الناس عيال فى الصحافة الحديثة ، على " الديل ميل" الانكليزية " ففي عام ١٨٩٦ م استوقف المارة فى شوارع لندن إعلانات كبيرة كتب عليها " الديل ميل .. مفاجأة " ولم يلبثوا أياما قليلة ، حتى رأوا العدد الاول منها ففوجئوا به ، اذ جاء مختلفا اختلافا بينا عما ألفوه حتى ذلك الحين - اذ كانت الصحافة وقتئذ أشبه بالسجل الطويل الممل - ومع أن حجمها كان أصغر من حجم الجرائد الأخرى ، فقد احتوت خلاصة ما كانت تنشره تلك الجرائد ثم ان تلك الخلاصة كانت مسبوكة فى قالب جذاب ، وبعناوين لافتة ، وترتيب يرتاح اليه النظر ، ولم يكن ثمة اثر للمقالات المطولة ؛ والمباحث المستفيضة ، بل اقتصرت على الخلاصة التى تهم الرجل العادى ، أورجل الشارع " وبعد ثلاث سنوات بلغ المبيع منها نصف مليون نسخة . أما الآن فهى تبيع كل يوم ما يقرب من المليونين ونصف مليون نسخة .
إذن فهذا الاسلوب التى ابتكرته " الديل ميل " وسارت عليه الصحافة العالمية من بعدها حتى اليوم ، هو العامل الأول في تطويره الصحافة ونجاحها .
وفهم هذه الحقيقة . . يعنى أن الصحيفة الناجحة لا تقوم على التحرير فحسب بل قد يكون " التحبير " واعنى به المطبعة وما يتصل بها من اكبر عوامل النجاح بالصحيفة ، ذلك أن العامل الجيد ؛ والحرف النظيف ، والزنك السريع ، مع
الاستعداد الكامل ، و " التوضيب " الفني ، يعطيك من الصحيفة ، ما تعطيه الحديقة المنسقة ، ولو كانت مزروعة بالحشائش والبرسيم .
ومن عوامل نجاح الصحيفة ؛ أن تجتذب جمهورها ، وطريق ذلك أن نجد الجمهور فيها مرآته التى تنعكس فيها آماله وآلامه وأراءه ومقترحاته ، ومن هنا كانت حرية الصحافة - فى حدود الدين والقانون والمجتمع - مع النزاهة والاعتدال في سرد الحقائق والوقائع كما هى فى حقيقتها وواقعها ، اعز ما يتطلبه الرأى العام ، ويسعى اليه . فهو يكره من صحيفته ، ان يجيء مافيها مسوقا بعوامل الحب ، والكره ، أو أن تصدر - فيما تكتب عن هوى وغرض .
تقول هذا مجاج النحل تمدحه فان ذمت فقل قىء الزنابير
مدح وذم وذات الشىء واحدة إن " البيان " يرى الظلماء كالنور
ولأشك في أن النزاهة ، والاعتدال ، هما مصدر قوة الصحيفة ، ومن هذا تجيء قوة الصحافة العامة ، والخشية منها ، فقد فطر الناس من قديم الزمان .. على الخشية من عرض أعمالهم للنقد العلنى ، وهذه الخشية هى التى تدفعهم الى سلب الصحافة حريتها . . ولكنها - فى ذات الوقت - هي التى تسوقهم إلى الاصلاح الدائم طلبا للثناء والتقدير ..
والصحفى الناجح ، يستطيع أن يوائم بين مطلب الحرية التى ينشدها الجمهور العام ، وبين خشية النقد . . إنه يستطيع بلباقة " النجار الفني " أن يضرب " بالقدوم " ويمسح " بالفارة " إذا ماتأتى له أن يدرس " الجمهور العام " و المجتمع " و " المسئولين " دراسة نفسية عميقة ، تقوم على التجارب ، والاختلاط ، والمران والقدرة على تكييف الاجواء ؛ بذلك يستطيع ان يحقق لقرائه مطلبهم ، ويضمن لصحيفته التشجيع والتأييد . وفي ذلك تحقيق لرغبته فى خدمة بلاده وحكومته .
واستمالة القارئ ضرورة من ضرورات الصحافة الناجحة . . فهو " عميلها " الأول ، والقارئ العادي أو رجل الشارع يكره الجهد . . ولا يحب العناء فواجب
الصحيفة أن تبسط له أسلوب الكتابة ، حتى لا يستشعر أي جهد أو مشقة ولعل الأهم من ذلك ، أن تتحدث الصحيفة بما يرتبط بمعلوماته ، ومعرفته ، وما فى نفسه وعقله من أفكار وعواطف . . فقد قدر أحد الصحفيين " أن وفاة تحدث فى المدينة التى تطبع فيها الجريدة ، تعادل من حيث قيمتها الصحفية خمسين وفاقة فى المقاطعة التابعة لها المدينة . والف وفاة فى احد الاقطار المجاورة ، ومليون وفاة فى قارة اخرى "
فالقارئ ينتظر دائما أن تحدثه ، عن موت ، أو عزل ، أو مرض ، أو تعيين احد مواطنيه اكثر من أن تتحدث اليه عن تلك الاشياء نفسها بالنسبـ لرئيس أكبر جمهورية فى العالم .. ومن أجل ذلك لا بد للصحيفة سمهما تواضعت من مندوبين دائمين ينقلون اليها حوادث البلدة ، والمملكة التى تصدر فيها الجريدة ..
ثم السبق الصحفى يكاد يكون اليوم عماد الصحافة اليومية .. حتى لنروي فى هذا الباب مفارقات صحفية عجيبة .. فقد مضى الزمن الذي قال فيه المتنبى :
طوى الجزيرة حتى جاءنى فى خبر فزعت فيه بآمالي الى الكذب
فان الصحافة اليوم تعطيك اخبار حادث حريق مثلا مع صوره وتفصيلاته قبل أن يطفأ الحريق .. وهكذا فى كثير من الحوادث والاجتماعات
ويكون نجاح الصحيفة - فى بلد ما - بنسبة عدد المتعلمين فيها ، فكلما ازدادت نسبة التعليم ازدادت " مقطوعية " الصحيفة ، بل ان وفرة المتعلمين عامة ، ووفرة المتخصصين فى أنواع من العلوم والمعارف ، يوجد صحافة ذات لون خاص نستطيع أن نسميها " صحافة الاختصاص " كالصحف والمجلات " الطبية " و " والهندسية" و" التربوية " و الفنية " فاذا أضفت الى ذلك نوع التفكير التى تخلقه طبيعة الحوادث المنبثقة من صور الحياة الاجتماعية والسياسية ، والاقتصادية ، قام الى جانب " صحافة الاختصاص " الصحافة الحزبية ، والعمالية ، والنقابية ، وهذا من شأنه أن يجعل الصحافة فى ذلك الشعب .. ضرورة لازمة كالأ كل والشرب تماما . . وهذا ما يجعل مهمة صحافة - كصحافة بلادنا - صعبة لا يمكن معها
يقذفها البريد مجتمعة - ذات ألوان ثقافية وإخبارية ، وصور شمسية - فى كل أسبوع مرة او مرتين .
على آن من أهم ما تقوم به الصحافة . . الادارة المالية وتنسيقها . . وفي مقدمة ذلك وفرة الاعلانات بها . . والنظرة السطحية العامية تضيق بكثرة الاعلانات فى الصحيفة وترى أن عمل الصحيفة قد تحول إلى مهمة تجارية محضة ووجه السطحية فى نظرات أصحابها - كما يقول الدكتور محمود عزمى - أنها لا تذهب بهم الى تفهم مبدأ جوهرى أصيل ، هو أن كل منشأة من المنشآت يجب - كي تؤدي وظيفتها أن تعيش أولا . . وان لحياتها مقومات يجب ان تضمن ، وان الاعلانات التى يشكو القراء من طغيانها إنما هى المورد الوحيد الذى لا تطمئن الصحيفة الا بتوافره ، وان توفره هو الذي يعين اصحاب الصحيفة على ان يتولوها بالتحسين ، ويتعهدوها بالترقية . ويقول الاستاذ اميل زيدان : " لقد حسبوا ان المبيع والاشتراك لا يأتيان بثلث الدخل ، والثلثان الآخران من الاعلانات " :
ومن هنا يجب ان تقوم الصحافة الناجحة على ادارة مالية مدعمة ، ومن اجل ذلك نجد ان الصحافة الفردية غير مضمومة النجاح . . وان جميع صحف العالم اليوم .. إنما تقوم على شركات ذات رؤوس اموال باهظة . . وهناك من مقومات الصحافة الناجحة ما يطول الحديث عنه كالتصوير الشمسى وفلسفة " العنوان " و " الخبر " و " الاعلان " و التعليقات " بأنواعها . . وكيف تكون صحيفة " الخبر " وصحيفة " الرأي " وصحيفة " الخبر والرأى " معا ، وتوزيع الاختصاصات الأخبارية ، والثقافية و" الترجمية " وغير ذلك مما أخشى من سرده أن يطول بي الحديث - ان لم يكن قد طال - الى اكثر من القدر الممنوح لى هذه المجلة . .
وبعد . . فما هو مستقبل الصحافة فى بلادنا . على ضوء ماقلته عن مقومات صحافة الناجحة . . أعتقد انه مستقبل غير واضح .. ومن الخطأ التكهن به ،
رغم تفاؤل المشرفين على تحرير الصحف والمجلات فى بلادنا ورغم محاولاتهم العديدة فى التحسين ، واكتساب رضاء القراء .. ونظرة خاطفة تتبعها مقارنة سريعة بين واقع صحافتنا ، وبين مقومات الصحافة الناجحة نكشف عن البون الشاسع .. والطريق الطويل الذي يجب ان نفذ السير فيه لنقطعه . . حتى يمكن لصحافتنا ان تلحق زميلاتها فى الاقطار العربية ، ولست أعني ان الصحافة عندنا ستقف عند هذا الحد الذي وصلت اليه او انها قد بلغت غاية جهدها وطاقتها ولكنى اعنى ان حركة تطورها ستكون بطيئة ، ولن يكون فى امكانها مجاراة الصحف العربية ولو بعد اعوام ، ذلك ان للحوادث وطبيعة الحياة وسير التعليم وتفوق المطبعة هناك ما يدفع بالصحافة العربية الى تطور دائم وحركة مستمرة لا يمكن ان تتوفر هنا . . رغم المساعدات المالية والمعنوية التى تقدمها الحكومة للصحف والمجلات ولكن الطريق الى تطور معقول يساير الزمن والأوضاع العامة هو ان يفكر القائمون على امر الصحف - وفي مقدمتهم الشركة العربية للطبع والنشر في تحقيق بعض عوامل النجاح للصحف - وتحقيق بعض ذلك سهل ميسور بشئ من التوجه والعناية . . فعسى ان يكون ذلك قريبا .
