رأي الأستاذ (حاء)

Share

أصبح واضحا إخفاق الأديب في هذه الحياة وأصبح بديهيا حرمانه من متعها ، حتى كأنه لم يخلق لاجلها وحتى كانه ليس فردا من أهلها ، بل لكأنه رجل غريب خلق ليعيش فى عالم آخر غير هذا العالم وانما قذفت به الاقدار الى هذه الدنيا فدخلها غريبا شاذا لا تتفق حياته وحياة هذا المجتمع ، ( ولا تترآى ناراهما)" ولقد اشتهر بؤس الأديب وشقاؤه فى الاجيال ، حتى صار مضرب الامثال ومن ذلك قولهم : ( فلان أدركته حرفة الادب ) وقال المتنبي:

فسرت نحوك لا ألوى على أحد أحث راحلتى الفقر والأدبا

أرأيته كيف جعل الفقر والأدب في قرن واحد ؟ !

ولقد صار الناس وكانوا من قبل يتشاءمون بلفظة "أديب" لان مركزه يعد خطيرا بينهم لا يقدم عليه الا من يستطيع ويرغب ان يضحى بالحياة الدنيا ونعيمها فى سبيل إراحة ضميره واستجابه عواطفه وميوله ، قال الحريرى على لسان اديب "مقاماته" ابي زيد معبرا عن حالة الأديب في المجتمع بذلك العصر:-

فاليوم من يعلق الرجاء به اكد شئ فى سوقه الأدب

لا عرض أصحابه يصان ولا يرقب فيهم إل ولا سبب

وما هو يا تري ! سبب إخفاق الأديب فى الحياة؟ !

كثيرا ما يتسأل الناس هذا السؤال ، ويذهب كثير منهم إلى تعليلات سخيفة لا تتفق وكرامة الأديب .. أما السبب الذي نراه نحن فى إخفاقه فى متاع الدنية ورفاهتيها وثراها فهو التباين العظيم بين اتجاهه وتصرفه وسيره في الحياة ، والسبيل الذي ينبغى أن يسلكه كل من أراد ان يحظى بعطف أهل الدنيا وينال من خيرهم ولا يخفي عليك أيها القارئ ، أن للحياة ناموسا خاصا يجب على هواتها وعشاق نعيمها وترفها الخضوع له والخنوع لقوانينه.: وهذا الناموس هو مخالف كل المخالفة لفكرة الأديب ، والطريق التى يسير عليها:.

من هو الأديب يا تري حتى يكون شاذا هذا الشذوذ كله عن حياة مجتمعه ، وحتى يتورط هذا التورط العظيم فى البؤس والشقاء ؟

الأديب - أيها السائل هو ترجمان الطبيعة الفتانة الى المجتمع توحى إليه بدائع من جمالها الرائع فتتركه يفيض بالقصائد الرنانة وتأخذه لحظة إلى عالمها الخيالي فتتركه يجود بالقصص اللطيفة الخلابة ، والمقالات الطريقة الشائقة ناسيا الحياة الدنيا وملقيا وراء ظهره أعباءها ومهملا ما يلزمه من السعي وراء اقتناص نعيمها المادي ، والأديب هو رسول الحقيقة الطاهرة تنفخ فيه من روحها وتجعله يضحي بكل غال فى سبيلها غير مبال بما يلحقه من أجلها من متاعب ومشاق.

والأديب هو رسول الانصاف لا يخشى فى سبيل نصرته لومة لائم ولا وثبة معارض وأى متاعب وأيم الله ! وأى مشاق ؛ وأى لوم يلحق محب الحق ، ونصير العدل والإنصاف فى هذه الحياة الدنيا التى أكثر ما فيها ظلم وقسوة وجنف عن الحق وكره للحقيقة . وان الذى يستمتع بملاذ هذه الدنيا هو عبدها الذي يخضع لأوامرها الهدامة الخنفشارية . وهل يستطيع الأديب دائما أن يخفى حقا ويطمس حقيقة من أجل خاطر زيد الذي تضيع لغضبه مصالح الأديب الكثيرة ؟! وهل يستطيع أن يقضي كل نهاره وراء مكتبة الشغل ؛ أو منضدة العمل ، ومع التحاوير والمحاسبات التجارية بينما شعوره يفيض بمقطوعات شعرية أو نثرية رنانة جذابة

وقد أخذ أفراد قلائل من الأدباء حظهم الوافر من الحياة الدنيا كالصاحب بن عباد وشوقي وغيرهما ، وهؤلاء إذا قارنا بين ثروتهم الأدبية وثروتهم المادية من جهته وبين نجاحهم فى الحياة الدنيا ونجاح أقرانهم من غير أهل الأدب فى عصورهم من جهة أخرى نجد أنهم لم ينجحوا النجاح كله ولم يخفقوا الاخفاق كله ادركهم السعد من جهة ولكن لحقت بأطرافهم يد حرفة الأدب ... والجم الغفير من مواكب الأدباء فى العالم شرقا وغربا قديما وحديثا قضو كل حياتهم فى ضنك عظيم ويؤس ملح ، وشقاء كبير ، كابي الخوارزمي وابن الراوندى وإمام العبد وحافظ ابراهيم من الشرقيين ، ولافانتين ولامارتين واندري شنيه وبودلير وغيرهم من الغربيين.

اشترك في نشرتنا البريدية