من الكوة

Share

وقمت من مجلسي بالكوة واتجهت الى السياج الخيزرانى ظنا منى ان الفتاة وامها تتجاذبان اطراف الحديث بداخله كما كانا فى الليلة الماضية .

ولكن لم اجدهما وكأنهما اكتفتا بما سمعتاه من الشيخ وآثرتا النوم على الامعان فى السهر فانصرفت متمنيالهما نوما هادئا واحلاما لذيذة وعافية من الاسواء .

وفيما انا انحدر من الربوة بدا لي منظر الطبيعة فى ذلك الليل الهادئ جميلا رائعًا . فلقد كان القمر ينتقص من ظلمة الليل التى كان يحاول ان يلتهم بها الارض . بما يفيضه عليها من اشعته البيضاء الصافية . وكانت الظلمة تلوذ بسفوح الجبال ومنعطفات الفجاج حيث تحجب القمم الشامخة اشعة القمر من النفاذ اليها . وكان الافق يتدلى بكواكبه المتؤلقة على الارض فيحلى جبينها بحبات من الماس المتلألئ وكان المهمه الواسع وما انتثر فيه من صخور وتلال يتطلع الى السماء فى صمت يدعو الى الرهبة . وكان الهواء يترقرق نديًا فيلامس الجسم فى حنان كحنان الأم الرؤوم تغمر به طفلها . فاستهواني ما رأيت وجعلني اسير على غير هدى . وعند ما انتبهت لنفسي بدا لي ان اعطف على مكان كانت تتراءى لى اضواء مصابيحه المرتفعة عن بعد كما تتراءى اضواء الشواطئ للممتطي متون القوارب وهم في اللجة فقصدت اليه كما يقصد الملاح اقرب ساحل خشية ان يفاجئه الليل بما لم يكن في حسبانه وهو في عرض البحر . وما ان بلغته حتى حبب الى ذلك المكان المنعزل بمصابيحه المتوهجة كتابة ما سمعته من سمر الاسرة تحت اضوائها وما بارحته حتى كان ما كانت تهجس به النفس منقوشا - كما يراه القراء - على هذه الصفحات .

وما حان الحين المعتاد - في الليلة الثانية - وازفت الساعة التى ينعقد فيها اجتماع الاسرة ليزجى الشيخ نصائحه اليها حتى رأيتني اتسلق الربوة فى عنف وسرعة . وما اخذت مجلسي من الكوة حتى كان الشيخ قد بدأ حديثه فى تراخ وتؤدة قائلا .

اي بني : ان الناس لم يبلغوا ذروة الكمال المطلق وما من احد من البشر بلغ المرتبة الممتازة فى نقاء النفس . وصفاء السريرة الا الانبياء والمرسلون صلوات الله عليهم اجمعين . وستضطرك ضرورات الحياة ومستلزماتها الى الاختلاط بالناس فلا تتوقع ان تكون بمأمن من مكروههم مهما احسنت اليهم . ولا يؤدين بك الظن الى انه لا يصلك منهم الا ما تحمده لهم مهما طبت معهم . ولكن لا يمنعنك ذلك من مخالطتهم والاتصال بهم . على ان تجعل علاقة ما بينك وبينهم قائمة على مبدأ قويم وخلق مستقيم دون ان تفكر في ايصال الاذى اليهم . ولا يروعنك ماعساه ان سيصلك من اذاهم بل قابل ذلك منهم بالاحسان اليهم والصبر عليهم . وانتخب الاصحاب وتخير القرناء ثم لتكن صلتك بمن تخيرت من القرناء ومن انتخبت من الاصحاب مبنية على حب لا تشوبه ضغينة . وود لا يمازجه كراهة . ومصاحبة لا ينفذ اليها ملل ومزاورة لا تؤدي إلى سأم ومجاملة لا يعيبها ملق ومداراة لا يتخللها نفاق . ثم لا تكثر من لوم اصدقائك وخلانك ولا تجافهم واذا جفوك فاحفظ قديم ودادهم وارع سالف صحبتهم ولا تذكر مثالبهم . وان جادلت فجادل بالحسنى وتسامح لمن زل عليك واذا زللت على احد فاعتذر . فانك ان عملت بما اشير عليك ارجو ان تكون محبوبًا من اقرانك موثوقا فيك من بين خلانك . ولاشئ مثل الثقة اذا منحتها ولا اثمن من الحب إذا ظفرت به وليس اعيب للمرء من ان يكون مبغوضا فى بيئته . مرذولا بين عشيرته غير موثوق به من اخوانه . ولا شئ يؤدي بك الى هذا الذي اكرهه لك الا ان تكون مريبا فى قصدك متلونا فى سيرك لا يوثق بعهدك . ولا يعتمد على وعدك . واذا رأيت الناس يكرهون شخصا فلا تندفع فى كرهه كما يندفع الاغرار فى كره

من لا يعرفون . فانك ان تكره احدًا او تتحامل على احد لا لشيء الا لانك رأيت الناس يكرهونه ويتحاملون عليه كنت كذلك الاحمق الذى يقال عنه انه رأى الناس يضربون شخصا فاشترك معهم فى ضربه فقيل له ما دعاك لذلك قال رأيت الناس يضربونه فضربته حبا فى المثوبة وطلبا للأجر . وما عليك إذا اهمك امره الا ان تبحث عن السبب الذي من اجله كرهه الناس ليكون كرهك له على علم وبصر . فان الناس قد يكرهون الرجل ولا ذنب له عندهم سوى امتيازه عليهم فى كثير من الشؤون او لترفعه عن كثير من الدنيا التى هم فيها واقعون او نجاحه فى اعمال كانوا هم فيها من المخفقين . او لنعمة اصابها فهم له عليها من الحاسدين ولا تخض فيما يتحدث به المبغضون لذوي الجاه والمكانة . والحاسدون لذوي النعمة واليسار . والموتورون من ذوى النفوذ والسلطان . والمنتقصون من مكانة ذوى الورع والتقوى والواضعون من قيمة اهل العلم والفضل . والوالغون فى الأعراض والآكلون لحوم الابرياء .

واذا رأيت رجلا ظهرت ابهته وعلت مرتبته وبعد صيته فلا تكن بوقا تشيد بمفاخره وتطنب في مناقبه اغترارًا منك بظواهره ولكن تسقط اخباره عن بعد . وادرسه عن كثب حتى تعلم من حقيقته ما قد يخفى على غيرك وإن دفعك دافع للاتصال به فتعرف مداخله واحذق مخارجه فان استهوتك منه رجولة مكتملة وصفات فذه وراقك الاقتراب منه والارتباط به . فاقدم على ذلك إذا امنت الاحتفاظ بكينونتك بجانبه فانه وايم الله ليعز علي ان تندمج شخصيتك في شخصية غيرك ويصعب على نفسي ان يفنى وجودك في وجود سواك .

ولا ترهق نفسك بمصاحبة من يستطيل عليك بلسانه او يفخر عليك بماله او يزهو عليك بمكانته او يستخف بك لوجاهته . وصاحب من لا يترفع عليك ولا يستهين بصحبتك . واذا اختبرت رجلا عاديًا خلوا من الجاه بعيدًا عن الشهرة صفرا من الالقاب . ولكن له من نبله ما يبعده عن المساوىء ومن بعد همته ما يرفعه عن الدنايا . ومن مروءته ما يصده عن مقارفة الخطيئة ومن دخائله

ما يبعث على التقدير . ومن ( وحائده ) ما يدعو الى الاكبار فاحترمه وتودد اليه ولا يضيرك عدمه فان مثل هذا لا يزويه الفقر ولا يطغيه الغنى ولا تزيد في قدره الوظائف ولا تستخفه الالقاب . ولا تنقص من مكانته فقدانها . فاذا وفقت لمصاحبة مثل هذا فلقد ربحت . وربما يروعك من مثل هذا ان يكون كثير المعارضة لك - إذا استحكمت بينك وبينه الالفة - شديد النقد عليك عديم المجاملة فى كثير مما يبدو منك فلا يسوؤك ذلك منه فانما دفعه على اتيان ما يأتي اخلاصه لك والوصول بك الى غايتك على الوجه الاكمل فلا تضق ذرعًا بنقده وصراحته ولا تسأم من شدة معارضته فمثل هذا مع ما يبدو منه مما قد لا تحتمله لاول وهلة اذا رأى الصواب فى جانبك انحاز اليك وضم رأيه إلى رأيك في غير مكابرة ولا معايرة ثم هو لا يذيع عنك بين الناس الا ما يحببك اليهم ويقربك منهم وستحمد له صحبته فى العقبى . وما ارشد من يتخذ لنفسه صاحبًا يدله على مواطن ضعفه فيعمل على ازالتها . ومكامن قوته فيسعى في تنميتها . اما إذا مال الانسان مع اهواء نفسه فقد يحرم من مواهب عقله . فلا تكن من الذين يستجيبون لدواعي النفس ونزعات الهوى فقاوم في نفسك نزعتها . وريضها على ترك ما يخل بكرامتها . وابتعد عن المتملقين الذين يحسنون لك كل ما يصدر منك ويزينون لك فعل ما لا يليق بك اذا آنسوا منك ميلا لذلك فالمتملق كالشيطان . فكما ان الشيطان يسول للانسان عمل السيئات كذلك المتملق يحبذ لك كلما تأتيه من خطأ او صواب ثم هو لا ينفعك بشيء .

ولا تضع نفسك موضعًا يهبط بك الى مستوى الذين لا يؤبه بوجودهم . ولا يعتد برأيهم . ولا يسمع منهم قول ولا يعتمد عليهم في مهم . فلا تكن ضعيف النفس خائر الرأي ساقط الهمة ترضى من الحياة بالهون او  تقنع فيها بالدون فما كان لغيرك ان يكون اعظم منك في الحياة قدرًا ولا أجل منك فيها خطرا لولا استجابته لدواعي الرجولة . واستهدافه لاعمال البطولة . وقد خلق الله البشر من طينة واحدة فلا تكن اقل من غيرك في شئ يدعو الى الاحترام واذا كان من

السخف ان تطلب من الناس ان يحترموك لانك جدير باحترامهم فكيف بك إذا طلبت منهم ذلك وليس لديك ما يؤهلك له . واني اربأ بك ان تكون فظا لا يحتملك الناس . او غليظا يستعيذون بالله منك كما يستعيذون به من الشيطان . او شريرًا يربأون بانفسهم عنك كما يربأون بأنفسهم من الشرر يتطاير من كور الحداد . او دنيئا يبتعدون عنك كما يبتعدون عن الروائح المنتنة التى تصاعد من الاكنفة والمواخير او ثرثارًا يضيقون بك كما يضيقون بطنين الذباب وزنزنة البعوض او مهذارًا يصمون آذانهم عنك ترفعًا بانفسهم لئلا يعلق باذهانهم ما تمجه الآذان وتقزز منه النفوس .

وان بسط لك فى الرزق او صرت على شيء من العلم او منحت شيئا من قوتى اللسان والجسم فلا يغرينك ذلك على الاستطالة به على الناس . واذا نطقت فاعجبك بيانك فلا تتلفت يمينا وشمالا زهوا بما وفقت اليه من القول فان قبح العجب يذهب بحسن ما القيت من جيد الكلام .

وان منيت بالعدم فكن عزيز النفس و " لا تسع بقدميك الى من يراك دونه فتصغر فى عينه واجعل انقطاعك عنه فى مقابلة كبريائه عليك فان عزة النفس تضاهى جاه الملوك فان انت قبلت نصحي رشدت وان خالفتنى كنت كمن صير الماء العذب فى اصول الحنظل كلما ازدادت ريا ازدادت مرارة ( ١ ) " وليكن مخبرك احسن من مظهرك . ولا تتكلف الاتيان بما ليس في مكنتك . ولا ترهق نفسك بما ليس من سجيتك ولا تحاول ادعاء ما ليس فيك . ولا تتحمل فوق طاقتك . ولا تبدأ من عمل يعييك اتمامه . واعلم بان كل ما تنطوي عليه نفسك من نبل او نذالة من علم او جهالة . من فطنة او غباء . من سذاجة او دهاء . لابد وان تظهره الايام بالرغم منك

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وان خالها تخفى على الناس تعلم

واذا ترأست قومًا . فلا تستخفن بمرؤوسيك اذ ربما كان فيهم من هو اقوى منك رأيا . واكبر منك عقلا واكثر منك تجاربا . واكمل منك معرفة . ولكن القدر صنع صنيعه فرفعك وخفضهم . فاذا جهلت مكانهم لا يتضامنون معك وكانوا حربًا عليك حتى اذا وجدوا الفرصة عملوا على التخلص منك وازاحوك كما تزاح بيوت العنكبوت لأوهى الاسباب .

واذا كنت مرؤوسًا فلا تكن ذليلا فى نفسك . ولا مقصرًا فى عملك . واحترم رئيسك واحب قرينك ولا تحتقر من هو دونك . واجعل الصبر عدتك . والاحتمال مؤونتك واعتمد على الله فى جميع شؤونك ومضى اوقات فراغك فيما ينفعك في دنياك ودينك .

كن نظيفا فى مطعمك وملبسك ولا تفرط في الاناقة فيهما . فالافراط فى الاناقة من سيماء حديثي النعمة وربما ادى بك ذلك الى الفلس .

ثم توقف الشيخ عن حديثه واخذ يداعب لمته باصابعه المرتعشة كمن يفكر فى شيء فظننا ان سكوته لفكرة عارضة أو لخاطرة هجس بها ضميره فراح يفكر فى العبارة التى تجلوها لتكون قريبة الفهم من ابنه كما هى عادته ولكنه مالبث ان قال لقد ابديت لك - يا بني - من الافكار ما انا مقتنع بصحته وما آليتك جهدًا من نفسي في سبيل ارشادك وبذلت لك من النصح ما ظننت انك في حاجة اليه .

والآن ارى ألا أكثر عليك لئلا يتسرب اليك الملل من الاكثار . وما اسرع ان يتطرق الملل من النصح الى قلوب الشباب والفتيان من امثالك وربما استاء ابوك إذا رأى علائم ذلك بادية عليك . وما ينبغي ان احملك على ذلك او ادنيك منه . فلاقف بك عند هذا الحد . ثم إذا بدا لك ما تراه يحسن بك ان تعرضه علي عاطيتك الرأي وشاركتك الحديث . وما كنت لابخل عليك بما ارى فيه نفعًا لك ان شاء الله .

فقال الفتى . ما كنت لاسأم من حديثك . وما كان لابنك ان يمل من سمرك . و ان كان لى ان ابثك بما اشعر به نحوك وانت تحادثني فما هو الا اني كنت ومازلت اتمنى ان لو تغادرك الشيخوخة ويبتعد عنك الكبر فلا ارى فيك وهنه ولا اشاهد فيك ضعفه ويتحول اليك شيئا مما اجده فى نفسى من نشاط الفتوة وحرارة الشباب لاستكثر من نصحك . فما كان شيء يحز فى قلبي مثل رؤيتى لك وانت تجهد نفسك على مكالمتى وما كان يصرفني عنك الا حرصى على راحتك . ولولا ذلك لاطلت الاصغاء اليك والاستزادة من سمرك ولكن كنت اشفق عليك من الامعان فى السهر . فانصرف عنك وما بى رغبة فى الانصراف .

فابتسم الشيخ وربت على كتف ابنه وقال له اسأل الله لك الهداية والرعاية . كما أسأله ان يقيك من الفتن والمحن ويعيذك من شرور الناس وغدر الزمن . والآن لاقف بك عند هذا الحديث . ليتسنى لنا الخوض فى شتى الأحاديث .

تم البحث - مكة

اشترك في نشرتنا البريدية