الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

، الهجرة

Share

حينما فكر أولو الأمر من أهل السبق في الإسلام في اختيار  مبدأ للتاريخ الإسلامي كانت هنالك حوادث ما يزال  ذكرها حياً في أذهانهم، يملؤها روعةً وجلالاً.

هنالك حادث الهجرة نفسها ، وهنالك قبل حادث الهجرة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومبعثه ، ويوم اعلانه بالدعوة ، يوم بيعة العقبة ، وبيعة الرضوان

ثم هنالك حادث الهجرة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم،  ويوم الفتح - فتح مكة - وهنالك اليوم الذي أنزل الله تعالى  فيه على عباده المؤمنين:   (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت  عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)  وغير ذلك أيضاً. كل  أولئك وكثير مما لم نذكره، قد كان ماثلاً أمام أولى الأمر من  أهل السبق في الإسلام يوم أرادوا أن يختاروا مبدأ للتاريخ  الإسلامي، فاختاروا من بين أولئك كله حادث الهجرة - هجرة  النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة - وبذلك  سجلوها ذكرى بين المسلمين متجددة، وأرسلوها فيهم حديثاً  مأثوراً وعبرة دائمة.

ما تحسبهم فعلوا ذلك إلا وقد عرفوا لهذه الحادثة من القدر  والخطر ما لم يعرفوا لغيرها من الحادثات التي عرفوا، وإن كانت  ذات قدر جليل وخطر عظيم.

لقد يبدو غريباً أن يتفق الصدر الأول من بناة الإسلام  وأهل السبق والفضيلة فيه على أن ينظروا إلى الهجرة بذلك  النظر، وأن يعتبروها أهم الحوادث في الإسلام وأبرزها وأبلغها  في نشأته أثراً.

والذين يقرءون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قد يدركون  في غير مشقة أن هذه الهجرة كانت في الحق حدثاً ذا شأن عظيم  وخطر، فأما أن يبلغ من خطرها أن تكون هي الحادث يغطي  على جميع الحادثات، وتغلب ذكراه ذكراها، ويرتفع اسمه فوق  أسمائها، فذلك ما قد يبدو غريباً يحتاج إلى شيء من البحث

والنظر. بل لقد يبدو لبعض المتعسفين أمر هذه الهجرة وكأنه  مظهر من مظاهر الهزيمة، وكأنه عمل من أعمال اليأس  والتسليم. وكذلك يظنه بعض الكفار، وكذلك يسميه بعض  كتابهم من الإفرنج بالهرب والفرار

ولعل أولئك الذين يصفون هذه الهجرة بأشنع الصفات،  ويدعونها بشر الأسماء، هم الذين سخرهم الله من حيث لا يشعرون  ليكشفوا لنا عما أدرك السلف في هذه الهجرة من روعة تتضاءل  دونها كل روعة، ومن عظمة لا تدانيها عظمة، ومن حقائق  وأسرار ما كنا لنهتدي إليها لولا أن أتاح الله لنا أولئك الحاسدين  ينشرون فضل الهجرة كما تنشر النار طيب عرف العود.

وفي الحق قد كانت هذه الهجرة في ظاهرها نهاية أسيفة  لمعركة حامية طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت،  ولقي المسلمون فيها بأساً عاصفاً وزلزلوا زلزالاً شديداً. ولعل كُتاب  السيرة النبوية لم يستوفوا ما في هذه الحرب المرة من تفاصيل  ودقائق، ولم يتوسعوا في وصف ما تخللها من بأس وشدة، ولعلنا  لو استطعنا أن نحيط إحاطة شاملة بحقيقة هذه المعركة لوجدنا فيها  قصة فريدة لمعركة كانت من أشد ما عرف التاريخ صراعاً بين  الحق والباطل، واصطداماً بين كلمة الله العليا وكلمة الكفر السفلى.  لسنا نعرف من أمر هذه الحرب القاسية إلا ذلك الذي يكرره  كتاب السيرة ويتناقلونه من أحاديث الصحيفة، وأحاديث  التعذيب والإيذاء ونحو ذلك، ولكن الذي يدرس طبيعة هذه  الحرب، ويحلل ظروف زمانها ومكانها، ويستقصي ما ورد في  سياق الحديث عنها في القرآن وفي السنة، وفي كتب التاريخ  لا يسعه إلا أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذه المعركة قد كانت  عنيفة إلى أقصى درجات العنف، وقاسية إلى أبعد حدود القسوة،  وأنها كانت أكبر محنة ابتلى بها المسلمون في صدر الإسلام،  وكانت نهايتها أن تشتت المسلمون، وأخرجوا من ديارهم بغير  حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. وخرج صاحب الدعوة ورفيقه  عليهما السلام، كما خرج موسى كليم الله خائفاً يترقب   (إذ هما  في الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا)  وهكذا كانت  الهجرة نهاية أسيفة لمعركة طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة  الطاغوت.

ثم كانت هذه الهجرة نفسها بداية سعيدة ناجحة لمعركة  طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت، وفيها عاد الله  سبحانه على المسلمين بالنصر مؤزراً   (فأنزل الله سكينته على رسوله  وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا  السفلى، وكلمة الله العليا والله عزيزٌ حكيم) .

ليس يشق علينا أن يقولوا عن الهجرة إنها كانت هزيمة  وكانت فراراً. ولئن كانت الهجرة هزيمة فلقد كان في هذه الهزيمة  النصر كل النصر والفوز كل الفوز. ولئن كانت الهجرة عملاً  من أعمال اليأس والتسليم، فلقد كان مع اليأس والتسليم أمل  باسم، قضى الله أن يتحقق، وغلبة شاملة أراد الله أن تتم؛ ولئن  كانت الهجرة هروباً وفراراً، فلقد أعقبها رجعة على الكفر  ساحقة، وكرة كانت القاضية.

وهل يجد المسلمون في تاريخهم، وهل يجد غير المسلمين في  تاريخهم، وهل تجد البشرية كلها في تاريخها حادثة غير هذه  الهجرة تستحيل فيها الهزيمة نصراً ويرتد اليأس رجاء، ويصير  الفرار سلطاناً وتمكيناً؟ أم كان ذلك فضلاً من الله يختص به من  يشاء، وكان فضل الله عليك عظيما!

إذا كان المسلمون قد استيأسوا يوم الهجرة وظنوا بالله  الظنون، فان المسلمين قد علموا يوم الهجرة أن يد الله الرحيمة،  قد امتدت من السماء فتلقت الإسلام تحفظه وتؤيده، وأحاطت  بالمسلمين فهدتهم إلى طرق السعادة، وكتبت لهم أن يكونوا  هم الفائزين.

لقد علم المسلمون يوم الهجرة أن الله قد كتب لهذا الدين  النصر الخالد، ولن يخلف الله وعده؛ ولقد علم المسلمون يوم  الهجرة أن الله وحده هو الذي يحمي هذا الدين ويدافع عنه،  وأن الله وحده هو الذي يحفظ هذا الدين وينصره   (وما النصر  إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو  يكتبهم فينقلبوا خائبين، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم  أو يعذبهم فإنهم ظالمون، ولله ما في السموات وما في الأرض  يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم) .

اشترك في نشرتنا البريدية