أن التقدم العمراني الحديث قد اصبح وله من المعالم والشواهد ما لا يحتاج إلى تدليل - وفي غضون ربع قرن مضي حتى الآن نجد رقعة العمران قد أنفسحت انفساحاً عظيماً جداً ولولا ماجنته يد الحرب الظاحنة الاخيرة لبلغت مدى يقصر الطرف عنه . واذا كان لنا من ملاحظة عليه فى شي ما فهي انه كان فى كثير من الظروف والاحيان غير قائم على اساس هندسي عام يخضع لقواعد فنية وخرائط منسقة ، الامر الذي جعله متناثراً ومجتمعاً ومنزوياً تارة ومنفصلاً تارة أخرى ، وساعد على ذلك طبيعة الارض وامتداد السفوح والتواء الاودية فى داخل المدينة وارتفاع القمم وضيق المساحة .
لقد تبدلت الدواعي والاسباب التى كانت تحمل الناس على ان تكون بيوتهم ومنازلهم ) رباعا ( متداخلة متلاصقة ، والتى كانوا يتعمدون أن يجعلوها في منعطفات الأزقة ووراء الاكمات ! ! أما تلك الدواعي والاسباب فانها مهما كاتب متفرقة فانها يجتمع فى العلتين هاتين:
الأولى - الخوف من الاغارات التى كانت تتكرر صباح مساء نتيجة الحكم المضطرب المذبذب . والرغبة فى الاجتماع والتكتل وهما العلة التى تشثرك فيها معظم البلدان الشرقية الى عهد قريب .
الثانية - التنافس فى القرب من ) الكعبة ( والحرص على أكبر أجر يمكن الحصول عليه مضاعفا كلما كان السكنى ادنى الى المسجد .
أما الآن - فقد زالت العلة الأولى - وخف تأثير العلة الثانية باختلاف الزجة الحجاج ودرجة تعليمهم وثقافتهم وثرائهم وميلهم الى الرفاهية وتوفر
وسائل الموصلات وسرعتها وأمكان الوصول إلى المسجد في دقائق معدودت من أبعد الضواحي المحيطة بالبلد .
واذا كانت الدور قد بنيت في القرة الماضي وما قبله وماتلاه حتى الآن هون رقابة أو نظام وتحت ضغط الاعتبارات السابقة فقد تهيأت لنا ) امائة للعاصمة ( ووضعت قوانين كافية ومماثلة لأحدث انظمة الامم المجاورة في البناء والانشاء ورصدت الاعتمادات اللازمة للتنظيم والتنسيق والتشجير ، وستشهد البلاد نهضة عمرانية متواصلة لا تقتصر على ما عرفناه من اخطاطنا القديمة وانماطنا العتيقة بل ستغمر جميع الاحياء الجديدة والضواحي العتيدة وسينتشر العمران بامتداد رواق الأمن والعدل وسهولة الانقال بالعجلات الكهربائية وما اليها من وسائل المواصلات الحديثة . وليسمح لى (المنهل) أن اشد بالعمران الذي تبحر وانتشر في كل من جدة والطائف بما لا يكاد يتناسب مع الزمن الذي انثئ فيه !! كل ذلك تم ويتم بحول الله تعالى تم بما تبذله حكومة جلالة الملك المعظم أمد الله فى حياته - من جهد وسهر ومال فيما يؤمن راحة سكان البلاد ووفود الحجاج وكل آت قريب .
اما إذا نظرنا إلى ) العمران ( باعتبار انه مظهر كلى عام تتسق به حياة الامة الروحية وتنسجم فيه مرافقها المادية - فان من الحق علينا ان نشير في غبطة وابتهاج عظيمين الى ما يحتويه المكتبة العربية السعوديه اليوم من دواوين وتآليف وضعها وصنفها أدباء هذا الجيلي وما أصبحنا نراه بين ظهر انينا من كتاب وشعراء وخطباء وصحفيين وقصصيين ) يملؤن الدلو الي عقد الكرب ) والى ما تطورت اليه حالة (الصناعة)عندنا وان كان تقدمها لم ، يزل بدائياً وبطيئاً غير انه مطرد التحسن وقد اشتغل بها عدد كبير جداً من ابناء المدني حتى لا يكاد يوجد منهم العاطل والفارغ من العمل . وقد ادخلت. في البلاد صناعات الغزل والنسج والنجارة الحديثة والمعمار الفني والصياغة والصباغة وعمل الصابون واصلاح السيارات وشيء غير قليل من فن
( الميكانيك) وهذا وحده كاف لبعث شعور التفاؤل بالمستقبل وزوال آثار الأمية والبطالة وما اليهما . بحكم الامتزاج والاختلاط وتبادل السلع والمنتوجات وتيسر الحصول على الآلات الحديثة وتنافس الشباب في مختلف أبواب الحركة والنشاط سوف تقر عيون الوطن بأبنائه إن شاء الله تعالى في مجاراة لداتهم واخوانهم في جميع بلدان الشرق العربي . ولنا من تشجيع الحكومة وشغفها بالنهوض والتقدم اكبر حافز واضمن رجاء فى هذا المضمار إن شاء الله .
وغير ذلك نجد طرق المواصلات ووسائل النقل قد تبدلت وتحسنت واصبحت المسافات الشاسعة تقطع فى ساعات معدودات بعد ان كانت اياماً وشهوراً . وكذلك الشأن فى ) الزراعة ( - وهذا التموزج الناطق الحى فى ( الخرج) ) والشرائع ( و ) حداء ( - وبساتين الامراء وحدائق الوزراء والرؤساء ، أقرب حجة لنا على ادعائنا ان في البلد نهضة زراعية دانية القطوف ولا نعني بهذا أن ما نطمح له قد بلغناه ولكننا والطريق امامنا مفتوح - فأى عائق نخاف - والحرث والنسل - انما يقومان على قواعد الأمن والعدل وهما ولله الحمد والمنة مبسوطا الرواق ممتد الآفاق ولم يبق لنا إلا التأسي والاقتداء والبذل والسخاء فى مساعدة الفلاح وتشجيع الزراع - وكل آت قريب -
ولنأخذ مثلاً مشهوداً على الحركة العمرانية بصفة عامة فى الفريق الذي يزاول المهن اليومية - لنعلم ثم هو العدد العظيم الذي يبدأ عمله منذ أن يذر قرن الشمس الى أن تتوارى بالحجاب ؟ ! حتى ليعجز رب الاسرة ان يلقي امامه من يستخدمه من غلمان البادية أو الحاضرة - اللهم الا بعض من يروق لهم أن يتسولوا كسلاً وعجزاً ومهانة ودناءة وهم اقدر ما يكونون على العمل والارتزاق إن هؤلاء لاجدر بان يلاحقهم الشرطة فى كل مكان ليمنعوهم من التجول فى الاسواق وبين صفوف المصلين فى المساجد ويزجون بهم فى الميادين التى يصلحون للعمل فيها إكراماً لنفوسهم - وعلى الرغم منهم ووقاية للبلد من سمعة سيئة
ومظهر شائن قذر . اما العجزة والمرضى - فإلى المستشفى او المأوى - ولهم بعد ذلك أن ينالوا قسطهم في العلاج والراحة والكسوة والنفقة دون تسكع أو تسول أو إحراج ، ومن جيوب المحسنين من أثرياء الامة وطلاب البر والخير وكثير ما هم !!
أما الثروة العامة والاقتصاد القومى - فانهما الاساس الذي يبنى عليه كيان الامم والشعوب فى جميع اقطار المعمور - ولابد لجميع افراد الامة أن يتعاونوا على نمائهما واستثمارهما وجعلهما فى مستوى الكفاية اذا لم يبلغا درجة الزيادة - والعبرة بما يبذل من جهد ويركز من نشاط ويتسع من مجال الانتاج الزراعي والصناعي والاصدار الى الخارج - ونحن لما نزل في مبدأ الطريق وكل من سار على الدرب وصل .
وللاخلاق فى جميع هذه الاعمال دخل عظيم فى نجاحها واخفاقها فما لم تكن ادنى الى الكمال ومتفقة مع قواعد الصدق والوفاء وجارية على السنن الشرعى القويم فانها فاشلة لا محالة . ويلوح لنا ان الطلاقة والبشاشة والمجاملة والمدارس وحسن الملاقاة واصطناع البرو واللين وما الى ذلك من مكارم الاخلاق ومحاسنها لم تعد كما كنا نعهدها من قبل ، بل غلبت سماء الجد والعبوس والتجهم والازورار حتى فى المجالس والدوائر والاندية والمجتمعات الخاصة والعامة - وهذا شئ لا يكاد يحتمل فيجب أن نتفطن للاستعاضة عنه بما هو حق الاخ على أخيه ، وكل اناء ينضح بما فيه .
وفي هذا الصدد لا يسعنا أن تختم بحثنا دون اشارة الى المساجد . فمن أجمل مظاهر العمران الحديث تلك المساجد المبثوثة فى كل محلة والمنشاة فى أحياء البلد ، موفورة البهجة والرواء يتردد من مآذنها صدى الأذان بكلمة التوحيد فى كل يوم وليلة خمس مرات وقد صرف على إنشائها وتوسعتها وتوفير أسباب العبادة فيها من خاص الجيب الملكى . ولم تأل مديرية الأوقاف العامة جهداً في اضافة غيرها اليها ، ونرى انه ، وان كانت الدوائر
المسؤولة خريصة على أن تؤدى ما ترى أداءه ضروريا من الخدمات والواجبات إلا أن على الجمهور واجباً فى هذا السبيل لا يقل أهمية عن واجبات الدوائر الرسمية المسئولة .
ذلك ان السواد الأعظم من مختلف الاجناس والوفود والسكان لابد أن يشعروا بأن كل عمران منظم لا يمكن أن يحافظ على رونقه وبهائه ونضارته وجماله ما لم يحطة كل فرد بسياج من ) النظافة ( ويتطوع تطوعا لصيانته من كل عبث وتقذير وتشويه ، وأن يساهم كل امرىء منا فى حماية الشوارع والطرق والأزقة والمنعطفات والمداخل والمخارج من كل ما يضير مظاهرها ويقذي ناظرها . والا عاد الأمل خيبة والرجاء ضعيفاً فى استكمالنا الظرف والاناقة والذوق السليم .
