من الاشخاص القلائل الذين اعتقد أنى تأثرت بهم ، الاستاذ جميل حسن رحمه الله رحمة واسعة ، فقد كان شخصية محبوبة مهيبة ، وقد كان استاذا لنا بمدرسة الفلاح بجدة لبضعة اشهر فقط ، ولكن اثره فى نفسى - وقد مضى على هذا العهد حوالي العشرين عاما أو اكثر - ما يزال قويا ، كأنما هو بالامس .. فقد كان ذا شخصية قوية تفرض نفسها على الناس ، وكان تأثيره فيمن حوله مزيجا من المحبة والمهابة ، أو من الحب الذى يوجب الاحترام ، وكثير من الناس ذوى الشخصيات القوية يحبون ، أو يهابون ؛ ولكن اجتماع الصفتين للشخصية هو دليل قوتها واكتمالها ، وقد كان استاذنا رحمه الله من هذا الطراز الفريد من الناس .
عبقري سبق عصره وزمانه ، فقد كان يعتبر البلاد العربية كلها له موطنا فى وقت كان كل قطر عربى فيه يدعو الى احياء قوميته ، ويتمسك باقليميته وكانت الوحدة العربية - ما تزال - حلما فى ضمير الزمان ، وخيالا عذبا فى بعض الاذهان
وكان مؤمنا برسالة العلم فوهب نفسه لها مدرسا فى المدرسه الفلاحية ، عفيف اليد واللسان ، لا يشارك فيما يشارك فيه غيره ، من امور المادة ، ومقومات العيش فقد كان رجلا يحترم نفسه ، ويحترم العلم ، وكان كل همه أن يبث هذه الرسالة فى تلامذته وطلابه ؛ وقد عاش وحيدا كالمفرد العلم ، لم يربط نفسه الى زوجة ولم تهف نفسه الى ولد ، فجعل من ابناء الأمة ابناءا له ، ومن الوطن العربى الأكبر بيته الذى يأوى اليه اينما حل ورحل .
وكان اصلح ما يكون استاذا ، أو قائدا عظيما ، أو زعيما مجاهدا ، وقد كان استاذا وقائدا زعيما لمن اتصلت بينه وبينهم الأسباب من التلاميذ والطلاب . كانت الدزوس التى يلقيها علينا هى دروس الجغرافيا والهندسة والحساب وكنت اظن - ولعل الكثيرين ما زالوا يظنون حتى الآن - ان هذه المواد أبعد الأشياء عن دروس الوطنية والتاريخ ، ولكن محمد جميل حسن مدرس الجغرافيا استطاع أن يخلق من درس الجغرافيا مادة لدراسة التاريخ ، بل لدراسة الوطنية وهو مثل من الامثال الرفيعة التي جعلتنى أعتقد ان العلم هو الاستاذ , وليس الكتاب أو المادة ، وهو من آخر زادنى اعتقادا بان شخصا يهب نفسه لفكرة لابد ان يحققها بتوفيق الله ، إذا كان مخلصا لها ، ومؤمنا بفائدتها .
كان درس الجغرافيا لا يتعلق بالجزر والمحيطات ، والجبال والانهار فحسب كما يظن العاملون ولكنما كان يتحدث قبل هذا عن تاريخ كل قطر من هذه الاقطار ، سياسيا ، واقتصاديا ، فقد كان يحدثنا على خريطة آسيا وهو يشير الى اليابان مثلا كيف بنت هذه الامة نفسها سياسيا ، واقتصاديا ، ويشير الى نهضتنا الحديثة ( وكانت اذ ذاك موضع عجب العالم ) ويتبسط فى ذلك ما شاء له التبسط ويستخرج لنا من ذلك الامثال ؛ اما اذا جاء ذكر جزيرة العرب فهنا يتجلى الاستاذ وينسى الخريطة ، ويفيض فى تاريخ العرب قديما وحديثا ، ويشير الى البلاد العربية التى كانت ما تزال ترزح اذ ذاك تحت نير الاستعمار ، أو تجاهد للخلاص من اسارها ، ويطلعنا على اسرار نهضات الشعوب ؛ وعوامل الجهاد ... وكان يشير الى موضع القطر الذى داهمته قوى الاستعمار فيستثير الحماس ويحفز الهمم وينير النفوس ، فاذا بهؤلاء الصبيان الصغار الذين لم يبلغوا الحلم قد انقلبوا ابطالا يتحرقون الى تحرير اوطانهم والذود عنها .
واذكر مرة اننا كنا فى قاعة الدرس فاذا بالمدافع يهز هزيمها ارجاء المدرسة واذا بالهرج يسود التلاميذ فيندفعون الى المماشى والافنية ، ولكن صفا واحدا من الصفوف لم يبرح مكانه ؛ ولم يختل نظام ذلك هو الصف الذى كنا فيه ، لأن الأستاذ الذى كان يقف فى قاعة الدرس فيه هو محمد جميل حسن !!.
كان مثلا حاليا من امثلة الخلق الرفيع ، فلم تلحق اسمه شائبة ، ولم يذكر اسمه الا مقرونا بالاحترام والمهابة ، فقد صان نفسه عن كل ما يضع النفوس أو يزرى بها ، وبهذا كان قدوة حسنة لتلامذته ومريدية . وكان يحب النظام ويحرص عليه ويدعو له ، حتى لقد كان يتجاوز فى سبيل ذلك ما رسمه لنفسه من حدود ، فقد كان بعض الأساتذة يفرض على التلاميذ - وخصوصا فى أيام الامتحانات - أن لا يبرحوا مقاعدهم فى وقت الفسحة ، وهى مقدار عشرين دقيقة فى الضحوة بين الدروس - ليذاكروا دروسهم ، فكان أستاذنا محمد جميل حسن رحمه الله اذا ما رآنا منكبين على المذاكرة فى هذه الفرصة أمرنا بالانطلاق ، واللعب ، ومغادرة قاعة الدراسة، ولو كان الآمر بذلك مدير المدرسة نفسه ، فقد كان يرى أن هذه الفسحة وضعت لتكون فرصة للترفيه عن التلاميذ من عناء الدرس والمراجعة فلا يسوغ أن تستعمل الا فى هذا الغرض بالذات ، وقد علمنا احترام الاساتذة وتوقيرهم ؛ فاذا ما دخل الاستاذ إلى قاعة الصف وقف الجميع كأنهم الجند حتى يأذن لهم بالجلوس ، وإذا ما رأى تلميذا كسولا أو متقاعدا صاح فيه : إنهض ، فينهض التلميذ وكانما مسه تيار من كهرباء .
وكانت له فراسة خاصة فى تلامذته فاذا ما رأى من احدهم ذكاءا أخذ بيده فشجعه وأولاه عنايته ؛ واذكر انه اقرأنى كتاب (( أدب الحجاز )) قبل أن أعرفه وقبل أن ينشر بين الناس ، كما اطلعنى على كراريس بعض التلامذة الاثيرين لديه فى مكة اذ ذاك ؛ ولعل غيرى حظى منه بمثل هذه العناية ، رحمه الله .
هذا بعض ما حفظته الذاكرة عن هذا الاستاذ العظيم ، وهو مثل من أمثلة الاستاذ المخلص ، والعبقرى النابه ، طيب الله ثراه ، نسوقه تذكرة وذكرى للمدرسين والطلاب ، رحمه الله رحمة الأبرار ، إنه سميع الدعاء .
