانا
ماذا أقول وقلبي كاد يحطمه ذل العزيز، وموت الحر بهتانا؟ !
يا صاحبى الفذ ، لا تصبر وكن بطلا يسقي عبيد الخنا والبغى ذيفانا
وجانب الصبر، لا ترفع له نصبا من الكمال. ولا تسخر بشكوانا
وثر بكل حمار صار منصبه فوق الرؤوس. وكلب صار إنسانا !
بارك الله فيك يا عطار. وصان فيك جذوة الحرية والاستقلال شرفا لك وفخرا لقومك .

