كان المفروض إلى عهد قريب ان التربية والتدريس هما فنان لا اكثر ولا أقل ، يحتاجان الى استعداد خاص فى المدرس ، أكثر من حاجتهما الى معلومات علمية تدرس . ولكن التقدم العظيم فى علم النفس ، وتعدد نواحي البحث فيه والنتائج العلمية التى وصل إليها علماء النفس والمعلومات الصادقة التى استخرجوها من هذه البحوث عن طبيعة التلميذ وعمل المدرس والطرق الصحيحة للتدريس - كل هذا جعلنا نقول بأن التربية بفروعها ليست شيئا مستقلا عن علم النفس كما كانت قديمًا ، وإنما هي تطبيق للقواعد السيكلوجية ( النفسية ) فعلم النفس يضع القواعد ويستخرج النتائج من تجاربه المضبوطة ؛ ويعطيها لرجال التربية لتطبيقها وما دامت التربية كما يقول العلامة استاوت stout: " ترمي في جوهرها الى احداث أكبر ما يمكن من التغيير والتهذيب فى طبيعة الانسان الأولية حتى ينتفع منها بما يجمله انسانا صالحا للمجتمع ونافعا لغيره " أو كما يقول الأستاذ الامريكي نورنديك . thorndike العمل على تحسين بني الانسان وترقيتهم حتى تزداد حاجاتهم النافعة ويصبح فى مقدورهم تحقيقها والوصول اليها "
مادام هذا هو الغرض من التربية ولا يمكن تحقيق هذا الغرض الا بناء على الأسس السيكلوجية الصحيحة ، فالتربية ( اذن لا تستغني عن علم النفس ، أو كما يقول البرو فريمان Freeman " تستعين التربية على اجراء
التعميرات الرئيسية فى الإنسان بقواه ونزعاته الموروثة ، فتنمي الصالح منها وتقمع الفاسد ، وكذلك بما يكتسبه من بيئة من قدرات وعادات تفيده في مستقبل حياته ، وتحمله على التصرف في كل موره تصرفا مقبولا يقره المجتمع " . فمن الواجب أن يبدأ المربي بدراسة ميول الطفل واستعداداته وعقليته وغرائزه وظروفه الخاصة والفوارق بينه وبين الاطفال الآخرين ، وغير ذلك من المعلومات الهامة حتى يستطيع أن يبني عمله فى المدرسة والبيت والمجمع على أساس تنمية هذه القوى والانتفاع منها على الوجه الأكمل ولا يتأتى كل هذا بغير دراسة سيكلوجية (علم نفس ) الطفولة والاطفال .. ولا أدل على هذا من قول رجلين من رجال التربية فى القرن الماضى ، وهما دكستر ، وجارليك Garliek et destr "أن الطفل هو أهم أداة ، يستخدمها المعلم لأداء مهمته ، فليس من المستطاع ان نعلمه على الوجه الأكمل الا اذا درسنا نفسيته ، اى اذا درسنا علم النفس".
على ان علم النفس يفيد المدرس من نواح أخرى هامة غير هذه الناحية ؛ فهو من ناحية الطريقة فى التدريس يرشده الى تفكير الاطفال ونوعه فى كل مرحلة من مراحل التعليم ، ومن ثم الطريقة التى تناسب هذا التفكير فالبدء بالتعاريف مثلا وذكر القواعد العامة ثم التطبيق عليها فى المدارس الابتدائية كما كان الحال سالفا خطأ محض ، لان الاطفال لا يدركون الكليات إدرا كا صحيحا فى تلك السن . وكذلك فى المادة يرشدنا علم النفس الى انواع المعلومات التى يرتاح إليها التلميذ ويرغب في تحصيلها بدافع غريزة الاستطلاع والتقليد ، فاذا عرفنا هذا نستطيع ان نعطيه المادة التى تشبع فيه نزعاته الطبيعية ، وبذلك نتمشى مع طبيعته فى تعليمه بدلا من ان نكون حربا عليها ، فقد وجد من الابحاث العديدة مثلا ان السن المناسبة للاطفال المتوسطين فى تعليم الطرح بالاستلاف لا تكون مطلقا قيل من ( ٨ ) سنين وثلاثة أشهر على اقل تقدير؛ لذلك يجد صغار التلاميذ الذين
لم يصلوا الى هذه السن صعوبة كبيرة فى فهم معنى الاستلاف فيفهمونه ويطبقونه بطريقة آلية . كذلك فى معرفة الصعوبة النسبية لكل علم من العلوم ومقدار ما يستنفده من الطاقة العقلية وما يحدثه من تعب ، فالنتائج العملية تثبت ان مجموع الرياضيات مثلا تحدث اكبر كمية من التعب العقلي لأنها تستنفدا كبر كمية من الطاقة العقلية وكذلك يجب ان يكون موضعها من جدول الدراسة فى الحصة الثانية أو الثالثة عندما تكون الطاقة العقلية على اشدها . ويجب ان تعقبها فترة استراحة طويلة بخلاف الاشغال اليدوية والعلوم العملية ، فانها مريحة للعقل ولذلك يمكن ان تعطى فى الحصة السادسة بعد الظهر وهي اسوأ الحصص لان الطبقة العقلية فيها تكون اقل ما يمكن ، وغير ذلك من ألوف المسائل التى تمس عمل المدرس.
ومن أهم النواحي فى تطبيق علم النفس التعليمي فى عمل المدرس دراسة القوى العقلية الخاصة التى تستخدم فى تعلم كل مادة من مواد الدراسة كالقراءه والعد فى الحساب مثلا ثم معرفة مقدار قابلية هذه القوى للتقدم والتحسن بالمران ومن ثم درجة التحسن واستعداد التلميذ لهذا التحسن فى المادة كلها وكذلك تحليل كل قوة او قدرة الى عناصرها حتى يكون تعليمها أضمن وأسلس قيادا كما هو الحال فى الاختبارات التشخيصية للضعف فى الحساب ، ثم معرفة أسهل الطرق وأنجعها للانتفاع من مواهب التلميذ ودراسة العمليات الخاصة بالتعلم ، ومدى مناسبتها لكل موضوع او علم من العلوم ثم دراسة طبيعة العمليات العقلية الراقية كإدراك الكليات والتخيل الابتكاري وذاكرة المعاني وطرق تنظيم هذه العمليات ثم الدراسة التقابلية ، للمقارنة والمفاضلة بين طرق التعلم المختلفة وأحسن الطرق لعرض مادة الدرس والسير فيه والتطبيق عليه ثم تنظيم عمل التلميذ بالمدرسة واستغلال وقت فراغه لمصلحته ومصلحة المجتمع.
ومن هذا نري كما يقول الاستاذ رايمونت Ramont أن علم النفس هو العلم الوحيد الذى تدين له التربية بالفضل" : وستتسع مباحث علم النفس فى المستقبل
بحيث يصلح لنا ان نقول مع السير جون أدمز Sir Gon Adms زعيم رجال التربية في الوقت الحاضر : " انه لن ينتصف القرن العشرين حتى تظهر لعلم النفس فتوح جديدة فى ميدان التربية أهمها معرفة كل شيء عن التلميذ ، بحيث تكون له بطاقة خاصة يسجل فيها كل شيء عن عقله ونفسيته مقدرة تقديرًا كميا كما نقدر طوله ووزنه وكذلك تعليمه العلوم التى يميل اليها بطبيعته ثم معرفة المهنة التى يميل اليها باستعداده وتوجيه توجهًا خاصًا لها ثم إرشاده الى نوع الحياة المقبلة التى تلائمه".
نختم هذا بقولنا : إن التربية فى الواقع تستمد معلوماتها عن الفرد من دراسة يجب أن نعترف بأنها سيكلوجية بحتة.
