البحث عن قتلى الشهداء فى جنح الظلام
وتومئ المراجع التى بين ايدينا ايماءا عابرا الى ان البحث عن القتلى بدأ ساعتئذ ، اي حينما أخلى المشركون جبهتهم ، وانسحبوا من الميدان الى مكة ، وذلك فى المساء . واذن ففى جنح الظلام كان الصحابة الاحياء يتسللون تحت خيوط اشعة البدر الفضية فى هذا الوادى يبحثون عن اخوانهم الذين استشهدوا : وكان ذلك فى الليلة السادسة عشرة من شوال سنة ٣ ه ، فترى الصحابة رضوان الله عليهم يقلبون القتلى ، ويتعرفونهم بملامحهم وكان هذا الضياء الذى يسطع من القمر ليلتئذ خير مصباح ينير أمامهم الطريق ويبرز لهم ملامح الشهداء . وكان سعدين الربيع احد عظماء الصحابة من الأنصار ، كان من النقباء يوم العقبة ، وشهد بدرا ، فلما افتقده الرسول عليه السلام بياض النهار انتدب من يبحث عنه بين القتلى ، فوجد جريحا طريحا يكاد يلفظ النفس الأخير . فهمس فى اذنه الصحابى المنتدب لاكتشافه . ان الرسول امره بان ينظر : أسعد فى الاحياء ام فى الإموات ؟ ! فاجابه سعد بنفس جياشه بالحب والاخلاص قائلا . ( انا فى الاموات ، بابلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له : ان سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبياعن أمته ، بابلغ قومك عنى السلام وقل لهم ان سعد ابن الربيع يقول انه لا عذر لكم عند الله أن خاص الى نبيكم ومنكم عين تطرف) ( قال الانصارى المخبر : ثم لم ابرح حتى مات ، فجئت رسول الله فاخبرته خبره .
وقل للمسلمين اليوم ، وقد انتشرت كثرتهم فى آفاق الأرض ان لكم خير اسوة فى سعد ابن الربيع فها هو يجود بنفسه ، وفى الساعة الأخيرة ، ومع ذلك ما خنس ولا جبن ولا تأسف ولا حزن ، بل ظل مفعما بالرضا بمصيره فى سبيل نشر دينه والذب عن النبى الكريم ، هو راض باستشهاده الفردى فى سبيل الحياقة العامة ، ولا شك ان له احدى الحسنيين . رضى الله عن سعد بن الربيع وارضاه .
أما ما نستنتجه من تفريع سعد بن الربيع لمعشره ازاء انكشافهم عن الرسول فهو انه كان من الاطواد الثابتين ساعة الهول ، المنافحين عن رسول الله . حتى أثبتته الجراحة ، وحالت بينه وبين النضال فخر صريع الجسم حى الروح والفكر .
وخرج الرسول عليه السلام بنفسه الشريفة برغم جراحه ، باحثا بين القتلى عن أسد الاسلام الذى افتقد زئيره فى اثناء الصدام ، الاوهو عمه حمزة بن عبد المطلب ولقد احاط الرسول علما بمكان مصرعه ، إذ حدثه الصحابى بانه كان عند الصخرات لما صرع ، وقد القاه الرسول مجندلا مبقور البطن مجدوع الانف ممثلا به ببطن الوادى تحت جبل الرماة ، فغمره الحزن على هذا الأسد الضارى الصريع ، وزاد من حزنه عليه هذا التمثيل الشنيع ، ثم امر به فسجى فى برده ، وجمع الى جانبه الشهداء الميامين . وتحت ضوء البدر المتلالئ ، فى ذلك السكون الرهيب صلى الرسول على عمه سيد الشهداء ، وعلى سائر الشهداء معه رضى الله عنهم اجمعين .
المبيت بأحد ليلة الاحد
وبعد انقضاء هذه الصلاة المواسية لكلوم الافئدة المجروحة ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمواراة الشهداء . وبعد الانتهاء من هذه العملية المؤثرة ، بات الرسول صلى الله عليه وسلم بمن بقى من جنده البواسل وكانت عدتهم (٣٦٠) مقاتلا ، كانت اكثريتهم مثخنة بالجراح ، باتوا ليلتهم تحت السلاح ، وفى حومة القتال ، بجبل أحد ، فأى الآلام والآمال كانت تغمرافئدة اولئك القوم الأباة المضطجعين ؟ ! . وأى الافكار كانت تحلق بهم فى أوج الشهامة والصلابة فى تلك الليلة المقمرة الليلاء؟! فما
اروع ذلك المبيت بين احضان هذا الجبل المحبوب ، حيث لا تزال كلوم الجرحى من الصحابة سائلة ، وحيث لا تزال ارواح الشهداء منهم سابحة فى هذا الجو العابق بالتوحيد ، مصعدة الى ربها ، مقبلة على نعيم مقيم . مرتفعة بقدسيتها وطهرها عن هذا العرض الزائل ، هذا العرض الدنيوى الأدنى القائل . الى حيث الخلود فى جنة الخلد ، حيث رضا الرب ، والسعادة الحقة الباقية . وناهيك بما كانت تخفق به قلوب سكان هذه المدينة الذين لم يشهدوا القتال من نساء واطفال ورجال ، انها لاحلام مرعبة ، وخيالات مزعجة ، وخلجات مؤلمة قاسية .
ما أروع تلك الليلة فى الليالى ! ما أروع ثبات النبى واستبساله ! ما أروع يقينه بربه واقباله ! ما اورع صبره على المكاره ! وما أروع احتماله للآلام العنيفه فى سبيل نشر هداية ربه ! ثم ما اروع جلد الصحابة ! وما أروع حبهم للرسول المفدى ! وما أروع مقاومتهم للعدو المتحدى !
ان تلك الليلة لهى احدى الليالى الكبر ، الطافحة بالعظات والعبر ، المفعمة بالبطولة والمجد . فلقد ابتلى الله المسلمين قبيلها بيوم السبت بانواع شديدة من البلاء . منها التقتيل والتجريح والهزيمة ، والاشاعات المزعزعة الباطلة ، لقد ارتجت قلوبهم بكل ذلك ، وطاف عليهم العدو المستقتل بالوان النكاية والتمثيل . فما وهنوا ولا استكانوا ولا انقلبوا على اعقابهم مرتدين . وان الخيال المجنح ليرفرف بجناحيه على آفاق التاريخ ، يحاول ان يسترق بعض ما كان يجول فى صدور تلك الفرقة الموحدة الوحيدة فى تلك الليلة الليلاء الشديدة . فلا يرى الا صدورا عمرها الايمان بنوره ، فلم يدع فيها مسر بالظلام الشك والجحود .
ولا ريب ان التأثيرات الحربية التى من شأنها ان تقض المضاجع ، حالت بين أبصار المسلمين ليلة الأحد . وبين الاستمتاع بهذا الجمال الطبيعى الباسم ، الذي كان يغمر اكناف أحد بما يسلط عليها القمر الزاهى من أعمدته الرقيقة النقية . البياض .
عودة قريش الى مكه . وحاق النبى بهم
وانشق عمود الفجر عن الصبح المنير . وتبدن ذكاء من وراء حرار العريض القاتمة فى ثوبها الارجوانى البديع ، فجففت بقية دماء الشهداء : السائلة على الغبراء . وأذن مؤذن الرسول بطلب العدو ، على ان لا يخرج مع الرسول الا من حضر المعركة أمس . وهكذا تجهز جند الله من جديد ، للحملة العتيدة البعيدة . ومضى فى طريقه كالسيل الزاخر ، متعقبا فى نشوة وبطولة آثار قريش ، ولكن قريشا أحسست بالشر فواصلت السير الحثيث حتى إذا كانت عند بئر الروحاء ( * ) وتجمعت فلولها ، وانضمت فرقها بعضها إلى بعض : فكان جيش لجب عظيم ، عند ذلك هالها الأمر ، وايقنت انها لم تنجح النجاح المنشود فى حملتها على الاسلام .
فقد تراجعت وهى الأكثر عددا وعدد : وثبت المسلمون وهم الأقل عددا وعددا ، وكادت تجمع أمرها على العودة إلى الدين لمناجزة الرسول من جديد ، وهو ما خشيه الرسول عليه السلام من قبل فتجهز وراءها مطالبا لها بالنزال ، وبينما كانت قريش فى أخذ ورد فى الموضوع ، اذا بمعبد الخزاعى يطل عليهم قادما من ناحية المدينة فسأله ابو سفيان عن الخبر ، فأفاده بأن الرسول اقتفى أثرهم فى جمع عظيم من أصحابه وهم يتحرقون عليهم تحرقا ، فدهش ابو سفيان من هذا النبأ المفاجئ المشئوم . وقرر المبادرة إلى الرحيل : موليا الادبار : متجنبا بذلك نشوب المعركة الجديدة التى قد تجر على قريش الخزى والنكال . وهكذا أيدالله دينه ونصر رسوله بالرعب ، وبعد أن وصل الرسول حمراء الاسد قفل بالصحابة إلى المدينة .
البكاء فى دور المدينة وسمو عواطف نسائها
. . وعلى أثر عودة الرسول عم البكاء دور لمدينة . فلا تجد دلوا إلا وتسمع فى
. داخلها نحيبا وتلمس فى جوانبها أسى بليغا . ولقد أصيب الانصار فى كثير من رجالاتهم ، فبكت نساء الأنصار . وأصيب المهاجرون فبكت نساء المهاجرين . ولا بوكى لحمزة عم الرسول ، فتأثر الرسول من ذلك ، ولما شعرت نساء الأنصار بهذا التأثر المنسكى اجتمعن فبكين حمزة أسد الله وأسد رسوله ، بكينه يواسين رسول الله ، وبكينه ليدللن على مكانته منهن ، وليثبتن شريف احساسهن ، فشكر لهن لرسول حسن مواساتهن ، وولائهن الحميد .
هذا وان حديث تلك المرأة الدينارية الأنصارية ليبرهن على سمو عواطف نساء الأنصار وامتلاء قوبهن بالايمان ، وتفانيهن فى حب الرسول وتفديته بالنفس والنفيس ، فقد حدث أهل السير والحديث أنها تعى اليها زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، فما ارتاع قلبها ، ولا تناثرت دموعها ، ولا جاشت همومها . ولكنها بادرت الناعين وسألتهم : ما فعل رسول الله ؟ فقالوا لها أنه بخير يا أم فلان . هو بحمد الله كما تحبين ! قالت : أرونيه حتى أنظر اليه ! فأشير لها اليه ، حتى إذا رأته وملأت عينيها من نور جينه الوضاء ، قالت : كل مصيبة بعدك جلى ، أى حقيرة هينة ، فما أعظمها من سيدة مسلمة نبيلة غمرتها أنوار الايمان فضربت المثل العالى فى التضحية والنبل ،
يتبع

