هل يحفق الأديب فى الحياة؟، ولماذا؟!

Share

طلبنا إلى الاستاذ عبد الحميد عنبر أن يوافينا براية في هذا الموضوع الطريف فكتب مقاله الممتع المنشور فيما يلى . كما رغبنا إلى أحد أدبائنا أن يدلي برأيه فى هذا الموضوع أيضا فوافانا بمقاله القيم المنشور فيما بعد وسيرى القارئ في هذين المقالين رأيين مختلفين له أن يحبذ منها ما يشاء (المحرر).

رأي الاستاذ عبد الحميد عنبر

رغبت الى مجلة " المنهل " الغراء أن أكتب لها كلمة تحت هذا العنوان والعنوان - كما يرى القاريء الكريم - يحكم على الأديب المسكين بالإخفاق فى الحياة ، ونحن إذا أردنا ان نتفلسف مع "مجلة المنهل الغراء " لقلنا ان ادارة مجلة المنهل كانت تقصر نظرها فيما حولها ، حين قدر لها ان تختار هذا العنوان.  فجاء منتزعا من هذا الماحول ؛ ومطبقا تمام الانطباق على من نسميهم الأدباء في حجازنا المقدس .

وذلك فى نظرى ليس سببه الأدب ، كما يتوهم لأول مرة من معنى هذا العنوان بل السبب الحقيقي - كما أظن - هو هذا الغلط فى التسمية ، أو التساهل فيها ، فلو أردت أن تسأل هؤلاء الذين يمنحون لفظ الأديب عن علة هذا المنح وسببه لأجابوك أن هذا الأديب قد كتب فى الجرائد والمجلات واستطاع أن بجلب النظر إليه ، بل هو سوف يستطيع ان ينال مركزا ممتازا من الوظائف التى يحوم حولها الناس اذًا فالأدب فى الحجاز هو الكتابة فى الجرائد والمجلات وهي محاولة لجلب نظر الناس ، ولنيل المركز الممتاز الذي يحوم حوله الناس ، وبعبارة مختصرة : الأدب في الحجاز هو اعلان عن النفس و وسيلة الى الغرض لذلك نرى كثيرا من الشباب الطموح يبدأ حياته بمطالعة الصحف والمجلات ثم بكتابة

المقالات وصوغ القصائد ؛ حتى اذا ما ساعده الحظ ، ونال ما كان يمني به النفس حمد المسرى واقتنع بأن مهمته الأدبية قد انتهى أمرها ، ونسى الأدب ، وتسلى عن الانتساب اليه ، وان لم يساعده هذا الحظ فهو أديب من يوم ان انتسب إلى الأدب الى يوم يموت ! وبضاعته فيه هى هى ، لا تزيد ولا تنقص من يوم ان انتسب إلى الأدب الى يوم يموت ، ثم هو ساخط على الأدب ؛ ومن دله عليه..

ونرى كثيرا من الشبان الذين يتوهمون ان النزول فى ميدان العمل ؛ فيه نزول عن المركز اللائق الذي صورته فى أمخاخهم البيئة والتقاليد ، يلجأون الى مطالعة الجرائد والمجلات ويحاولون كتابة المقالات ليمنحوا لفظ الاديب ، فيتلذذون بالوهم الكاذب الذي يتصورونه فى لفظ الاديب ، حتى أصبح لفظ الأدب ملجأ  للكسالى والعاطلين كما أصبح لفظا للطلبة فى بعض المساجد والتكايا ستارا للعاطلين الذين نبذتهم الحياة لضعف تربيتهم، ووهن فى اخلاقهم ؛ فهم من الطلبة من يوم ينتسبون الى الحلقات الى يوم يموتون.

فإذا صحت فلسفتى مع "مجلتنا الغراء" وكانت تسألني عن سبب إخفاق هذا الأديب الذي وصفت ، فانى مجيبها بان سبب إخفاقه هو هذا التفسير المغلوط للأدب ، والاعتقاد بانه وسيلة لا غاية ، يلتجيء اليها الشاب لتكون طريقا الى الغرض الذي يطمح اليه .

ثم اذا دام تفسير الأدب عند شباب الحجاز على هذا النحو ؛ فإن الحجاز سوف يفقد الأدب الى زمن لا ندري مداه . ولعلى بعد هذا مطالب بتعريف الأديب الصحيح ، وهل هو مخفق فى هذه الحياة أم ناجح ؟

لا أشك بل لا يشك كل مطلع على الأدب القديم والحديث ؛ أن الأدباء فى كل زمان ومكان هم من أرقى طبقات الناس ، ومن أحظاها بالتمتع بالشهرة والخلود فالخيام وأبو العلاء وكارليل وغيرهم من الادباء المتقدمين مثل الجاحظ وجوته وابن الرومي وشكسبير قد خلدوا على ممر الدهور ؛ ثم اإه مما لا شك فيه أن أكثرهم نال

من الشهرة فى حياته ما لم يستطع معاصر لهم أن يناله ومن المال ما يسمح لهم أن يعيشوا عيشة رغد وهناء ، اما ما قال بعضهم ، وهم الاقل ، من الضغط فى حياتهم فذلك ليس سببه الادب ، ولكن سببه المنافسة الساقطه فى بعض الاحيان ، والجور الغاشم من الحكام فى أحيان أخرى ، مما كان لا يخلو منه زمان من تلك الأزمان ، ومع ذلك فان الادب هو الغالب في كل الأحيان.. وأدباء عصرنا اليوم أكثر تقريرًا وعناية من الناس بطبيعة الحال التى اقتضاها توسع نطاق العلم ، وكثرة القراء للآثار الأدبية التى ينتهجها الأدباء ، فبرناردشو واميل لودفيج وطاغور واقبال والزيات والمازني وأحمد أمين والعقاد وهيكل وطه حسين وغيرهم من أدباء هذا الجيل ، يتمتعون بمكانة قل ان يحلم بها حتى الملوك ويضاف الى ذلك غناء مادي يرفعهم كثيرا عن غيرهم من الناس ، وهذا كما ترى لا يمكن أن يسمى إخفاقا إذا لم يرد بالإخفاق كنز الذهب واقتناء القصور.

على أن الوصول الى درجة أديب ليس بالأمر السهل فهو يستدعى زمنًا طويلا ودراسة عميقة متسعة أطول وأكثر مما يستدعيه أى فن أو علم آخر، فقد فرض المتقدمون على الأديب أن يكون ملما بشتى العلوم ، متمكنا من فنون القول ، قابضا على ناصية اللغة وذلك فى زمن كانت فيه نظريات العلوم محدودة ، ورجاله قليلين ، يسهل حصرهم ولا يصعب سبقهم . أما اليوم وقد انتشرت العلوم والفنون ، وأصبح من المحتم على عوام الناس ان يكونوا ملمين بما تقتضيه واجبات حاجياتهم ، ليعيشوا مع الناس ، فما بالك بالجهد الذى يتطلبه الأديب الذي هو مطالب أن يفوق درجة العوام فى العلوم ونواحي التفكير هذا إذا تمشينا مع هذا التعريف القديم ، أما اذا أراد القراء أن يعرفوا تعريفي الخاص فإني أسوقه على هذا النحو : "الأديب هو الإنسان الممتاز الذي هيأته الفطرة للبحث والتنقيب وهبته جلدا على المداومة والاستمرار في استجلاء صفحة الكون منذ نشأة التاريخ ، ثم هو بعد ذلك قد كرس جهوده الخاصة فى دراسة احوال أمته الاجتماعية ، والسياسية والاقتصادية

منذ نشأة تاريخ هذه الأمة إلى اليوم الذى هو فيه وكون لنفسه رأيا شخصيًا خاصًا عن كل عصر من عصور هذا التاريخ وبذلك يكون فى نفسه ملكة يقتدر بها على عرض حياة جيله الذي عاش فيه بصورة صحيحة صادقة على الأجيال التى تأتي بعده ويكون فى ذلك محافظا على شخصيته وطابعه الخاص ولابد للأديب الممتاز أن يكون عارفا بتاريخ أمة أخرى عريقة فى الحضارة والتمدن ليستطيع أن يوازن بين حياة أمته وحياتها ويستظهر مواطن الضعف فيها ، وهذا بالطبع يستلزم اتقانه للغة تلك الأمة كل الإتقان".  وهذه نهاية لا يصلها المجد الا وقد اكتهل أو كاد؛ وكثيرا ما يدركه الفناء ولم يدرك هذه الغاية ، ولذلك كان عدد الأدباء في كل زمان ومكان نادرا بل لا مناسبة له مع العلماء والفنانين الآخرين فعدد الأدباء في مصر فى الوقت الحاضر - رغم هذا الإنتاج الضخم التى تموج به مطابع مصر ورغم هذا الجرائد والمجلات التى لا تدخل تحت حصر - لا يتجاوز الستة أو السبعة ، كما يقول الاستاذ الزيات فى مجلة الرسالة الغراء عدد ٢٠٦ ثم هو متشكك فيمن يخلفهم اذا امتدت اليهم يد المنية لا سمح الله ، وكذلك قل في عدد الادباء فى كل أمة من الأمم . وطبقا على هذه القاعدة لو أردنا أن نستعرض حياة أديب من هؤلاء الأدباء الذين جرى ذكرهم في هذا المقال ، لتحقق القارئ ان جهد الاديب جهد لا يدخل في طاقة العاديين من البشر ، ولابد له من ميزات تخصه وترتفع به حتى يتمكن من اداء الرسالة التى ينتدب لها فى هذه الحياة ، فمؤرخو كارليل يقولون انه بعد أن تخرج من جامعة ادينبره امتهن التعلم مدة ، ثم تركه إلى قرية نائية انكب فيها على الدراسة سنين طويلة كادت تودى بحياته ولولا رأفة زوجته وسهرها لقضى ، وحرم العالم من ذلك الأديب الكبير . وكذلك قل عن كل أولئك الادباء فى الكد والتحصيل السالفين منهم والمعاصرين. (١)

على أنه مما لا شك فيه أن الأديب يتكون فى الأمة الحية فى نصف المدة التى يتكون فيها الأديب في الامة المتاخرة ، ذلك لان الاديب انما يكتسب قوته وحيويته من الرأى العام وتقديره ومن عطف عظماء الدولة ورجالها ، ومن البديهي أن الرأى العام متى كان مستنيرا ورجال الدولة متى كانوا من الذين يقدرون الرسالات الأدبية ، ويعرفون مدى رفعها لمكانة الامة التاريخية والاجتماعية شجعوا الافراد الذين يتوسمون فيهم فطرة الاديب ؛ وسهلوا لهم سبل العيش والراحة ، ليطمئنوا ويقوموا بداراساتهم فى جو هادئ . والأمم المتأخرة تحارب المواهب فى الاديب وتقتل فيه النشاة الحرة وتعرقل سبيله الى المطالعة والدروس ، ولذلك قلما يعرف الأديب فى الأمة المتاخرة ؛ واذا وجد رغم كل تلك العوائق فإنه بلا شك آخذ بيد أمته الى سبيل التقدم ، ومورثها صفحة بيضاء فى صفحات تاريخها .

وبعد فهذه نظرات مستعجلة وآراء مبعثرة ما كنت لأرضى بتقديمها للقراء في مثل هذا البحث المستعجل لولا اصرار " مجلة المنهل الغراء " على اجابتها في الكتابة فى عددها الممتاز وفقها الله وسدد خطاها.

اشترك في نشرتنا البريدية