الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "المنهل"

كنوزنا العلمية المخبوءة

Share

بحق تعد مكتبة السيد عارف حكمة بالمدينة المنورة ، فى مصاف المكاتب العالمية الغنية بما ضمته من هذه الألوف من الاسفار القيمة الممتعة ، مخطوطة ومطبوعة ، فى مختلف الفنون ، وشتى العلوم والآداب ، مما اثمرته شجرة الحضارة الاسلامية المباركة فى متوالى ادوارها ، ومتعاقب اجيالها .

فانت اذا دخلت هذه المكتبة هالتك هذه الجموع ، من الاسفار العلمية والأدبية والطبية الموضوعة فى خزاناتها اللامعة الجذابة ؛ متراصة فى شكل هندسي جميل ، وترتيب فني دقيق

وأنت اذا بحثت عن مكوني هذه الجموع ، ومنشئ هذه الكتل العلمية الهائلة المصفوفة فى داخل هذه الخزائن الكبيرة ، فانك واجد أنهم ابناء حضارة الاسلام ، وبناة مجد الاسلام ، من علماء نبغاء ، الى حكماء نبهاء ، الى فنانين بارعين ، واطباء حاذقين ، قضوا زهرة شبابهم وكهولتهم فى الدرس والتحصيل وفي التأليف والتدوين .

و قد لا نعدو الحقيقة اذا زعمنا بان مكتبة السيد عارف تحوى جل لباب

التراث الفكرى فى حضارة الاسلام ، فأنت واجد فيها - اذا نقبت بحق - شجرة من كل بستان وجوهرة من كل بحر ، وفنا من كل علم ، وثمرة من كل فن ، ولبا من كل ثمرة .

واذا كان هذا شأن هذه المكتبة فليس بدعا أن نرى الباحثين ينسلون اليها من كل صوب وحدب ، لينهلوا من معينها الغزير يطالعون  ما لذ لهم مطالعته وينسخون ما طاب لهم استنساخه . واذا كان هذا هكذا فما اجدرنا ونحن منها على كثب - ان نعنى بما احتوته من كنوز علمية مخبوءة ، وما احرانا ان ننقب عن هذا التراث القيم المدخر ؛ لننشر على الناس أمثلة رائعة من عبيره الفواح .

وقد استرعى نظرنا من هذه المكتبة بصفة خاصة ، كتابان ثمينان مخطوطان ، وهما كتاب " ذكر صور المسافات والأقاليم  وكتاب نخبة الدهر في عجائب البر والبحر واشادة بمكانتهما سنقتطف لك منهما نبذا وجيزة فيما يلى ، ثم اشباعا لنهمتك العلمية وارواء لظمئك الفكرى سنعرض عليك منهما صورا سريعة ؛ لتشاهد مدى تقدم الاسلاف ، ولتدرك مبلغ شغفهم بالعلم ، وحرصهم على تدوينه وتحقيقه وتمحيصه ، واحتفالهم بعلم الصناعة وسعيهم الملح فى ترقية هذا العلم وتمجيده وتشييده ، فليس العلم الصناعي والفني وقفا على ادمغة الغربيين وليس الاكتشاف والاستنباط والاختراع وساما لم يحمله سوى الاوربيين ، بل انك اذا امعنت النظر فيما ساضعه بين يديك من هذين الكتابين تفقه معنى ادعاء كون مدنية الغرب ، نتيجة حضارة الشرق الاسلامى ، وتستيقن ان هذه الدعوى موطدة بالدلائل ، وانها امر حقيقي واقع لا يمكن دفعه ولا نقضه ولا انكاره ، بل يجب اثباته وإبرامه واقراره ؛ على انا انصافا للبحث العلمى لا نري بدا من القول : أن الفنون الصناعية والطبعية ، فى الحضارة الاسلامية كانت فى الاعم مجملة متداخلة وكان عليها سيما الغموض والاضطراب ، ويعلوها فى كثير من الاحيان قتار الوهم ، نتيجة تأثر الاسلاف فى هذه العلوم بروح التفكير اليونانى والفارسي والهندى ،

فهم لم يعملوا يد التمحيص والغربلة فيما تلقفوه من القدماء اللهم الا فى بعض المسائل التى عنو بها عناية خاصة فبزوا الأقران ، واستقلوا فيها بافكارهم النيرة ، فكانوا هداة عالميين وقادة خالدين .

" ذكر صور المسافات والأقاليم "

مؤلف هذا السفر الفذ في علم الجغرافيا هو الجوابة المسلم الكبير أبو زيد احمد بن سهل البلخي ٢٣٥ - ٣٢٢ ه / ٨٤٩ - ٩٣٤ م ) ويقول الاستاذ خير الدين الزركلي فى كتابه الاعلام عن هذا الامام : " انه احد الكبار الأفداذ من علماء الاسلام جمع بين الشريعة والفلسفة والأدب والفنون ولد فى احدى قرى بلخ وساح سياحة طويلة ثم عاد وقد علت شهرته فعرض عليه حاكم تخوم بلخ وزارته فاباها وذكر له الكتابة فرضيها فكان يعيش منها الى ان مات فى بلخ ، وقد سبق علماء البلدان فى الاسلام كافة الى استعمال رسم الارض فى كتابه صور الاقالم الاسلامية

وكتابه المذكور مقصور على البحث فى طبيعة بلدان الاسلام وعنى فيه عناية بالغة بتحديد المسافات بين المدن والقرى والمخاليف التى تحدث عنها فيه ومما يلفت النظر ، ويسترعي الانتباه بدؤه الكتاب بوصف جزيرة العرب ؛ اعترافا بمنزلتها الدينية السامية ، فبرهن بهذا على تدينه وجم أدبه . ولقد حدثنا عن الجزيرة حديث العالم الخبير ، وأوضح لنا مدنها وقراها وتكلم عن جبالها ووديانها ، وكشف عن معادنها واجوائها ، وشرح حدودها وقطانها ، ونوه بعمرانها وآثارها . ومن آثارها التى تحدث عنها ميناء الجار الذي لا يفصله عن المدينة سوى مسافة ثلاثة أيام ، ونوه لنا باتساع عمران هذا الميناء فى القرن الثالث ، وجعله الدرجة الثانية بالنسبة لجدة فرضة مكة المكرمة . فاين ياتري ذهب عمران هذا الثغر القريب ؟ وما هى العوامل التى أثرت عليه فقلصت من ظله ؟ اتراها طبعية ؟ ام هي ترى ناشئة عن اسباب اجتماعية او بواعث اقتصادية ؟ وعلى كل فقد تحول العمران

إلى ينبع ( البحر ) وأصبحت هي ثغر المدينة ومرفأ السفن والبواخر فى زمن لا يستطيع الآن تحديده لقلة المصادر التى بين ايدينا فى هذا الشأن .

ويفيدنا البلخي عن حقيقة ينبع ( النخل ) وعن اهلها الاولين وتمورها الجيدة اذا يقول عنها :

" وينبع حصن بها ماء وزرع وبها وقف لعلى بن ابى  طالب كرم الله وجهه يتولاها اولاده ؛ يفضل تمورها على سائر التمور

ويوضح لنا القبائل التى كانت لعهده نازلة بسيف هذا البحر الا حمر في  ناحيته الشمالية الغربية اذ يقول :  

وبعده ) اى بعد جبل رضوى ( فيما بينه وبين ديار جهينة ويلي ساحل البحر ديار للحسنيين حرزت بيوت الشعر التى يسكنونها نحو من سبعمائة بيت وهم بادية مثل الاعراب ، ينتقلون فى المياه والمراعي مثل الاعراب لا يميز بينهم فى خلق ولا خلق ، وتتصل ديارهم فيما يلى المشرق بودان   وودان هذه من الجحفة على مرحلة وبينها وبين الأبواء التى على طريق الحج فى غربيها ستة اميال

وفي امكاننا ان نستنتج من هذه الرواية التاريخية ، ومن ملاحظة سكان ينبع وماجاورها فى العصور الاخيرة حتى العصر الحاضر . ان هؤلاء البادية الذين كانوا ينزلون هذه النواحي هم الذين عمروا ينبع البحر . وفي ازمان متوالية اتسعت وبنيت بهذا الشكل الموجود اليوم  .

" كتاب نخبة الدهر في عجائب البر والبحر "

الفه البحاثة الشيخ محمد بن ابي طالب الانصاري الدمشقى )   ١٧-١٣٢٥ م ( وفى ترجمة هذا العلامة يقول صاحب الاعلام : " كان ذكيا فطن الحديث " لهذا المؤلف ملاحظات دقيقة استوجبت اعجابنا من سعة اطلاعه وثقوب ذهنه وكتابه هذا هو دائرة معارف اسلامية شاملة ، وان شئت فقل : دائرة معارف كونية

واسعة فقد بحث فيه عن الانسان والحيوان والجماد والنبات والمعادن والمياه كما بحث  فيه عن فنون من الحكمة والوان من الاداب والعلوم في غاية من الطرافة ، والذى يجعل له ميزة خاصة رسمه لما يتكلم عنه من هذه الاشياء والصناعات المحسوسة محاولا بذلك ايضاح حقيقة الموضوع الذي يعنى بتحليله ، بواسطة تمثيله للنظر . وهذا عمل  بديع حقا من مؤلف قديم ؛ وهذا نفسه يدلنا باجلى بيان ، وينبهنا باصدق برهان على ان استعانة الباحثين الاوربيين بأيضاح ما يكتبون عنه من هذه الأشياء الطبعية والصناعية والطبية المحسوسة ، بوضع رسوم لها فى أثناء مباحثهم لتقريبها للاذهان ، ليس مما ابتدعوه ، ولامما ابتكروه ، بل هو من جملة ما اقتفوا فيه اثر الثقافة الاسلامية المجيدة ، فهم فى هذا الشأن أيضا مقلدون لا موجدون ، ومتبعون لامبدعون !

ولقد تحدث المؤلف عن كل ما وقع عليه بصره ، او وقع الى سمعه من عجائب البر والبحر ، ونرى - استنتاجا من تحليلاته - انه عنى بالتمحيص فى أغلب ما يرويه . ولقد جاء بالوصف الجامع المانع ، فى حديثه عن البركان اذ يقول : " ولها - اى الجزيرة المهراج - اطمة عظيمة ترمي بشرر الحجارة ويسمع لها باللهب اصوات كالرعود ، وهذه الاطمة بجبل بطرف الجزيرة وقد حما حوله من السكنى والمرور حماية بالنار نحو فرسخ ، وهذا البركان من أعظم نار فى الدنيا وليس كمثله نار وتسمى بقعته جزيرة البركان .

فهذا الوصف الدقيق للبركان لا يجئ الامن التدقيق والتمحيص ، ثم هذه الصيغة نفسها لهذه الفوهات التى تنبعج عنها الأرض فترمى بحمم سود محترقة طالما بحثت عنها لهذا المعنى فى كتب اللغة واسفار التاريخ و الجغرافيا الاسلامية القديمة فلم اقف لها على ذكر ، اللهم الا فى هذا السفر الجامع النفيس

ومباحث المؤلف في الطبيعة تزيدنا يقينا بانه لم يكن عالما دينيا فحسب بل

كانت له اليد الطولي فى علوم الطبيعة مع ذلك ؛ من أجل هذا تراه يعقد فصلا خاصة للماء وطبائعه وفيه يقول :

وتكلم العلماء بعلمهم في الشيء الذي كان عنه الماء فمنهم من زعم المياه من الاستحالة وطعم كل ماء على قدر تربته ، ومنهم من يزعم ان البحر بقية الرطوبة التى جفف اكثرها جوهر النار وباحراقه لهذه البقية استحالت الى الملوحة ومنهم من زعم ان البحار عرق الارض لما ينالها من احراق الشمس باتصال دورانها .

وهذا الذي ذكره المؤلف ليس ببعيد عما نقرؤه اليوم فى هذا الموضوع ، لعلماء الطبيعة المعاصرين

" الحركة الدائمة

والحركة الدائمة هي احدى العقد التى استعصى حلها على علماء الطبيعة فى الازمنة المختلفة ، ومع هذا نرى العالم الاسلامي في تاريخه الذهبى - يدنو أو يصل الى استنباطها وإخضاعها لعالم الصناعة والاقتصاد .

ونحن ايثارا للافادة ؛ وتنويرا للاذهان ، نروي لك حديث المؤلف برمته عن الاختراع الاسلامي المجيد

تحدث المؤلف فيما تحدث عنه من مدن ادربيجان ، عن مدينة مرند ، فوصفها وتطرق من وصفها الى ذكر عجوبتها الصناعية ، وتلك هي الطاحون الميكانيكى الدائم الدوران بما اوجد فى آلاته من هندسة فنية مدهشة فى الدقة والاحكام ، قال المؤلف :

" وبها طاحون تدور بالماء الواقف وهو من اعاجيب البلاد والزمان والعمارة وذلك ان هذه الطاحون حجران لهما فراشان ، وكل فراش يدور بمائه ، ويدير حجره الأعلى من حجريه ، فيضم الحب ؛ والفراشان داخلان من جانبي قبو فيه من الماء المخزون المحقون نحو من قامة عمقا ومن ستة اذرع فى مثلها وسعا ، وفي وسط هذا القبو المخزن عمود ممدود كالجسر فى عرض القبو داخل في جداريه  من

ها هنا وها هنا ، وعليه اعنى العمود المحدود برابخ رصاص محكمة الوصل موصوله بعض ببعض ، قطعة واحدة مفتوحة الحلقوم ، منعطفة على العمود من وجه الماء والى وجهه من الناحية الأخرى والحلق الواحد منها مفتوح فيه هندسة تمتص بها الماء عن نحو نصف ذراع فيرفعه فيه محمولا جاريا حتى يتدلى بقوة من الحلقوم الآخر وهذا الحلقوم مرتفع عن وجه الماء بقدر معلوم ، يخر منه الماء فيقع على ارياش الفراش ويدير الحجر ويصل الماء بعد وقوعه على الفراش الى الماء بعينه وكذلك يفعل ببربخ اخر ملاصق لهذا البربخ ، وهو مثله فى الطول والسعة ومخالف له فى الحلقوم ؛ فان هذا يرفع الماء من حيث يصبه ، وهذا يرفعه من حيث يصبه الآخر ، والماء واحد صاعد ومنحدر ابدا ، لا ينقص ولا يزيد ولا يتحرك الا  بامتصاص هذين الحلقومين "

( وهنا رسم المؤلف صورة الطاحون المشار اليه (

والذى يلفت النظر في وصف هذا الطاحون هو امران ، فاما اولهما فهو استعمال المؤلف اسماء كلها عربي فصيح في التعبير عن اجزاء الطاحون كالارياش والفراش والبربخ والعمود والقبو والحلقوم الخ ، فلم يحتج الى الاستعانة في التعبير عن كل ما ذكر باية كلمه من لغة اجنبية ؛ فليتامل هؤلاء الذين يرمون ام اللغات " بالقصور عن مجاراة زميلاتها الغربية فى ميدان الافصاح عن الاجزاء الدقيقة والكبيرة للآلات المستحدثة والحق يقال انه ان يكن هناك قصور فانما هو متمثل اليوم في ابناء هذه اللغة العربية الكريمة الفياضة ، لا في اللغة نفسها ، وذلك بسبب قلة اطلاعهم على خفاياها ، وعدم احتفالهم بنبش كنوزها المحبوءة فى خزائنها المهجورة واما الامر الثانى  مما يلفت النظر فهو هذه الصورة الكاملة التى رسمها المؤلف في كتابه للطاحون نقلا عن المشاهدة والعيان وامانته فى هذا النقل ، مما يدل على ذيوع الروح العلمية التطبيقية فى الحضارة الاسلامية ايام اشراق ذكائها وفي هذا عبرة لمن اعتبر ، وبصيرة لمن استبصر  

اشترك في نشرتنا البريدية