الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السادسالرجوع إلى "الرسالة"

أثر اللغة العربية، فى العالم الاسلامى

Share

-٢- الهند: سأبدأ الآن بالهند مبينا ما تدين به تلك البلاد للعرب. وكلكم  تعلمون أن الفتوح الأولى للقوات الاسلامية فى الهند، لم تذهب  بهم بعيدا داخل تلك البلاد، ومن ثم كانت قليلة الأثر هناك،  ولكن الأتراك فى القرن العاشر استطاعوا أن يتوغلوا بالاسلام  الى مسافات بعيدة داخل الهند، إلى أن كان القرن الثالث عشر،  وهنا نرى أول ملك اسلامى يتبوأ عرش (دلهى).  ولننظر الآن ما كانت عليه أحوال تلك البلاد فى ذلك الوقت،  نرى قبل كل شىء أنه كان يوجد فى الهند آداب واسعة، هندوكية  وبوذية، وكانت تتجلى فى اللغات الكلاسيكية التى لم يكن يفهمها  إلا طائفة محصورة من الناس. ثم يأتى بعد ذلك أن الهنود كانوا  وثنيين، وأنهم كانوا أول عدو من غير أهل الكتاب صادفهم  المسلمون.

ويعتبر فى الحقيقة أتراك أواسط آسيا أول من نشر الاسلام  بشكل واسع فى الهند، وكان هؤلاء الأتراك يتكلمون التركية  بينما كانت ثقافتهم فارسية، وهى تلك الثقافة الفارسية الحديثة،  التى ظهرت فجأة فى بلاط (سميندس) فى بخارى.  وعلى ذلك يكون الاسلام قد أدخل فى الهند لغتين: العربية  لغة الدين، والفارسية لغة الشعر؛ وكانت العلاقة الوثيقة بين اللغة  الفارسية، واللهجات السائدة فى الهند الشمالية، هى بلا شك السبب فى  أن مسلمى الهند قد اختاروا الفارسية واسطة لآدابهم دون العربية  والتركية، واستمر الحال كذلك بينهم حتى القرن الخامس عشر،  إذ لم تصل اللغة الأردية -وهى خليط من الهندية والفارسية،  إلى المستوى الذى تصلح معه لأن تكون واسطة أدبية- إلا فى  ذلك القرن.

ولم يك مسلمو الهند قادرين على تذوق العبقرية التى امتازت بها

العربية بالسرعة التى كانت عند غيرهم من الفرس، ولكن حدث على  مر الأيام أن انجبت الهند أدباء نابهين، ومما هو جدير بالملاحظة  أن بعضا من النصوص العربية الأنيقة كان من وضع أدباء  الهند فى العصور الأخيرة

وإنى أميل بعد ذلك إلى أن أقرر أن أعظم تغيير أحدثته  الثقافة الاسلامية، بعد ذلك التغيير الهائل، وهو دخول هذا  العدد العظيم من الهند فى دين التوحيد، إنما هو ما طرأ على الهند  من الميل الى تذوق التاريخ

فان هذا العلم لم يصادف هوى فى قلوب الهنود من قبل،  اذ كان يعتر أمرا ماديا صرفا فى نظر قوم مفكرين وفلاسفة  بالسليقة. وهذا هو السبب فى أن التاريخ الهندى القديم قد جمع  بصعوبة عظيمة، وكان الاعتماد فى جمعه على ما عثر عليه من السكة  والتماثيل، دون أن يكون هناك بجانب هذه الأشياء مخلفات  كتابية.

ولا تزال التواريخ بل القرون التى ظهر فيها بعض الحكام  الأولين موضع جدل ومناقشة. فلما ظهرت الهند الاسلامية،  دبت الحماسة فى قلوب الناس فجأة نحو كتابة التاريخ، وكان من  نتيجة ذلك أن دونت مع التوسع أخبار جميع ملوك دلهى ابتداء  من القرن الثالث عشر.

وينبغى ألا يفوتنى هنا أن أذكر ادخال الحروف الهجائية  العربية فى الهند، وانتشار الكتابة بين الناس على العموم، فى بلد  كان كلما يتعلق بالعلم والكتابة فيه محصورا فى أيدى البراهمة.

أواسط آسيا وبلاد فارس:  مهما أطنبنا فى وصف الأثر الذى تركه تعلم اللغة العربية  فى عقول سكان أواسط آسيا والهند، فلن يعد ذلك منا إسرافا  أو مبالغة، فان الأثر الذى تركته العربية فى عقول الأتراك  والفرس، ومسلمى الهند، كان أجل شأنا وأعظم خطرا من الأثر  الذى تركته اللاتينية فى عقول الأدباء من أهل أوربا فى  العصور الوسطى.

فمع أن اللاتينية كانت الواسطة للكتابات الدينية والعلمية،  لم يكن هناك ميزة أخرى من ورائها سوى تلك المهارة الأدبية  التى كان يتصف بها كل من ثقفها. إذ كان قبل حركة الأحياء  الكاثوليكية بزمن طويل، نصف سكان أوربا ينظمون الشعر  ويتغنون به، كما أن بعض اللغات كانت قد اتخذت فعلا شكلا

محدودا، واصطغبت بصبغة البيئة التى وجدت فيها

ولم يكن الأمر كذلك فى العربية، فان العربية قد أمدت المستنيرين  فى أواسط آسيا بثقافة تعتبر جديدة من جميع الوجوه. وبثت  فى قلوب هؤلاء أفكارا طريفة، وفتحت أمام أعينهم عوالم جديدة،  وبعبارة أخرى، فان العربية أمدت الفرس والأتراك والهنود  (بلغة جديدة) ولا غرابة فى ذلك، فانه بالقضاء على الديانات القديمة قضاء  ظاهرا، وبحلول العربية محل اللغات القديمة فى المسائل الأدبية،  ثم باستبدال الثقافة الاسلامية بكل ما يرجع فى أصله الى الثقافة  الآرية، كل أولئك يحملنا على القول بأن العربية قد أمدت  بلاد فارس بخزائن جديدة من العلم، الى جانب لغة مكتوبة منظمة.  أو قل أمدت الفرس (ببعث قومى جديد مع ثقافة  حديثة) وكل ذلك فى وقت واحد، فلقد أتحفت العربية أواسط  آسيا بالشعر العربى الذى غير وجه الشعر هناك، ثم بالفلسفة  اليونانية، وغيرها من العلوم.

ونستطيع أن نقول أن المجوسية ١ لم يكن لها إلا معنى  ضئيل فى عقول معظم الرعايا الساسانيين، وكان لا يفهمها إلا  طائفة الكهنة، بينما كانت لغة الكتب المقدسة وهى الفهلوية  لا يكاد يفهمها إلا رجال الدين، وطائفة الموظفين الرسميين.  فمن السهل أذن أن نتصور الأثر المباشر الذى أحدثته العقائد  الإسلامية فى الفرس، بله الروعة والدهشة للتى تركهما فى نفوسهم  ذلك الكتاب المقدس الذى نزل بلسان سهل مبين.

هذا وينبغى أن لا ننسى أنه فى الأيام الأولى قبل إدخال  الشكل، وخلو العربية من الحروف التى تعين الساكن والمتحرك ٢ لم يكن من السهل قراءة اللغة العربية، ولكن العربية كانت على  أى حال أسهل من الفهلوية، إذ كان نظام هذه الأخيرة فى  الكتابة أصعب نظام عرف حتى ذلك الوقت. ولكن حينما  ظهرت مدارس النحو فى الكوفة والبصرة، أصبح من السهل  ضبط العربية واستيعابها.

وهذا البحث يؤدى بنا إلى الهجاء العربى ، والى فن الاملاء  ذلك الفن الذى كان حتى ذلك الوقت مجهولا تمام الجهل فى  فارس والهند.

أحس الناس وعلى الخصوص غير العرب منهم فضلا عن الزهر الذى داخل نفوسهم بتعلم اللغة العربية ، سرورا وميلا عظيما نحو تلك الحروف المرنة السهلة وهى الحروف الهجائية العربية . ولقد كان لهذه الحروف فى نفوسهم مثل ما للصور من الجمال الفنى

ولا سيما إذا نقشت على ظاهر المبانى، أو إذا حفرت على الاضرحة  والمقابر سواء ما كان منها ثلثاً أو كوفياً أو نسخاً.

ولست - إلى حد كبير- أشك فى أن هذه الزخرفة الأنيقة  فى رسم الحروف العربية انما كانت نتيجة لتحريم تصوير  الأشخاص فى العهود الاولى. ولكن بحث هذه النقطة ربما يخرج  بى بعيداً عن الموضوع.

ويجب ألا ننسى أن العرب لم يدخلوا معهم إلى تلك البلاد أى  شىء فى شكل فنى، وأن الفرس كانت لهم تقاليد فنية ترجع إلى ما يزيد  على ألف سنة. ومما يدعو إلى الدهشة أن الإغريق وقد حكموا  الفرس فعلا نحو قرنين لم يتركوا فيها أى أثر أدبى، كما انهم لم  يتركوا شيئا من هذا فى الهند. وكذلك لم يترك فتح الفرس لمصر  أى أثر فى تلك البلاد. وهكذا استمر الفرس حتى الفتح الإسلامى  محتفظين بآدابهم منعزلة تماما عن أى تأثير من غيرهم.

وكانت آداب الفرس محدودة من جهة الانتاج، فلم يكن لديهم  عدا بعض الكتب الدينية الا مجموعة من السير والتواريخ كما أنهم  ترجموا أمثال بيدبا عن السنسكريتية.

على أن بعض القطع الفهلوية تدلنا على أن الفرس قد أكثروا  من الشعر، وربما كانت "المناظرة" ترجع فى أصلها إلى الفرس  ولكن الأوزان والقوافى العربية كانت أمرا جديدا بالنسبة لهم.  وان المرء ليعجب لتلك السرعة التى أخذ بها الفرس هذه الأشياء.

وأريد أن أختم كلامى بكلمة عما تدين به العربية للفرس. كلنا نعرف  أن خلفاء المسلمين فى دمشق وبغداد كانوا يدينون للفرس بكل  المسائل المتعلقة بالحكم ونظام الملك، ومما يذكر عن أحد الخلفاء  الأمويين أنه قال: أنى لأعجب من أمر هؤلاء الفرس: لقد حكموا  ألف سنة دون أن يحتاجوا الينا مرة. بينما نحن لم نستطع مدة المائة  سنة التى حكمناها أن نستغنى عنهم لحظة".

إن العلم الإسلامى فى القرون الأولى كان يدين للأغريق بالمسائل  العلمية والفلسفية، ولكنه كان يدين للفرس بما وصل إليه من الآداب  الجميلة. وما علينا لكى نفهم أثر الفرس فى تلك الثقافة العربية الفخمة  لا أن نستعيد أسماء هؤلاء الشعراء والكتاب المجيدين لنرى عدد  من يرجع منهم إلى الفرس من حيث الأصل أو المولد.

( الرسالة ) كنا وعدنا أن ننشر المحاضرتين الأخريين بعد هذه المحاضرة ، ولكننا بعد المراجعة والنظر لم نجد فيها شيئا لم يقله أدباؤنا وعلماؤنا ؛ فاكتفينا بذلك

اشترك في نشرتنا البريدية