لم يشهد الشرق فاتحا قبل العرب يفتح البلدان والأذهان ويستعمر الألسنة والأفئدة فى وقت معا. فاليونان والرومان غزوه بالسيف والحضارة والعلم، ولبثوا الحقب الطوال يمكنون لأنفسهم فيه، ويطبعون آثارهم فى أكثر نواحيه، حتى إذا وهنت اليد القوية، وأمكن من يده السلطان الغريب، تنكرت المعارف وعفت الآثار. وكان ما كان من ملك ومن ملك ثم انقضى فكأن القوم ما كانوا!
ولكن العرب تدول دولتهم وتزول صولتهم ويعمل الفاتح الغشوم فى رجالهم السيف، وفى آثارهم النار، حتى إذا ظن انه ملك، وان عدوه هلك، إذا بالعرب يقولون له فى كل مكان وفى كل إنسان؛ أنا هنا! وأذا بالمغير المزهو يستسلم لهذه القوة الخفية فتحتل خواطره ومشاعره وكيانه، ثم ينقلب على الرغم منه داعيا لخلافتها ناشرا لثقافتها! فهل رأى التاريخ مثيلا لهذه الأمة التى حكمت الناس ظاهرة ومضمرة؟ وهل رأى التاريخ ضريبا لهذا الشعب الذى طبع قسما كبيرا من الدنيا بطابعه منذ ثلاثة عشر قرنا ثم لا يزال هذا الطابع على رغم العوادى جلى السمات واضح الدلالة؟ فسلطان العرب على العالم قد زال منذ قرون، ولكن ثقافتهم ما تنفك قائمة فى الشرق الإسلامى حتى اليوم! ومن الشبيه باللغو أن نفصل أثر هذه الثقافة فى أفريقيا وآسيا، فان من خضع للعرب من شعوب هاتين القارتين قد انقطع ما بينهم وبين أسلافهم من صلات اللغة والأدب والعقائد والتقاليد، فأصبحوا لا يتكلمون ولا يفكرون ولا يعتقدون ولا يعيشون إلا بما للعرب من جميع ذلك. وذو الحيوية القوية منهم كالفرس استطاع بعد حين أن يجمع فلول لغته من يد البلى فأعادها إلى الحياة بعد ما اقتبس لها من الألفاظ العربية ما يشارف الستين فى كل مائة، فضلا عن استمداده من العربية الروح والحرارة والبلاغة والخط. ومع ذلك ظل الفرس ومن فعل فعلهم يستعملون العربية إلى وقت قريب فى التأليف والتعليم والأدب كما كان الأوربيون فى القرون الوسطى يستعملون اللاتينية لمثل ذلك. على أن الثقافة العربية لم تقف فى الشرق عند حدود الفتوح وإنما تجاوزتها إلى حدود الهند والصين على يد التجار من العرب، والمهاجرين من الفرس، والغازين من الترك والمغول، فالعرب نقلوا فى رحلاتهم
التجارية طائفة كبيرة من المعارف إلى تلك البلاد ظنها الأوربيون فيما بعد أصيلة فيها. وقد ألح العلامة سديو الفرنسى صاحب كتاب تاريخ العرب في التدليل على هذا الرأى. والرياضى النابغ محمد بن احمد البيرونى المتوفى سنة ٤٣٠ نقل إلى الهند أثناء اتصاله الطويل بمحمود الغزنوى خلاصات قيمة من العلوم العربية نقلها الهنود إلى السنسكريتية فى مثنويات من النظم. وكوبلاى خان المغولى أدخل فى الصين طب العرب وبعض ما ألف من الكتب فى بغداد والقاهرة. ثم أخذ الفلكى الصينى (كوشيوكنج) أزياج ابن يونس المصرى من جمال الدين الفارسى ونشرها فى بلاده.
وبينما كان الشرق من أدناه إلى أقصاه مغمورا بما تشعه منائر بغداد والقاهرة من أضواء المدينة والعلم، كان المغرب من بحره إلى محيطه يعمه فى غياهب من الجهل الكثيف والبربرية الجموحة، وكان حظه من الثقافة يومئذ ما تضمه حصون الأمراء المتوحشين من بعض الكتب، وما يعلمه الرهبان المساكين من قشور العلم. وانقضى القرن التاسع والقرن العاشر للميلاد وأولئك الأمراء فى قصورهم يتبجحون بالأمية ويرتعون في الدماء، وهؤلاء الرهبان فى ديورهم يمحون الكتابة من روائع الكتب القديمة لينسخوا على صفحاتها الممحوة كتب الدين، حتى أزال الله الغشاوة عن بعض العيون فرأوا من وراء هذا الظلام الداجى بقعة من المغرب تسطع فيها شمس المشرق، فلما تبينوا أن البقعة هى جزء من أسبانيا، وان النور قبس من نور بغداد، استيقظ فى نفوسهم طموح الكمال الإنسانى فطلبوا العلم فلم يجدوه إلا عند العرب. ففى سنة ١١٣٠ أنشئت فى طليطلة مدرسة للترجمة تولاها الأسقف (ريموند) وأخذت تنقل جلائل الأسفار العربية إلى اللاتينية وأعانهم على ذلك إليهود، فبعثت هذه الترجمة فى أوربا الخامدة شعورا لطيفا وروحا طيبة، وتضافرت على هذا المجهود النبيل قواعد أخرى للترجمة طوال القرون الثانى عشر والثالث عشر والرابع عشر حتى بلغ ما ترجموه من العربية يومئذ ثلثمائة كتاب أحصاها الدكتور (لكلارك) فى كتابه تاريخ الطب العربى وأحصاها غيره أربعمائة. وكان أكثر ما ترجم فى هذه العهود كتب الرازى وأبى القاسم الزهراوى وابن رشد وابن سينا وما نقل إلى العربية من اليونانية لجالينوس وأبقراط وافلاطون وأرسطو واقليدس الخ ... وظلت هذه الكتب المنقولة منهاجا للتعليم فى جامعات أوربا خمسة قرون أو ستة، واحتفظ بعضها بقوته وقيمته حتى القرن التاسع عشر ككتب ابن سينا فى الطب مثلا، وكان ابن رشد هو المهيمن المطلق على الفلسفة فى جامعات فرنسا وإيطاليا وبادو على الأخص ابتداء من القرن الثالث عشر. ولما أراد لويس الحادى عشر
تنظيم التعليم سنة ١٤٧٣ أدخل فى المنهج فلسفة ابن رشد وارسطو فلولا وجود العرب فى الأندلس وترجمة علومهم فى صقلية والبندقية لما تهيأ للقرون الوسطى أن تظفر بكتاب من كتب اليونان ولا أثارة من علم العرب، ولما تيسر لطلاب العلم من الأوربيين أن يردوا مناهله الصافية فى جامعات اشبيلية وقرطبة وطليطلة. قال المؤرخ الإنجليزى جورج ملر فى كتابه فلسفة التاريخ: "إن مدارس العرب فى أسبانيا كانت هى مصادر العلوم، وكان الطلاب الأوربيون يهرعون إليها من كل قطر يتلقون فيها العلوم الطبيعية والرياضية وما وراء الطبيعة. وكذلك أصبح جنوب إيطاليا منذ احتله العرب واسطة لنقل الثقافة إلى أوربا. وممن ورد تلك المناهل الراهب جربرت الفرنسى. فانه بعد أن ثقف علوم اللاهوت فى (أورياق) مسقط رأسه جاب عقاب (ألبيرانس) والوادى الكبير حتى ورد اشبيلية. فدرس فيها وفى قرطبة الرياضيات والفلك ثلاث سنين. ثم ارتد إلى قومه ينشر فيهم نور الشرق وثقافة العرب فرموه بالسحر والكفر، ولكنه ارتقى إلى سدة البابوية سنة ٩٩٩ باسم سلفستر الثانى. كذلك تخرج على علماء قرطبة (شانجة) ملك ليون واستوريا، وأولع بعض أمراء إيطاليا بالعربية وعدوها لغة الأدب العالى، وأوصى قومه الراهب (روجر بيكون) الإنجليزى فى كتبه بتعلم اللغة العربية وقال: "إن الله يؤتى الحكمة من يشاء" ولم يشأ أن يؤتيها اللاتين، وإنما آتاها اليهود والإغريق والعرب" وروى فولتير أن جميع ملوك الفرنج كانوا يتخذون أطباءهم من العرب واليهود، وذكر مثل ذلك (جيبون) فى الفصل الثانى والخمسين من كتابه تاريخ اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها، وزاد عليه أن مدرسة (سالرنو) التى نشرت الطب فى إيطاليا وسائر أوربا كانت غرس العبقرية العربية. وقال المسيو ليبرى (Libri): "اتح العرب من التاريخ تتأخر نهضة الآداب فى أوربا قرونا طويلة" وتلك حقيقة لا ريب فيها. فان العرب كانوا الحلقة التى لابد منها لصلة المدنية القديمة بالمدنية الحديثة. فهم الذين وقفوا أوربا على مخلفات اليونان وغير اليونان. وهم الذين عالجوا هذه العلوم بالتجربة والاختبار لا بالحفظ والتكرار. حتى جلوا غامضها ونقدوا زائفها ورفعوا مباحثها على أساس من النظر الصحيح. ومالنا نحمل تبعة الكلام وتتعرض للنقض والإبرام وقد كفانا الأمر ثقاتهم ومصفوهم؟ قال المؤرخ الإنجليزى (ولز) فى كتابه ملخص التاريخ: "هب العرب يظهرون ما خفى من مواهبهم فبهروا العالم بما أتوه من معجزات العلم وأصبح لهم السبق بعد اليونان فبعثوا كتبهم من مراقدها. ونفخوا فيها من روحهم الحياة والقوة، فجعلوا بذلك سلسلة العلوم متصلة الحلقات محكمة السرد لا يمسها
انقطاع ولا وهن. فإذا كان اليونان أباء الأبحاث العلمية المبنية على الصراحة والامانة والوضوح والنقد، فان العرب مربوها وما جاءنا العلم والمدنية الا عن طريقهم لا عن طريق اللاتين وأنكر كاتب من الإنجليز فضل اليونان على العلم الحديث وعزاه كله إلى العرب قال: إن العلم الحقيقى إنما دخل أوربا عن طريق العرب لا عن طريق اليونان، فان الرومان أمة حربية، واليونان أمة ذهنية، وأما العرب فكانوا أمة علمية.
لبث الفرنج يا سادتى فى طور التخرج والنقل حين أخذوا عن العرب، أكثر مما لبث العرب فى هذا الطور حينما أخذوا عن اليونان. فان من اليسير أن نعد كثيرا من العرب قد بذوا أساتذتهم من اليونان قبل انقضاء قرن على الترجمة، ولكن من المستحيل أن نعد من الفرنج مؤلفا واحدا قبل القرن الخامس عشر كان يعمل شيئا غير النقل عن العرب أو الجرى على أسلوب العرب، فرجور بيكون، وليونارد دبيز، وأرمان دفيلنوف، وريمون لول، وهرمان الدلماشى. وميخائيل سكوت، ويوحنا الاشبيلى، وسان توما، وألبيرلجراند، والفونس العاشر أمير قشتاله، لم يكونوا غير تلاميذ للعرب أو نقله عنهم. قال مسيو رنان: إن البير لجراند مدين بعلمه كله لابن سينا، وسان توما مدين بفلسفته لابن رشد.
أسمعوا يا سادتى ما يقول (بترارك) شاعر إيطاليا العظيم ينعى على قومه تخلفهم فى مضمار العلم وقعودهم عن مجاراة العرب، والشاعر من رجال القرن الرابع عشر فلا جرم أن شهادته حجة: قال فى لهجة مرة من الإنكار والتعجب:-
"ماذا! ماذا! أبعد ديموستين يستطيع شيشرون أن يكون خطيبا، وبعد هوميروس يستطيع فرجيل أن يكون شاعرا، وبعد العرب لا يستطع أحد أن يكتب؟ لقد ساوينا الإغريق غالبا وشأوناهم حينا. وإذا شأونا الإغريق فقل شأونا جميع الأمم ولكن ما عدا العرب! يا للجنون! يا للضلال! يا لعبقرية إيطاليا الراقدة أو الخامدة !!"
هذه يا سادتى صفحة واحدة من صفحات الثقافة العربية تعب فيها الإيجاز وضاق عنها الوقت. ظهر فيها أثرها العلمى العالمى على عموميته وإجماله ناصع البيان مشرق الدلالة. وتراءى من خلالها الذهن العربى ساطع العبقرية باهر الجلالة، فهل من الإخلاص للإنسانية والمدنية أن نترك هذا التراث الفكرى العجيب يذهب
( البقية على صفحة ١٥)
(بقية المنشور على صفحة ١٠)
ضحية لخطأ الحكم فى الماضى وسوء الفهم فى الحاضر؟ أن الثقافة اليونانية وهى أقدم من العربية لا تزال تستغل، وأن الأدب الأوربى ليستمد من روحها قوة ومن قديمها جدة، وأن ثقافة العرب وهى عصارة أذهان الشعوب وخلاصة أديان الشرق لحرية أن تبعث فى آدابنا القوة وفى أخلاقنا الفتوة وفى نهضتنا الطموح والحركة على أن هناك صفحات ناصعات من هذه الثقافة فى الخلق والأدب والفن سنجعلها موضوع محاضرة أخرى فى فرصة أخرى ...
