من أنشط رجالاتنا فى ميدان التأليف والكتابة ، صديقنا الأستاذ محمد طاهر الكردى الخطاط ، فله عدة مؤلفات فى علوم وفنون متنوعه ، تمت الى هذه البلاد والى نهضتنا الفكرية الحاضرة باوثق الأسباب . . وها هو يخرج لنا فى هذا العام سفرا علميا تاريخيا ) فى اسلوبه السهل الممتنع وحصافته واستيعابه المعروفين عن تاريخ مقام ابراهيم عليه السلام ، ضاما اليه تاريخ الكعبة وتاريخ البلد الحرام محققا مدققا ، عارضا آراءه القيمة فى غوامض المسائل الأثرية والتاريخية ، عرضا سداه ولخمته الدقة والحصافة ، والاستيعاب . وبذلك اضاف لبنة جديدة الى نهضتنا الفكرية فكان عمله مذكورا مشكورا .
بدأ الاستاذ كتابه بمقدمة اشار فيها الى بدايته فى تأليف الكتاب ونهايته منها ثم ثنى بفصل أورد فيه الآيات التى ذكرت فيها الكعبة ، فكان استهلالا بارعا حكيما ، ثم استطرد الى ذكر الآيات الوارد فيها اسم ابراهيم عليه السلام باني الكعبة ، فنبذة من ترجمته عليه السلام ، وقد نوه فى الصفحة ١٤ انه أول من عمر مكة وانه اول من اسكن ذريته بها ، ثم عقد فصلا خاصا ، بمناسبة الحديث عن ابراهيم ، حول صحف ابراهيم ، فكان هذا تكملة جميلة موفقة لترجمة ابى الانبياء ومن هنا تسرب به الحديث الى بلد الخليل : " الخليل " فتحدث عنه مليا حديثا شائقا ، ثم افضى به البحث الى الكلام عن خبر هجرة ابراهيم عليه السلام الى مكة بابنه اسماعيل وامه هاجر وهنا يقول : " وقدم مكة وليس بها احد ولا بناء ولا ماء ، وما كانت مكة يومئذ الا عضاء سلم وسمر ، فوضمهما عند البيت ومعهما
راب من تمر وسقاء فيه ماء ، ثم انصرف راجعا الى الشام فتبعته هاجر وقالت له : إلى اين تذهب ؟ والى من تتركنا بهذا الوادى الذى ليس به احد؟ قال : الى الله عز وجل ! قالت : ١ آلله امرك بهذا ؟ قال : نعم قالت : إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق ابراهيم تم رفع يديه بالدعاء وقال : " ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم" .
وقد اورد الأستاذ كيفية بناء ابراهيم للبيت واثبت انه بناه رضيما أى برص الحجارة بعضها فوق بعض وبغير طين ولا نورة ، وانه لم يجعل له سقفا - ص ٣٠ بناية بسيطة ليس فيها ضخامة المتطاولين ببناياتهم وانما هى بناية عبد مخلص استجابة لأمر ربه الذي لا يطلع الى الصور وانما الى القلوب وقد بهرنا من المؤلف هذه الالتفاتة الرائعة حيال تاريخ بناء الكعبة وشكو له فربط الآماد السحيقة بحاضر هذه البلاد ، بالنسبة لشكل عمارة الكعبة الأولى بالرضم ؛ حيث عقب ذلك بقوله : " ولا يزال الرضم معروفا فى الحجاز الى اليوم خصوصا في القرى والبادية ، . وعاد الى شكل عمارات الكعبة بعد بانيها الأول ليربط ما انفصم من حلقات التاريخ فقال : " ولازال البيت بعد ابراهيم عليه السلام يبني كذلك الى ان بنته قريش فسقفته ص ٣١ مما يشير الى ان بناء ابراهيم له قد يكون عقبته بنايات قبل بناية قريش ، غير البنايات المذكورة فى التاريخ ، خصوصا اذا قدرنا المدة التى بين بناء قريش وبناء ابراهيم ، بنحو اربعة آلاف عام ، ولاحظنا ان بناءه له بالرضم ، وان مكان البيت يقع فى مسيل وادى ابراهيم ، وها هو البيت قد بنى بناءا محكما جيدا فى زمن الحجاج ، وما مضى عليه اقل من الف عام حتى نصدع فعمره السلطان مراد عمارته الحالية . . فما بالك بالعمارات الأولى . . وعلى كل فعلم ذلك مطوى فى الغيب ، وقد يستكشفه الانسان يوماما باحدى وسائل العلم الحديثة او القديمة التى يتكشف عنها التنقيب والبحث المستمر الدقيق
ثم عرض المؤلف ص ٣١ الى وضعية مكان البيت قديما وحديثا واثر السيول الجارفة في علو الارض حواليه وانخفاض مستواه حديثا عن الشوارع المحيطة به فبحث هذا الموضوع بحثا دقيقا شاملا مفيدا
كما افاد بتواريخ عمارات المسجد الحرام والزيادات التى اجربت فيه ، وحدد المسجد الحرام فى عهد الرسول عليه السلام تحديدا فنيا دقيقا فاوضح انه هو هذا الصحن المحيط بالكعبة فقط والمفروش اليوم بالمرمر ، وان البيوت كانت محيطة وملتصقة به وان باب السلام الذي كان يدخل منه الرسول هو فجوة بين البيوت يقع في محلها هذا العقد الكبير القاسم امام المقام ، وحسن جدا من المؤلف ما افادنا به فى الصفحة ٩٠ من أن " المعتضد بالله العباسى زاد فى المسجد سنة ٨١ ه بادخال دار الندوة فيه . . فبنى هذا الباب اى ) باب الزيادة ( والباب القطبي والمنارة التى عنده وما يتبعه من الاروقة . . والباب القطبي هو الباب الوحيد الذى لم يجدد بناؤه فى العمارة التى وقعت سنة ٩٨٤ ه بل بقى على عمارته الاولى ، و هو إلى الآن فى غاية القوة والمتانة كأنه بني قريبا مع انه قد مر عليه نحو الف ومائة سنة " . أ ه
ولم يفت المؤلف ، وهو يؤرخ لمكة وللمسجد الحرام أن يعرض لبحث حمام الحرم . ثم يفضى بنا بعد ذلك الى الموضوع الاساسي للكتاب وهو تاريخ مقام ابراهيم ، فيجلو لنا اصله وفضائله الدينية ، وفي الصفحة ١٠٨ يدققق فى تحرى ، وصف هيئته وشكله وحجمه الحاضر ذلك كله وفق ما شاهده بنفسه ، عقب ان قدم لهذا مما تحدث به المؤرخون فى الأزمان المتتالية من صدر الأسلام حتى هذا القرن عن ذلك كله ، فاذا به يحقق لنا عن طريق الرؤية والمشاهدة - ان حجر المقام حجر رخو لونه بين الحمرة والصفرة ولكنه اقرب الى البياض وبهذا طابق قوله قول الشيخ حسين باسلامه رحمه الله فى وصف حجر المقام مطابقة تامة شاملة . وبذلك أفرغ وصف المقام فى قالبه الحقيقي المنطبق على حقيقته بلا زيادة ولا نقصان .
وطبيعي ان يتحدث المؤلف بعد ذلك - عن موضع المقام ، وان يتعرض لمحاولة تحقيق هذا الموضع ، وقد تضاربت اقوال القدماء من المؤرخين فى حقيقة الموضع الذي كان فيه فى عهد الرسول عليه السلام ، فمنهم من يقول : انه كان فى مكانه الحالى ؛ ومنهم من يقول انه كان فى موضع الحفرة التى تقع عند باب الكعبة ،
ولكل دلائله وحججه ومستنداته . . والمؤلف الفاضل يرجح ان المقام كان فى موضع الحفرة ، ودليله على ذلك حديث مروى عن ابن عباس جاء فيه : " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة واخذ من عثمان بن ابي طلحة مفتاح الكعبة اخرج مقام ابراهيم وكان في الكعبة فالزقه فى حائط الكعبة ، ص ١١٨ وما ذكره العمرى فى مسالك الابصار من ان موضع المقام كان موضع الخلوق اى الحفرة الملاصقة للكعبة ، وقال : وصلى عليه السلام عنده حين فرغ من طوافه ركعتين وانزل الله تعالى عليه : ( واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ) ثم نقله صلى الله عليه وسلم الى الموضع الذى هو فيه الآن وذلك على عشرين ذراعا من الكعبة ( ص ١١٨ . . " ثم ذهب به السيل فى ايام عمر بن الخطاب الى اسفل مكة فاتى به عمر وأمر برده الى الموضع الذي وضعه فيه الرسول "
وكذلك قال ابن كثير فى تفسيره ) ان المقام كان ملصقا بجوار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم الى جانب الباب مما يلى الحجر وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه الى جدار الكعبة . . وانه أخره عن جدار الكعبة امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه ص ١١٩ . . ( ولمن يرى أن موضعه الاصلى هو موضعه الحالى دلائل ساقها المؤلف أيضا .
ونحن نميل إلى الاخذ بالقول القائل إنه كان ملصقا بالكعبة ، لان المقام موقف ابراهيم عليه السلام وهو يبنى الكعبة فلابد أن يكون هذا الموقف قريبا وقريبا جدا من المبنى حتى يتمكن البانى من البناء وهو واقف عليه . وكذلك تركته الاجيال فى مكانه ذلك احتراما للوضع الذى ابقاه عليه ابراهيم حتى اتسع المسجد وكثر المسلمون فنقله عمر الى الموضع الذي به الان والذي كان الرسول عليه السلام نقله اليه بعد ان صلى عنده وهو ملاصق للكعبة . وليس بمعقول ان يكون موضعه الاصلى هو الحالى ، لانه بذلك لا يتمكن ابراهيم من البناء عليه ، ولانه من جهة اخرى لو كان موضعه الاصلى هنا لكان خارجا عن المسجد الحرام ، بعيدا عن الكعبة جدا بالنسبة لان المسجد الذي كان على عهد الرسول هو هذا الصحن فقط وهذا أيضا فيه ما فيه
وقد سنحت لى فكرة وانا اكتب هذا البحث ، وهي انه وقد علم حجم حجر المقام كما حققه المؤلف الفاضل ، فينبغي أن يقاس أيضا قطر الحفرة. الملاصقة للكعبة فان ظهر ان هذا القطر ملائم لحجم حجر المقام فقد ثبت واقعيا أنه كان فى محلها ، وما احتفرت الا اشارة لانتزاع الحجر من مكانه بها .
وفى الكتاب رسوم جميلة لمكة واشكال عمارات الكعبة من ابتكار المؤلف ورسم المسجد الحرام والحمام به ومقصورة المقام ورسم تقريبي لحجر المقام من وضع المؤلف ورسم للحجر الاسود والمنبر .
ويمضي المؤلف فيتحدث عن الحجر الاسود والحوادث التى حصلت له حتى اليوم ، ثم يتعرض للرخامتين الخضراوين المائلتين بحجر اسماعيل فيجلوهما بحثا وتحقيقا ، ويعرض لهدايا الكعبة وتاريخها ففرش حجر اسماعيل بالبلاط ، ثم وضع كسوة على جدار الحجر ، وهو أمر غريب ثم يعقد فصلا خاصا للرد على من يزعم بان القرامطة بدلوا الحجر الاسود ، فآخر فى فضل الرسولين ابراهيم وموسى عليهما السلام على هذه الامة المحمدية الاول لعمارته البيت واسكان ذريته بمكة وبدعوته الى الحج والثاني لطلبه تخفيف الصلاة على المسلمين ليلة الاسراء .
