المزاج التجريبى:
جمعتنى المصادفة فى بلد ناء بخبير فى اللاسلك أجنبى، وفى إبان المجلس عرض عليه موظف مصرى كبير مشروع نظام للاذاعة اللاسلكية يراد اتباعه فى مصر حينما تتم المحطة المصرية الموعودة فى يناير القادم. وكان المشروع طويلا عريضا كثير التفاصيل دقيق الأجزاء كثير الفروض، كثير الردود، معجبا فى انسجامه، مقنعا فى تلاوته، ولا شك أن كاتبه استغرق فى مكتبه ساعات عديدة لتدبيره، واستهلك كثيرا من الورق والحبر قبل الانتهاء على صيغته الأخيرة. ولما فرغ صاحبنا المصرى من عرضه سأل الخبير رأيه فيه وعن القدر الذى يتاح له من النجاح، فسكت الخبير هنيهة ثم قال: ابدأوا بعشر هذا فستجدون أن معالجة هذا العشر الأول سترسم لكم الطريق الى معالجة التسعة الاعشار الباقية. لا أدرى ان كان خبيرنا المذكور تثقف بثقافة علمية خاصة ولكن الذى أدريه أن عقليته لا شك علمية ورأيه الذى ارتآه صدر عن نفسية مزاجها تجريبى، والمزاج التجريبى وليد المران العلمى؟ فالعلم يتشكك فى كل ما ينتج عن الفكرة الخالصة وعن نشاط الفكر البحت الذى لا يتعدى حدود الجمجمة. والعالِم الحديث كالسفسطائى القديم فى فقدانه الثقة بالمنطق الصرف باعتباره أداة كافية لكشف الحقيقة. والعالِم الحديث يبالى بالنتيجة العملية أولا فإن فسرتها النظرية فقد حصل توافق محمود، وان كان خصام فالنظرية مخصومة مرفوضة. وكثيرا ما تجد هذا المزاج التجريبى فى رجال ليس العلم صناعةً لهم، فتجده فى التجار
وأرباب الصناعة وفى الساسة، وقد يكون طابعا خاصا فى أمة، وقد وجدته فى الأمة الإنجليزية طابعا لها، لا سيما فى رجال تثقفوا بثقافة خاصة كثقافة كمبردج أو اكسفورد، والخبير الأجنبى المذكور من هؤلاء. ولو أنك عرضت هذا المشروع اللاسلكى المنمَّق على مصرى ذى ثقافة قاهرية لكان سريعا الى نقده ونقاشه بكل ما وهب من مزاج نظرى ومقدرة فائقة فى التخريج المنطقى، ولحَسب بعد الفراغ أنه أتى بنتاج صائب لا يأتيه الباطل من أي جوانبه، إذا هو طبق ونفِّذ فلن تجرؤ قوانين الطبيعة ولا سنن المجتمع أن تعترضه أو تخالفه. ولقد لبسنا معشر المصريين هذا المزاج النظرى ضيّقا لِصق أجسامنا حتى ليصعب علينا خلعه، حتى بعض الذين تدرَّبوا منا تدربا علميا خاصا يميل بهم هذا المزاج حيناً فينسون التجربة وخطرها فى أمور العلم وأمور الحياة. قص لى صديق عالم مصرى أختصه الله من بين العلماء بنعمة الثراء لسر لا يعلمه سواه، فكانت له أرض واسعة مرضت فأتعبه تسميدها فذهب إلى خبير مصرى عالم فى السماد فسأله رأيه، وبعد أخذ ورد وفحص وصف له الدواء، فذهب صديقنا الى أرضه بسن ضاحك ورجاء وافر، ولكنه بعد فترة التجربة عاد الى صاحبه السَّماد بوجه كاشر وأمل خائب، فسأله أعندك أرض، قال لا، قال نصيحتى للدولة أن تفصل من خدمتها كل سمَّاد لا أرض له ثم تولَّى. فقلت لصاحبى لقد كان أقرب إلى الإنصاف وأدنى إلى الإحسان أن تتمنى على الدولة أن تهب أرضا لكل سمَّاد لا أرض له. فنسى صاحبى الأرض وابتسم راضيا عن هذا الحل الموفق. سفينة فى معمل:
والحق أن هناك وجها قد يخفى حتى على من يقضون أصباحهم وأمساءهم فى المعامل، فإن تجربة المعمل محدودة وأوجه الشبه التى بينها وبين ظاهرة طبيعية تحدث فى االعراء
الواسع قد تكون قليلة مبتورة، فقد تكون فى تجربة المعمل صفات ُمنجحة لا تكون فى الطبيعة، وقد تكون فيها صفات مخيِّبة ليست فى الطبيعة، وقد يكون فى الطبيعة ما ليس فى تجربة المعمل، وليس من الهين كل حين إدراك هذه الفروق فى الصفات ولا سيما فى شئون الحياة ومناطق العرفان التى لا يزال العلم يمشى فيها بخطى محذورة ثقيلة، مستهديا فى حُلكتها الكثيفة بفتيل ضئيل من زيت قنديل. وكثيرا ما أدرك العلماء هذه الحقيقة إدراكا قويا خرج بهم عن حدود العمل المعروفة وعن طرائقه المألوفة. مثال ذلك أن التفاح من أكثر الفواكه عبرا للمحيطات، وأطولها سفرا وأكثرها اختلافا بين مناطق الارض الباردة والحارة، فكانت تتلف منه فى تلك الأسفار مقادير هائلة، ففحصوا أسباب هذا التلف فاهتدوا الى أن من أسبابه الحرارة التى تكون فى قاع السفينة ولا سيما فى الاقطار الاستوائية، فكان من ذلك أن أودعوه مخازن بالسفينة تبرد تبريدا صناعيا طول السفرة. ثم ارتأوا بعد ذلك أن الهواء المحبوس سبب قوى فى الفساد الحادث، وإن التفاحة تحيا خلاياها وتموت، فهى مثلى ومثلك فى حاجة إلى الأكسجين النقى لتبقى حية صالحة، وكذلك فى حاجة إلى شىء من الضياء. فمهدوا للتفاح المسافر وسائل الحياة والترف احتفاظا بحيويته، فنقص مقدار العادم إلى نسبة قليلة هى خمسة فى المائة. ولكن التفاح تبلغ التصديرة الواحدة منه ثلاثة الملايين من الصناديق. فالخسارة فى هذه وحدها تبلغ مائة وخمسين ألف صندوق. من اجل هذا اعتزم معهد الأبحاث بـ (إيست مالنج)East Malling بمقاطعة (كنت) بإنجلترا ان يقوم بدراسة حاسمة لا هوادة فيها لخلاص تلك البقية الباقية من العدم. (وايست مالنج) محطة لبحث النبات عالمية لها معامل واسعة تبلغ المائة من الفدادين، ولها فى تربية النبات وانتقاء جذور الاشجار ولا سيما أشجار الفواكه سمعة واسعة، وهى فوق ذلك غنية قادرة، فأرادت ان تلم بكل الظروف المحيطة بالتفاح أثناء سفره، فابتنت فى معاملها ما يشبه السفينة، وأقامت فيها كل ما يقوم فى السفينة، وجهزتها بجهاز يزيد فى حرارتها أو ينقصها حسب المراد، وأتت بحمولة
التفاح فأودعتها عنبر ((السفينة)) وأودعت بين صناديق ((البضاعة المسافرة)) مائتى وخمسين ترمومترا لرصد الحرارة، وبما أن العنبر سيظل مغلقا طيلة ((السفرة)) فقد وصلوا الترمومترات باسلاك كهربائية ليستطيعوا رصد الحرارة من بعيد وبخاصة اذا هاج ((البحر)) ، نعم اذا هاج البحر فانهم أحاطوا السفينة بأكياس منفوخة بالهواء تعوم فيها عومها فى الماء، وأقاموا على الأكياس آلات دافعات جاذبات تحرك السفينة مثل حركتها بين الأمواج المصطخبة والرياح العاصفة، أو من أثر التيارات الخبيئة تحت سطح البحر الهادئ. وكان هذا الجهد وكل تلك النفقة حرصا على أن تمثل تجربة المعمل تجربة المحيط بحذافيرها وحتى لا يفلت حذفور غير منظور قد يكون له خطره فى النتيجة الحاصلة. ولا يزال القوامون على هذه التجربة قائمين فيها، صكوا أبواب العنبر على التفاح وتدرجوا فى رفع حرارته وبذلوا له الهواء إلى غير ذلك من أمور، وأهاجوا عليه ((البحر)) حينا وهدأوه حينا، وستصل البضاعة فى يناير القادم إلى غايتها، وعندئذ يفتح العنبر وتمتحن البضاعة. ثم تشحن السفينة بضاعة جديدة وترحل رحلة جديدة تحت ظروف جديدة، وهكذا حتى يصل التفاح إلى مقره الأخير سليما كله من كل عطب، وعندئذ تتعين الشرائط التى لا بد منها لسلامته، وعندئذ يهدم هذا الهيكل الكبير ويباع حطاما رخيصا وسلعة بائرة بعد أن يكون قد أكسب الانسان سرا من أسرار الطبيعة قد يكون فى ذاته هيّنا فى العلم، الا أنه فى الاقتصاد خطير، فهو يرد إلى الإنسانية على مر السنين ملايين الجنيهات، وهذه بدورها تمثل طاقة انسانية تنفق فى الزرع والجنى وتعهد النبات، وطاقة أخرى طبيعية مما بذلته الأرض من عناصرها والهواء من غازه والشمس من أشعتها، طاقات يعزّ على العلم والعلماء أن يروها تهدر هكذا كاللبن الصبيب والدم المسكوب
روعة فى البرتغال
فى ليلة اليوم التاسع من اكتوبر فى بلاد البرتغال تساقطت من السماء السوداء رجوم بيضاء بلغت الملايين فروّعت الناس كأنهم حسبوا أن عقود السماء انفطرت فأخذت النجوم تهوى
بغير حساب. وهذه ظاهرة كانت منتظرة فى هذا العام الذى نحن فيه وقد نتكرر الى ختام العام.
أما سببها فالمذنَّب المعروف بمذنب ((تمبل))Tempel وهو من مذنبات أسرة الكوكب السيار ((أورانوس))Uranus . وهذا المذنب يطوف حول الشمس فى مسار بيضاوى متطاول يقطعه فى ثلث قرن، وبما أنه لا يطوف فى دائرة نجده فى ساعة ما من سنة ما فى موضع أقرب ما يكون من الشمس، ثم نجده بعد هذه الساعة بسدس قرن قد حل أبعد مواضعه منها. ثم ينصرم سدس قرن فاذا به فى موضعه الأول الأدنى من الشمس، أعنى الأدنى من الأرض، فهو باقترابه من الشمس يقترب منا، وهو كالمذنبات يجر وراءه ذيلا من غاز وتراب وأجسام صلبة منها الكبير ومنها الصغير. والمذنب وذنبه يسيران فى الفضاء بسرعة هائلة. فاذا مس هذا المذنب بمادته هواء أرضنا بتلك السرعة المروعة احتك به فاحترق فتكونت من ذلك الشهب التى نراها. وقد ادرك هذا المذنب الأرض ورأى الرقباء شهبه فى أكتوبر أو نوفمبر من أعوام ٩٠٢ و٩٣٤ و١٠٠٢ و١١٠١ و١٢٠٢ و١٣٦٦ و١٥٣٣ و١٦٠٢ و١٦٩٨ و١٧٩٩ و١٨٣٣ و١٨٦٦ و١٩٠١. وتجد بامتحان
تلك الأرقام أن الفترات بلغت ثلث قرن أو ثلثين أو قرناً بتمامه، وقد فات الرقباء لا شك ظهور هذا المذنب فى السنوات الساقطة من سلسلة السنوات المذكورة. أو لعل الأصح أن نقول أن الذى فاتهم إنما هو رؤية الشهب التى تظهر عنه فتدل عليه، فالمذنب نفسه صغير لا تراه العين اكتشفه مكتشفه بالتلسكوب عام ١٨٦٦، وعندئذ، وعندئذ فقط، دُرس هذا المذنب ودرست دورته ودرس زمنها وانكشفت العلاقة بينه وبين شهب سجّل التاريخ حدوثها فى الأزمان الخوالى. ومنذ حل عام ١٩٣٠ والعلماء فى ارتقاب الرسول الوافد، رسول العلم، رسول الإيمان فى حسابات الرياضة وقواعد الفيزياء، رسول الثقة فى العقل البشرى بنَّاءً لقواعد الإيمان النفسى، وقد أتى الرسول وألقى برسالته، فوقعت هذا العام فى البرتغال فارتاع لها الجهال. وقديما خاف الناس الشهب وراعتهم المذنبات. اليس أبو تمام يقول:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة اذا بدا الكوكب الغربى ذو الذنب وصيروا الأبْرُج العليا مرتبة ما كان منقلبا أو غير منقلب تخرصا واحاديثا ملفقة ليست بنبع اذا عدت ولا غرب
ليت شعري أى مذنب كان هذا؟ وفى أى سنة ميلادية بالضبط كان؟ وهل هو مما سجله علماء الفلك؟ وهل فى حسبان تاريخه التقريبى نفع؟
جماد يبصر حيث تعمى العين
نزلت فى الصيف الماضي بضيعة من ضياع الريف بإنجلترا فى دار رجل طيب الخلق سمح كريم إلا أنه شديد على كل من مس ماله وثروته، كان يذكر ذلك ويفخر به ويعلله بأنه كسب ما كسب من عرق جبينه، لا عرق جبين والد أو عم. لذلك أغمه وأهمه ونحن نزول عنده أن لصا ماكرا لحوحا ألح على بيت للدجاج له يقع بعيدا عن الدار فكان يحمل منه كل ما وجد به من البيض، وغاظ صاحبنا منه أمران، أولهما أنه كان يختلف إلى بيت الدجاج والشمس فى السماء ومع هذا يفلت، وثانيهما أنه كان يلبس حذاء من قش حذر أن تنطبع قدمه فى الأرض فتدل عليه. وفي ذات يوم ونحن جلوس إلى المائدة
يحدثنا صاحبنا الريفي للمرة العاشرة عن السارق ويشكو، إذا بأساريره تبرق وعينه تلمع وأسنانه تتحرق تحرق المغيظ جاءه النصر على غير انتظار. فسألناه عن خطبه، فقال فخ سأنصبه للوغد، وعن قريب تسمعون عن رقم قياسي للبيض سيدفعه هذا الكلب النذل عن كل بيضة سرقها. وفي ذات مساء والشمس تغيب والمطر رذاذ كنت عند الباب الخلفي للدار أتفقد السماء، فلمحت صاحبنا يهرول من بعيد، قد انكشفت نواجذه بابتسامة عريضة، وتأبط شيئا صغيرا ملفوفا فى جريدة. فلما اقترب سألته عما جرى فقال صدت السارق، فقلت فأين هو؟ قال هنا، وأشار إلى الصندوق الذى تحت إبطه، ثم سألني أتعرف تحميض الصور؟ قلت نعم، قال فهلم إلى معونتي فخبرتي بذلك قديمة منسية. وما كادت تظهر الصورة السالبة على لوح الزجاج الأسود حتى اختطفها يحملق فيها وكأنه تبين ملامح السارق. ولم يضح صباح اليوم التالي حتى كان اللص فى دار الشرطة ولم يسعه وقد واجهوه بالصورة الا الاعتراف. وخلاصة الأمر أن صاحبنا الفلاح خبأ الكاميرا داخل بيت الدجاج ووصلها بسلك بالباب. وكانت فى مواجهة الداخل، فلما دخل اللص فتح الباب فانكشفت العدسة فارتسم المنظر فكانت شهادة لجماد لا تعد لها شهادة الأحياء
خطر لي بعد هذا الحادث أن مضيفنا كان لا شك رجلا فطنا، وأن صاحبنا اللص كان على حيلته غبيا لأنه خالف عرف اللصوص فزار البيت نهارا، وسألت نفسي وماذا كانت الحيلة لو أنه زار الدار ليلا، وأخذت أداور حلولا فى رأسي للتسلية. ثم انتقل فكري من هذا كله حتى كان هذا الاسبوع فوجدت سؤالي يجاب فى بعض أنباء العالم، ذلك أن رجلا استخدم لالتقاط الصورة فى الظلام مصباحا كهربائيا يشع بالنور البنفسجي المعروف، إلا أنه استبدل بزجاجة المصباح الشفافة زجاجة خاصة سوداء تحجب من الضوء البنفسجي كل إشعاعات الطيف المرئي وهي الشعاعات التى تحسها عين الآنسان وبها تبصر، ولكنها لا تحبس ما فوق تلك من إشعاعات كيميائية تؤثر فى الأفلام الفوتغرافية، فأنت إذا نظرت مثل هذا المصباح فى حجرة مظلمة فأنت لا تراه،
ولكن إذا كان بيدك كاميرا ففتحتها ارتسمت فيها صورته وارتسم كذلك المكان. فلو أن لصا زار بيت الدجاج ليلا
وكان به مصباح كالذي نحن بصدده لما أفادته الظلمة شيئا. وإلى جانب هذه الصورة أخذت فى الليل بهذه الطريقة، بها السيدة تمثل اللص وإلى جانبها المصباح رأته الكاميرا وضاء برغم سواده فى العين.

