الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 9الرجوع إلى "المنهل"

معركة احد

Share

البحث عن قتلى الشهداء فى جنح الظلام

وتومئ المراجع التى بين ايدينا ايماءا عابرا الى ان البحث عن القتلى بدأ ساعتئذ ، اي حينما أخلى المشركون جبهتهم ، وانسحبوا من الميدان الى مكة ، وذلك فى المساء . واذن ففى جنح الظلام كان الصحابة الاحياء يتسللون تحت خيوط اشعة البدر الفضية فى هذا الوادى يبحثون عن اخوانهم الذين استشهدوا : وكان ذلك فى الليلة السادسة عشرة من شوال سنة ٣ ه ، فترى الصحابة رضوان الله عليهم يقلبون القتلى ، ويتعرفونهم بملامحهم وكان هذا الضياء الذى يسطع من القمر ليلتئذ خير مصباح ينير أمامهم الطريق ويبرز لهم ملامح الشهداء . وكان سعدين الربيع احد عظماء الصحابة من الأنصار ، كان من النقباء يوم العقبة ، وشهد بدرا ، فلما افتقده الرسول عليه السلام بياض النهار انتدب من يبحث عنه بين القتلى ، فوجد جريحا طريحا يكاد يلفظ النفس الأخير . فهمس فى اذنه الصحابى المنتدب لاكتشافه . ان الرسول امره بان ينظر : أسعد فى الاحياء ام فى الإموات ؟ ! فاجابه سعد بنفس جياشه بالحب والاخلاص قائلا . ( انا فى الاموات ، بابلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له : ان سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبياعن أمته ، بابلغ قومك عنى السلام وقل لهم ان سعد ابن الربيع يقول انه لا عذر لكم عند الله أن خاص الى نبيكم ومنكم عين تطرف) ( قال الانصارى المخبر : ثم لم ابرح حتى مات ، فجئت رسول الله فاخبرته خبره .

وقل للمسلمين اليوم ، وقد انتشرت كثرتهم فى آفاق الأرض ان لكم خير اسوة فى سعد ابن الربيع فها هو يجود بنفسه ، وفى الساعة الأخيرة ، ومع ذلك ما خنس ولا جبن ولا تأسف ولا حزن ، بل ظل مفعما بالرضا بمصيره فى سبيل نشر دينه والذب عن النبى الكريم ، هو راض باستشهاده الفردى فى سبيل الحياقة العامة ، ولا شك ان له احدى الحسنيين . رضى الله عن سعد بن الربيع وارضاه .

أما ما نستنتجه من تفريع سعد بن الربيع لمعشره ازاء انكشافهم عن الرسول فهو انه كان من الاطواد الثابتين ساعة الهول ، المنافحين عن رسول الله . حتى أثبتته الجراحة ، وحالت بينه وبين النضال فخر صريع الجسم حى الروح والفكر .

وخرج الرسول عليه السلام بنفسه الشريفة برغم جراحه ، باحثا بين القتلى عن أسد الاسلام الذى افتقد زئيره فى اثناء الصدام ، الاوهو عمه حمزة بن عبد المطلب ولقد احاط الرسول علما بمكان مصرعه ، إذ حدثه الصحابى بانه كان عند الصخرات لما صرع ، وقد القاه الرسول مجندلا مبقور البطن مجدوع الانف ممثلا به ببطن الوادى تحت جبل الرماة ، فغمره الحزن على هذا الأسد الضارى الصريع ، وزاد من حزنه عليه هذا التمثيل الشنيع ، ثم امر به فسجى فى برده ، وجمع الى جانبه الشهداء الميامين . وتحت ضوء البدر المتلالئ ، فى ذلك السكون الرهيب صلى الرسول على عمه سيد الشهداء ، وعلى سائر الشهداء معه رضى الله عنهم اجمعين .

المبيت بأحد ليلة الاحد

وبعد انقضاء هذه الصلاة المواسية لكلوم الافئدة المجروحة ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمواراة الشهداء . وبعد الانتهاء من هذه العملية المؤثرة ، بات الرسول صلى الله عليه وسلم بمن بقى من جنده البواسل وكانت عدتهم (٣٦٠) مقاتلا ، كانت اكثريتهم مثخنة بالجراح ، باتوا ليلتهم تحت السلاح ، وفى حومة القتال ، بجبل أحد ، فأى الآلام والآمال كانت تغمرافئدة اولئك القوم الأباة المضطجعين ؟ ! . وأى الافكار كانت تحلق بهم فى أوج الشهامة والصلابة فى تلك الليلة المقمرة الليلاء؟! فما

اروع ذلك المبيت بين احضان هذا الجبل المحبوب ، حيث لا تزال كلوم الجرحى من الصحابة سائلة ، وحيث لا تزال ارواح الشهداء منهم سابحة فى هذا الجو العابق بالتوحيد ، مصعدة الى ربها ، مقبلة على نعيم مقيم . مرتفعة بقدسيتها وطهرها عن هذا العرض الزائل ، هذا العرض الدنيوى الأدنى القائل . الى حيث الخلود فى جنة الخلد ، حيث رضا الرب ، والسعادة الحقة الباقية . وناهيك بما كانت تخفق به قلوب سكان هذه المدينة الذين لم يشهدوا القتال من نساء واطفال ورجال ، انها لاحلام مرعبة ، وخيالات مزعجة ، وخلجات مؤلمة قاسية .

ما أروع تلك الليلة فى الليالى ! ما أروع ثبات النبى واستبساله ! ما أروع يقينه بربه واقباله ! ما اورع صبره على المكاره ! وما أروع احتماله للآلام العنيفه فى سبيل نشر هداية ربه ! ثم ما اروع جلد الصحابة ! وما أروع حبهم للرسول المفدى ! وما أروع مقاومتهم للعدو المتحدى !

ان تلك الليلة لهى احدى الليالى الكبر ، الطافحة بالعظات والعبر ، المفعمة بالبطولة والمجد . فلقد ابتلى الله المسلمين قبيلها بيوم السبت بانواع شديدة من البلاء . منها التقتيل والتجريح والهزيمة ، والاشاعات المزعزعة الباطلة ، لقد ارتجت قلوبهم بكل ذلك ، وطاف عليهم العدو المستقتل بالوان النكاية والتمثيل . فما وهنوا ولا استكانوا ولا انقلبوا على اعقابهم مرتدين . وان الخيال المجنح ليرفرف بجناحيه على آفاق التاريخ ، يحاول ان يسترق بعض ما كان يجول فى صدور تلك الفرقة الموحدة الوحيدة فى تلك الليلة الليلاء الشديدة . فلا يرى الا صدورا عمرها الايمان بنوره ، فلم يدع فيها مسر بالظلام الشك والجحود .

ولا ريب ان التأثيرات الحربية التى من شأنها ان تقض المضاجع ، حالت بين أبصار المسلمين ليلة الأحد . وبين الاستمتاع بهذا الجمال الطبيعى الباسم ، الذي كان يغمر اكناف أحد بما يسلط عليها القمر الزاهى من أعمدته الرقيقة النقية . البياض .

عودة قريش الى مكه . وحاق النبى بهم

وانشق عمود الفجر عن الصبح المنير . وتبدن ذكاء من وراء حرار العريض القاتمة فى ثوبها الارجوانى البديع ، فجففت بقية دماء الشهداء : السائلة على الغبراء . وأذن مؤذن الرسول بطلب العدو ، على ان لا يخرج مع الرسول الا من حضر المعركة أمس . وهكذا تجهز جند الله من جديد ، للحملة العتيدة البعيدة . ومضى فى طريقه كالسيل الزاخر ، متعقبا فى نشوة وبطولة آثار قريش ، ولكن قريشا أحسست بالشر فواصلت السير الحثيث حتى إذا كانت عند بئر الروحاء ( * ) وتجمعت فلولها ، وانضمت فرقها بعضها إلى بعض : فكان جيش لجب عظيم ، عند ذلك هالها الأمر ، وايقنت انها لم تنجح النجاح المنشود فى حملتها على الاسلام .

فقد تراجعت وهى الأكثر عددا وعدد : وثبت المسلمون وهم الأقل عددا وعددا ، وكادت تجمع أمرها على العودة إلى الدين لمناجزة الرسول من جديد ، وهو ما خشيه الرسول عليه السلام من قبل فتجهز وراءها مطالبا لها بالنزال ، وبينما كانت قريش فى أخذ ورد فى الموضوع ، اذا بمعبد الخزاعى يطل عليهم قادما من ناحية المدينة فسأله ابو سفيان عن الخبر ، فأفاده بأن الرسول اقتفى أثرهم فى جمع عظيم من أصحابه وهم يتحرقون عليهم تحرقا ، فدهش ابو سفيان من هذا النبأ المفاجئ المشئوم . وقرر المبادرة إلى الرحيل : موليا الادبار : متجنبا بذلك نشوب المعركة الجديدة التى قد تجر على قريش الخزى والنكال . وهكذا أيدالله دينه ونصر رسوله بالرعب ، وبعد أن وصل الرسول حمراء الاسد قفل بالصحابة إلى المدينة .

البكاء فى دور المدينة وسمو عواطف نسائها

. . وعلى أثر عودة الرسول عم البكاء دور لمدينة . فلا تجد دلوا إلا وتسمع فى

. داخلها نحيبا وتلمس فى جوانبها أسى بليغا . ولقد أصيب الانصار فى كثير من رجالاتهم ، فبكت نساء الأنصار . وأصيب المهاجرون فبكت نساء المهاجرين . ولا بوكى لحمزة عم الرسول ، فتأثر الرسول من ذلك ، ولما شعرت نساء الأنصار بهذا التأثر المنسكى اجتمعن فبكين حمزة أسد الله وأسد رسوله ، بكينه يواسين رسول الله ، وبكينه ليدللن على مكانته منهن ، وليثبتن شريف احساسهن ، فشكر لهن لرسول حسن مواساتهن ، وولائهن الحميد .

هذا وان حديث تلك المرأة الدينارية الأنصارية ليبرهن على سمو عواطف نساء الأنصار وامتلاء قوبهن بالايمان ، وتفانيهن فى حب الرسول وتفديته بالنفس والنفيس ، فقد حدث أهل السير والحديث أنها تعى اليها زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، فما ارتاع قلبها ، ولا تناثرت دموعها ، ولا جاشت همومها . ولكنها بادرت الناعين وسألتهم : ما فعل رسول الله ؟ فقالوا لها أنه بخير يا أم فلان . هو بحمد الله كما تحبين ! قالت : أرونيه حتى أنظر اليه ! فأشير لها اليه ، حتى إذا رأته وملأت عينيها من نور جينه الوضاء ، قالت : كل مصيبة بعدك جلى ، أى حقيرة هينة ، فما أعظمها من سيدة مسلمة نبيلة غمرتها أنوار الايمان فضربت المثل العالى فى التضحية والنبل ،

يتبع

اشترك في نشرتنا البريدية