مشكلة الصمت

Share

هذا لا يجوز ، ان الصمت فضيلته قل أن يرعاها أو يصبر عليها إنسان ، فكيف يمكن أن يكون مشكلة ؟

ولكن الصمت قد يعتبر مشكلة عند طوائف خاصة من الناس ، عند الثرثارين والنساء والبكم - مثلا - ، فاللحظه التى يصمت فيها الثرثار ، هى لحظة نادرة خالدة لا فى تاريخه هو فحسب ، بل فى تاريخ البشر أجمعين .

وكيف يسعه أن يصمت ؟ انه بذلك يتجاوز طاقته ، ويخرج عن أخص طباعه ويسمو - ولو مؤقتا - فوق حضيضه الأوهد .

وكيف تصمت المرأة ؟ هذا قياس لا يستقيم ، وحلم جميل لا يمكن أن يطيف بذهن إنسان ، وخطرة رائعة ، وكمال روعتها منحصر فى عدم تحقيقها .

إن معنى صمت المرأة - لو أنه حدث - هى أن تكف الشمس عن الدوران ، وينقطع القلب عن الخفقان ، فهل هذا ممكن ؟

والأبكم تتحول مادة النطق فيه من الفاظ وحروف الى صراخ مستمر ، سدا لعلة النقص ، فيه ، فهو ما يفتأ يشير بيديه ويغمز بعينيه ، ويصيح بملء شدقيه ، وذلك مقياس ثرثرته ، وسبيلها الى الظهور والاستعلان .

والصمت مشكلة أيضا ، بل أعظم وأفدح من مشكلة ، إذا أريد من الانسان الحر أن يلوذ ببرج صمته المطلق ، وهو يرى المنا كر والمهازل والأباطيل أمام عينية ، ثم يحتم عليه إزاء ذلك أن يظل صامتا ضامزا مثل الشاة - على حد تعبير ابن الرومى .

ولعل ذلك ما توخاه صديقى الاستاذ صاحب المنهل حينما طلب منى أن أكتب فى [ مشكلة الصمت ] بعدده الممتاز .

وفيما عدا ذلك لا يسعنا إلا أن نعتبر الصمت فضيلة نادرة ، فالصمت حكمة وقليل فاعلة ، والصمت من ذهب - أنظر كيف رنت كلمة الذهب ؟ إذا كان الكلام من فضة ، الى آخر ما تدور به الألسن ، وتتناقله الرواة والاقلام من مأثور الاقوال ، وجوامع الكلام .

وهناك صمت أقوى من التعبير ، فان صمت البليغ والحزين والمفجوع والمضطهد ؛ والصمت الذى يستمد مادة تعبيره من روائع الصور الفنية على مختلف نماذجها العالية ، وصمت بعض الحيوانات الذكية .. كصمت القط فى ملقه ، والكلب فى وفائه واخلاصه ، والقرد فى محاكاته ، وغيرها . مثل هذا الصمت المعبر ابلغ التعبير ، حقيق أن يلهم كثيرا من الكتاب والشعراء ارفع آيات فنونهم . ولا تنس ايضا صمت القبور ، فهذا التراب وهذه الجلامد ، تعبر لك عن مجموعات هائلة من الحيوات الحافلة من متنافضة ومن متماثلة اندرست اعنف اندارس ، وراء هذه الارماس .

وهناك شبه عجيب رائع بين صمت الميت فى قبره ، وصمت احرار الاحياء إذا وضعت الاقفال على افواههم واحكم اغلاقها ، فان التعبيرين هنا يفيضان من منبع واحد .. كلام ولا كلام ، سكوت ولا سكوت ، ووراء ذلك كله آلاف من المعانى والاحلام والاطياف ، ما تستهل الا لتقلع ؛ وما تبين الا لتغمص ، وما تكاد تقول ، إلا طاف بها طائف مزعج من العي والذهول .

وللنفس الانسانية أطوار متفاوتة تتمنى فيها الصمت ، وأطوار اخرى تتشهى فيها الكلام ؛ وخيرها - فيما أعتقد . ما يستراح به من العناء اذا كانت كل صيحة تطلقها لا يصيخ اليها ولا يستجيب لها أي صدى من الاصداء .

اشترك في نشرتنا البريدية