جادت قريحة الاستاذ أحمد إبراهيم الغزاوي شاعر جلالة الملك المعظم وعضو مجلس الشورى بهذا المقال النفيس الذي خاطب فيه (الشباب الطموح) فجاء مقاله هذا فياضا بالحكمة والإخلاص وعمق النظر وسداد الفكرة .. ولذا كم نرجوا أن يكون لهذا الخطاب الجد المفتوح أثره الباهرة ، وصداه القوي فى أفكار شبابنا الطموح. ( المحرر )
يشعر الكثيرون من ذوي الرأي والغيرة وأرباب الحمية الدينية ، بالنقص الكبير والفراغ الواسع ، فى نشاطنا العلمي ، وفي أهم نواحي الدراسة ، والتثقيف العام ، فقد كانت الى زمن قريب جدا حلقات التدريس غاصه بالطلاب في عموم المساجد - وبالاخص فى الحرمين الشريفين ، والمسجدين المقدسين - المسجد النبوى ، والمسجد الحرام - فلم تكد الصلوات الخمس تقضى فيهما حتى تلتف الطوائف المتعطشة للعلم والوعظ والإرشاد حول العلماء الفطاحل الذين كانوا يكرسون أوقاتهم ، ويتابعون سهرهم فى سبيل الهداية والتذكير فى مختلف الفنون لاسيما ما كان منها فى الآداب والأخلاق الإسلامية والسيرة النبوية والتفسير والحديث ؛ وكانوا يتعبدون بهذه الدروس التى لا يمكن أن يجحد تأثيرها فى نفوس المستمعين ومن ورائهم من العوائل والذريات ، فكان صدى ذلك يتردد فى الاسواق والحوانيت والدور والمخادع والمجالس ، وناهيكم بذلك جزرا عن المنكر ، وترغيبا فى المعروف ، ورفعا للدرجات ؛ وتفريجا للكرب ، وتشجيعا على الخير ، وتقويما للأخلاق ، ودرأ للشرور ومجلبة للسرور!!
كل ذلك يكاد اليوم يكون أثرا بعد عين ، وخبرا يحفظه التاريخ في مطوياته العتيقة لانصراف الناس عنه وغلبة أمور الدنيا ، واشتغال الجميع بالمعاش ، وانكباب النشء والشباب على مطالعة الصحف ، واستشعارهم اليأس والخيبة في
هذا السبيل ، كما لو منعوا عنه قهرا ، أو لاقوا فيه خيرا ، أو أنه أمر تافه لا قيمة له ، ولا مصلحة فيه ولا ضرورة إليه!!
وكم سمعنا رجالا من أهل البصيرة يتحسرون على هذا الحال ؛ وشيوع الجهل فى الطبقات المختلفة ؛ وانقطاع ما بين الماضى والحاضر ، من الصلة فى هذه الحلقات التي هى فخر البلاد المقدسة ، ومصدر عزها وتبريزها ، وسبب الهجرة إليها والإقامة بها فى نظر المسلمين الذين يقصدونها لإرواء ظمئهم من "مناهلها" العذبة ؛ ومشارعها الصافية.
لست أعلم لذلك من علة إلا ما يعرفه الجميع من فتور الهمم ، وتقاعس الطلب وتحول الاتجاه نحو ما قذفت به المطبوعات الحديثة من وراء الآفاق مما يغلب فيه الشطط والارتباك ويحمل على العقوق بتراث السلف الصالح وما تركه لنا الأئمة الأخيار من المؤلفات المحيطة ، والأبحاث الشائقة ، والآراء السديدة ، مما تقوى به العقائد ، وتتقوم الأخلاق وترتاض الأنفس ، ويستقيم الأدب ، ونزول أعلاق الشهوات وبوائق الهوى . فهل إلى مرد من سبيل؟!!
وبديهي من الإعراض البادي فى هذه الناحية المهمة ، ينذر باضرار لا حصر لها في الحاضر والمستقبل ، إذا ظل عامة الناس وأوساطهم فى برزخ عن العبرة والاستبصار ويشتد هذا الضرر استفحالا بما يغمر جوانب العالم كله من موجات التشكيك والإلحاد والاستهتار ، مما لابد من الوقاية منه ، ومن أعلاقه السيئة بالمكافحة والمدافعة والتنوير والتذكير ، وإلا استشرى الداء وأعيا العلاج
إن العلم من حيث هو وسيلة للعمل ولا ثمرة له ولا فائدة مطلقا إن لم يكن ذا أثر مباشر فى حياة الأمة ، ولا يصح أن يتم له هذا التأثير إلا بالسعي الحثيث والدأب المتواصل والقدرة الصالحة ، والأسوة الحسنة ، والنية السليمة ، والعقيدة الصحيحة ، وإلا كانت جميع المحاولات فاشلة ، لا تكاد تبدو حتى تتلاشى وتضمحل
لقد روى التاريخ عن علماء الحرمين الشريفين في العصور الرشيدة ، مواقف مشهودة فى سبيل الله والقيام بواجب الأمانة المناطة بأعناقهم ، والمسئولة منهم فكانوا لا يفترون ليلا ونهارا وعشية وإبكارا ، عن إرشاد الناس وتثقيفهم واجازتهم ، وكان الطلاب يتواردون على ابوابهم وحلقاتهم من اطراف المعمورة ويتنافسون فى التلقي عنهم والانتساب اليهم - فهل ترى ذلك اليوم الذى يتكاثر فيه شبانيا الطموح ، بما بذل من جهد ، وكرسو من وقت ، وأذاع من هداية ومكن من اخلاق؟؟! وهل لنا ان نري ذلك اكثر شيوعا فى البيوتات العريقة التى لها قصب السبق فى هذا المضمار ؟ !
حكى صاحب ( مفتاح دار السعادة ) أن سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين جاء هو وولداه إلى - ( عطاء بن ابى رباح ) - وعطاء هذا كان عبدا لامرأة من مكة أسود أعور أفطس ؛ أشل أعرج ، ثم عمى فجلسوا إليه وهو يصلى ، فلما صلى انفتل اليهم ومازالوا يسألونه عن مناسك الحح وقد حول قفاه اليهم . ثم قال سليمان لابنية قوما . فقاما . فقال يا بني لا تنيا فى طلب العلم فإني لا أنسي ذلنا بين يدى هذا العبد الأسود اه اريتم عزة العلم وأهله ؟؟! أليست هذه البلاد المقدسة مثابة عموم المسلمين ومهبط وحيهم ومناط آمالهم ومأزر دينهم؟؟!
لقد سجل هذه العزة للعلم سيد المعلمين ومعلم الاميين ، بقوله عليه السلام (بالتعليم ارسلت) وهي الكلمة التى وضعها تاجا مؤتلقا على رؤس العلماء والمدرسين ، فقد روى ابن ماجه فى سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فى المسجد مجلسان ، مجلس يتفقهون ، ومجلس يدعون الله تعالى ويسألونه ، فقال كلا المجلسين الى خير . اما هؤلاء فيدعون الله . وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل . هؤلاء أفضل ، بالتعليم أرسلت ثم قعد معهم اهـ
ويذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مر بالسوق فوجدهم فى تجاراتهم وبياعاتهم فقال : أنتم ههنا فيما أنتم فيه وميراث رسول الله صلى الله عليه يقسم فى مسجده فقاموا سراعا الى المسجد فلم يجدوا فيه إلا القرآن والذكر ومجلس العلم ، فقالوا أين ما قلت يا أبا هريرة ؟؟ فقال : هذا ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقسم بين ورثته وليس بمواريثكم ودنياكم!!
وهذا عمر بن عبد العزيز يقول : والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيدالله ( أحد القراء السبعه ) بالف دينار من بيت المال . فقالوا يا أمير المؤمنين : تقول هذا مع تحريك وتحفظك!! فقال اين يذهب بكم والله إنى لأعود برأيه وبنصبحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف : أن فى المحادثة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب وتسريحا للهم وتنقيحا للأدب.
وهذا يحيى بن أكثم يروى عن نفسه أن الرشيد قال : ما أنبل المراتب ؟ قلت ما أنت فيه يا أمير المؤمنين . قال فتعرف أجل مني ؟ قلت لا ، قال لكني أعرفه : رجل فى حلقه يقول حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى اللله عليه وسلم قال قلت يا أمير المؤمنين : أهذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله وولى عهد أمير المؤمنين ؟؟! قال نعم ، ويلك هذا خير مني ؛ لان اسمه مقترن باسم رسول الله لا يموت أبدا ونحن نموت ونفنى . والعلماء باقون ما بقى الدهر.
هذا فضل العلم والمنقطعين له والمتعبدين به ، ومن أولى بهذا الفضل وهذا العز من سكان الحرمين الشريفين واهلهما ؟ ؟ لا غرو أنهم أجدر بذلك وأحرى وأرانا بعيدين عنه جدا حتى لتمس الحاجه إلى المعلم وإلى القاضي فلا يوجدان إلا بعد مشقة شديدة وفي كفاءة محدودة وظروف خاصة.
إننا شديدو الحاجة الى العلماء المخلصين الذين يؤدون الأمانة ويكشفون الغمة وينشرون الهداية ، وإننا لأشد احتياجا للطلاب الذين انصرفوا كليا عن
الالتفاف حول العلماء والاستفادة من دروسهم لقد جاء فى المأثور ان الله يزع بالقرآن ما لا يزع بالسلطان . وان هيئات الامر بالمعروف والنهى عن المنكر مهما بلغ من سلطانها ورقابتها وتغلغلها فى جميع الاوساط لن تستطيع ان تقوم بواجبها الا فى حدود ضيقة جدا ، إذا لم تكن القلوب صالحة والنفوس متشبعة بالهداية والتوفيق قد يقل ان المدارس تقوم بهذا الواجب فى نطق اوسع مما كان كثيرا فنقول : مع التسليم بذلك انها لا تغنى عن حلقات الدرس العامة فى المساجد لانها تضم بين جدرانها التلاميذ ذوى الاسنان الصغيرة واما الأخرى فهي التى يجمع سواد الشعب ، وتنفث فيه روح الشريعة الإسلامية وأخلاقها وآدابها وتبين للعامة ماهم فيه من غفلة وإهمال و وما ينبغى عليهم اتباعه فى شؤونهم الخاصة ومعاملاتهم ومبادلاتهم وتجاراتهم وعلاقاتهم الزوجية وواجباتهم العائلية ، وما الى ذلك من المسائل التى يلابسون وقائعها كل يوم وليلة بدون هدي ولا استبصار.
ولا نجد امامنا الآن من تتركز فيه هذه الواجبات الخطيرة الا اولئك الذين وهيهم الله قسطا من العلم والعرفان ، يستطيعون به ان يصدعوا بهذا الامر الآلهي وان يشمروا عن سواعد الجد ؛ ويسهلوا سبيل الحكمة بالموعظة الحسنة وهم فى الشباب النشيط الناهض المثقف اكثر عددا واقوى جلدا واتم استعدادا وأوفر إنتاجا وأقوم لسانا وأفصح لبابا ، لما نراه من توفر الغالبية منهم على اصطناع الأدب والشعر والمقالات التى تنشرها صحفنا الناشئة . ولقد نغتبط كثيرا كلما نرى امثال السيد الكتبي والسيد المالكى ، ومن حذا حذوهما يباشرون هذا الواجب ، ويقوم بهم البرهان على أنهم بقية مباركة لأسلافهم الطيبين وليس من الضرورى أن يكون كل الشباب كتابا أو شعراء ؛ بل الأرجح مصلحة والأهدى سبيلا والأصلح معاشا والأضمن ثوابا ، ان يتفقه منا نفر فى الدين ، ويحرص على نشر هدايته فى العالمين وعلى مقتضى كتاب الله وسنة رسوله وعمل السلف
الصالح من الصحابة والتابعين.
وكما انه ليس من الضرورى ان تنحصر جهود الجميع فى الأدب أو الشعر فلسنا نقصد أيضا ان تكون هذه الجهود وقفا على ما ندعوا اليه من التدريس والتعليم فى المساجد فقط فإن ذلك على أهميته وخطورته يجب أن يكون فى طائفة مخصوصة تتقدم بها كفاءاتها ومواهبها الى هذه المكانة السامية .. وفما وراء ذلك فان للشباب الطامح من ميادين العمل المثمر فى مختلف الشؤن التجارية والزراعية والصناعية ما يستغرق جميع اوقاته ومعلوماته وهم فيه اكثر مسئولية؛ وأثقل أعباء ، وأمس احتياجا ؛ فى جميع مرافق الحياة الجديدة.
هذا ما أردت اليوم أن أنصح به لأخواني المتطلعين إلى المجد القديم ، وإلي إعادة ما كان لهذه البلاد من مقام ممتاز فى الاوساط العلمية الكبرى فى الاقطار الاسلامية الشاسعة فاننا ما دمنا نجد انفسنا فى مؤخرة العالم في الشؤن المادية ، والتطورات الحديثة والاختراعات الصناعية ، فانه من الاليق بنا ان نوصل ما انقطع من حبل الهداية والتقويم والمحافظه على روح الدين وما يناسب سمعة الارض المقدسة وما يقربنا الى الله زلفى ، مع العمل فى سبيل الحياة واغراضها المشروعة ، ما أسعفتنا بذلك مؤهلاتنا وظروفنا المواتية ولنا على ذلك اكبر تعضيد وتسديد من قبل حكومة جلالة الملك المفدى - التى لم تبرح جادة فى اقامة صروح العمران وسائله النافعه ، حالما هي الحكومة الاسلامية التى قامت على الدعاية الدينية المحضه ، والتزمت النهج الصحيح وعملت على التبشير به وأصرت على الاستمساك بعروته الوثقي.
ورجائى أن يكون لكلمتي هذه أثرها المرتقب ، وأن يكون الشباب عند حسن الظن بهم من الذين يأملون فيهم الخير والبركة . والله لا يضيع أجر العاملين
مكة المكرمه
