تؤلف فى الأدب كتب، وتنشأ له صحف، وتقام له جماعات ، وتشيد من أجله جامعات، وتعرف به رجال، فأى اثر لهذا الأدب فى الحياة، وأى وظيفة يؤديها لهذا المجتمع الذى غلبت عليه المادة ولم تلقى فيه المعنويات ما يجب لها من عناية وتقدير؟
ان للأدب عناصر يتركب منها، أساسها تلك العواطف التى تستولى على المرء فتحرك نفسه وتهتز لها يراعته فتدون على صفحة القرطاس تلك الحركات النفسية، وتصورها على قدر شدتها أو خفتها، فإذا عرضت على الناس حركت فيهم نفس الشعور وأحيت منهم نفس العاطفة
وكم فى هذه الحياة من نفوس دقيقة الحس صادقة الشعور تحركها شؤون الحياة وتهزها صروف الدهر، هى نفوس أدبية تحس فى صمت، وتشعر فى سكون. ولكن أصحابها فقدوا أداة الأدب وأعوزتهم المقدرة على التعبير عما يحسون فى أسلوب جميل أخاذ، وبهذه المقدرة الفنية يتميز الأدباء من غيرهم من ذوى الحس الدقيق والشعور الصادق. فالحياة تذيقنا جميعاً حلوها ومرها، ونلقى منها جميعا ما نحزن له أحيانا ونطرب له حينا، وهى تعرض علينا من ألوانها الزاهى البهيج والقاتم الحزين. والأديب منا من شرح حسه فأجاد الشرح، وصور لنا عواطفه فأحسن التصوير، وإذن فليتعز المحزون العاجز عن بث حزنه بنفثات الأديب المحزون، وليبحث البائس
الذى لم يسعفه بيانه عما يسليه ويذهب ببعض آلامه فى سطور الأديب البائس، وليقرأ المحب الذى أحب فأخلص، وأخلص فتفانى فى اخلاصه، ولكنه كان اعجز من ان يسمعنا حديث قلبه وينقل الينا اسرار نفسه وخفى حسه، أقول ليقرأ ذلك المحب العاجز ما كتب المحب الأديب، فسيجد بين السطور نفسه مرسومة، وسيلمح فى ثنايا العبارات عواطفه مصورة، فلست اعرف بين العواطف الانسانية عاطفة تشترك فيها القلوب جميعا، وينطبق ما يقال عنها على الناس جميعا، كعاطفة الحب الخالص المتين. الست ترى الانشودة يغنيها المحب شاكيا أو باكيا، فيعدها غيره صدى نفسه وترجمان حسه؟ وإذن فالأدب ضرورة من ضرورات الحياة وعنصر هام من عناصر العيش، فيه الحزين، وسلوى المحب، وعزاء المحزون. وليست مع العزاء مصيبة. أن الأدب هو نتاج العواطف الشريفة وثمار الاحساس الجميل، ولن تجد كثمرة العاطفة فى حديقة الحياة.
نظرة إلى هذا العالم تنبئك عن قدر الأدب بين الأحياء، فكل من فيه مآله آخر يومه إلى الراحة والسكون، والمرء مهما كد وجد فلابد له من سويعات تقر فيها نفسه، ويخلد فيها إلى السكون جسمه، وعندئذ فلن يجد أشهى من ثمرات القرائح والنفوس يقطفها من صفحات كتاب. ولن يجد أحلى من زهر العواطف تفوح رائحته من ثنايا النثر أو الشعر. ولن أقول أى نثر أو أى شعر، فلكل ذوقه ولكل ما يؤثر، وهي بضاعة من نتاج القرائح معروضة، فليأخذ منها كل ما يلائم حسه، ويصادف هوى نفسه.
وتريد ان تعرف قيمة الأدب فى الحياة وتتبين أثره فى الناس. إذن فانظر إلى رجل ليس يقرأ إلا قصيدة قد حوت رائع اللفظ وساحر المعنى، وليس يطالع إلا فى كتاب قد تضمن من الحديث أعذبه وأحلاه، ومن القصص أحسنه وأشهاه، فيه شجون وفيه احزان، وفيه شكوى وفيه غرام، وفيه عاطفة حارة وحس جميل، وفيه وصف رائع وشعور صادق نبيل، ثم استمع إليه تحدثك فستجد عقلا مصقولا ونفسا مهذبة، أثرت فيها هذه الآداب فرققت حواشيها، وعملت فيها تلك القراءات فأرهفت حسها وهذبت نواحيها، وهل اجل فى الحياة من نفس مهذبة وعقل صقيل؟ وهل أدعى إلى حياة الامم ورقيها من نفوس ابنائها وقد طبعت على كل حسن جميل؟ وهل مثل الأدب مقوم للطبع مهذب للنفس؟
وتريد أن تعرف قيمة الأدب فى الحياة وتتبين أثره فى الناس!
إذن فنصور شعبا ينصت إلى نشيده الوطنى وقد ذبحته براعة أديب قدير فحوى من معانى الوطنية ارفعها واسماها، وحرك من نفوس الناس اشرف العواطف وارقى درجات الشعور، فتحفزت نفوسهم واستعذبوا الموت فى سبيل الوطن.
وللأدب بعد ذلك ناحية عامة لا تقل شأنا عن تهذيب النفوس وصقل العقول واحياء العواطف السامية فى القلوب، فأدب الأمة صفحة صادقة من تاريخها كتبتها طائفة من ابنائها فلم تتحيز ولم تظلم، وإنما دونت فيها شعورها الخالص وحسها الصادق. ولذا عنيت أرقى الأمم بالآداب وأحلتها المحل اللائق بها، وأنزلت أهلها المنزلة التي تتفق وما لآثارهم الادبية من قيمة في الحياة. فلولا الأدب لكانت حياتنا جافة لا تحتمل، وعبئا ثقيلا لا يطاق.
الاسكندرية
