على الجانب الشرق لهذا الوادى المبارك ، الذى اختاره الله تعالى حمى لنبيه وموطناً لا كرم خلقه ، ومهداً للدين الذى ارتضاه لهداية البشر ، تقع دار الارقم من ابي الارقم بالقرب من الصفا ، يشرف عليها جبل ابى قبيس ؛ القائم على ناحية هذ الوادى ، كالحارس الامين ، يحرس هذه البقعة المقدسة ؛ ويشيد بمالها من كرامة عريقة وعزة قعساء .
وصاحب هذه الدار - هو الارقم بن ابي الارقم المخزومى أحد السابقين الأولين إلى الأسلام ، شهد بدراً واحداً و وغيرهما من المشاهد العظام ، واقطعه النبى ) ص ( داراً بالمدينة ، وفيها توفى سنة خمس وخمسين من الهجرة !
دار الاسلام - اطلق هذا الاسم على دار الارقم ، اشارة الى انها حصن الاسلام الاول ، ومعقل قادته السابقين ، وإشادة بما لها من فضل فى نصرة الدين وحماية دعوته ، وابواء ابطاله ، فكان اسماً جديراً بماضى هذه الدار واثرها فى خدمة الاسلام .
دار الخيزران - ثم عرفت بدار الخيزران وهو الاسم الذي تعرف به الآن ويروى لنا التاريخ فى سبب هذه التسمية : ان ابا جعفر المنصور اشترى هذه الدار من ولد الارقم بن ابي الارقم ، ومنحها ولده المهدى ، ثم اعطاها المهدى للخيزران ام ولديه الهادى والرشيد .
وعلى باب هذه الدار الآن حجارة نقشت عليها عبارة تشوبها العجمة ، تشير الى ان هذه الدار دخلت في حوزة شيخ الاسلام السيد فيض الله بن
السيد محمد حبيب المقني سنة ثلاث عشرة ومائة بعد الالف ( ١١١٣ ه)من الهجرة صفة الدار - تتالف هذه الدار من رواقين وفناء وحجرة داخلية ، الرواق الغربي وهو مستطيل الشكل ، يتوسطه محراب في قبلته ، وتعلوه قبة مستدبرة وأمامه فناء مستطيل ، والى الشرق من هذا الفناء ، رواق ذو سقف مجصص ، تقرب مساحته من مساحة الرواق الغربي ، وفي الجهة الشرقية من هذا الرواق باب يفضى الى صفة مسقوفة امامها ارض مكشوفة مرتفعة قليلا ، تدل اعالي جدرانها على قبة كانت معقودة فوقها .
هذا وصف مجمل للدار التى كان يقيم رسول الله ( ص ) مع صحابته الاولين يلقنهم أصول الدين ، ويثقفهم بتعاليمه ، ويؤدبهم بآدابه السامية .
اقام النبى صلى الله عليه وسلم مع صحبه الابرار فى هذه الدار الى ان تكامل عددهم اربعين ، كان آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وكان حدث إسلامه يوماً مشهوداً فى تاريخ هذه الدار ، كبر له المسلمون تكبيرة هزت اصداؤها ارجاء مكة ، وماجت لها اندية قريش ، وخرج الرسول على اثرها بين صفين من اصحابه فى احدهما عمر وفي الاخر حمزة ، حتى دخل المسجد فى ذلك الموكب المهيب فكان ذلك مبدأ عزة المسلمين ، وطليعة نصرهم على المشركين .
ان دارا هذا مجمل وصفها ، وذلك بعض اثرها فى خدمة الاسلام ، لهى سجل حافل باعظم الذكريات وامجدها ، سجل ينطوى على ابلغ صفحات التفاني في سبيل العقيدة ، واروع امثلة الشجاعة والبطولة فى الدعوة الى الحق واعلاء كلمنه فى هذه الدار هبط الروح الامين على قلب سيد المرسلين باعظم رسالة هبطت من السماء فاستضاء بها ذلك القلب الكبير ، واضاء بذلك النور القدسي قلوباً آضت مصابيح هداية للعالمين .
من هذه الدار انبعث اول شعاع غمر العالم بانواره الساطعة فبدد ظلماته المطبقة ثم ابدله بحياة الشقاء والعبودية ، حياة الحرية والسلام .
وفي هذه الدار نشأ محمد (ص) الرعبل الاول من اصحابه ، واعدهم لانقاذ البشر من جحيم الجهالة والضلال ، وهدايتهم الى فراديس السعادة و الطمانينة.
ليس بدعا بعد هذا ان تعتبر هذه الدار اول مدرسة فى الاسلام ، فهى أول دار إذاعت دعوة الاسلام ومبادئه ، وفيها تخرج اعظم قادته وابطاله وناهيك بمدرسة من رجالها الخلفاء الراشدون ، والقواد الفاتحون ، والحكام العبقريون ، الألي رفعوا راية الاسلام فى الخافقين ، وثلوا عروش كسرى وقيصر ، وشادوا على انقاضهما حكماما رأى العالم اعدل ولا ارحم منه ، وحضارة لا تزال آثارها ناطقة بفضل العرب المسلمين ، تشهد لهم بسمو الفكر ، وبعد الهمة ، وقوة الابداع .
فما احرانا اذا ان نستلهم صفحات هذه الدار المطوية اسمى آيات الجهاد فى سبيل الحق والعقيدة ، وما اجدرنا أن نتخذ من تاريخها حافزاً لنا على استعادة مجدنا الغابر وعزتنا التالدة .
أن أربعين مسلماً خرجتهم هذه الدار بعد ان نشأهم محمد ) ص ( على الحنيفية السمحة ، استطاعوا ان يغيروا معالم الدنيا ، وان يخطوا على صفحتها عالماً جديداً حفيلاً بالخير والفضيلة والسلام ، يدين بدين الاسلام ، دين الاخوة والمدنية والعمران ، ويتخاطب بلغة القرآن ، لغة العلم والادب والبيان ، وينشئ حضارة من ارقى الحضارات وابعدها اثرا فى سعادة الانسان.
ان أربعين رجلاً استطاعوا ان يضعوا اساس اعظم انقلاب فى تاريخ العالم بفضل العقيدة التى اعتقوها ، والروح التى بثها فيهم المرشد الاعظم ) ص ( ، لخير قدوة لنا معاشر المسلمين فيما نستهدفه نهوض واصلاح ، فلو صدقت منا العزائم ، وتجردت فى كل قطر طائفة لنصرة هذا الدين باخلاص وبصيرة وعملت بهدى من عقائده الصحيحة واحكامه الرشيدة ، واقتدت بهذا السلف الصالح ، لاستطاع المسلمون ان يستردوا غابر مجدهم وسالف عزتهم ، ولا صبحوا سادة الدنيا وقادة العالم فيما ينشده من خير وتقدم ، ولحققوا قول الله تعالى فيهم : " كنتم خير أمة أخرجت للناس . . "
