الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامسالرجوع إلى "الرسالة"

أثر اللغة العربية فى العالم الاسلامى

Share

هذه ترجمة المحاضرة الأولى من المحاضرات الثلاث التى ألقاها  السر دنسون روس باللغة الإنجليزية فى قاعة الجمعية الجغرافية  إجابة لدعوة الجامعة المصرية وقد نقدته الجامعة على كل محاضرة  خمسين جنيها وسننشر ترجمة المحاضرتين الأخريين تباعا فى الأعداد المقبلة.

تمهيد

أشعر وأنا أختار موضوعا مثل هذا لمحاضرة فى الجامعة  المصرية، انه ينطبق علي المثل القائل (كمن يجلب الفحم  الى نيوكاسل) أو على حد تعبير الفرنسيين (كمن يحمل الماء الى  البحر) أو كما يقول العرب (كمن ينقل التمر الى البصرة) أو  (كمن يبيع الماء فى حارة السقائين).

إذ كيف يجرؤ شخص مثلى لا يخرج عن كونه تلميذا يدرس  العربية أن يقوم ببحث فى هذه اللغة العظيمة على مرمى قوس  من الأزهر؟ إن اعتذارى عن هذا ينبغى أن يكون اعتذار النملة  أمام عرش سليمان.!

وربما قيل عن عنوان محاضرتى أنه تقرير لقضية مسلمة، فالعربية لغة  القرآن والحديث وتأثيرها فى العالم الاسلامى حق لا ريب فيه.

ولكننى أرجو أن أسوغ عنوانى هذا بأن أبين تأثير اللغة  العربية فى تلك الممالك التى تتكلم لغات أخرى، وتتكلمها لا على  أنها واسطة لفهم العقائد وإقامة الشعائر الدينية؛ بل لأنها عامل  منتج من الثقافة العامة.

ذلك لأنه ينبغى أن نعلم حق العلم أن ليس ثمة دين عالمى، آخر قامت فيه اللغة الأصلية للكتب المقدسة بذلك الشأن  الخطير كما هو الحال فى الاسلام.

فاذا اعتبرنا البوذية والمسيحية وهما ديانتان تقومان بالدعاية  فأننا نلاحظ أن كتبهما المقدسة إذا أذيعت فى ممالك أخرى  فانما تذاع بلغة تلك الممالك. خذ لذلك مثلا تلك المجموعة الضخمة  مجموعة القوانين البوذية المعروفة باسم (السلات الثلاث) (١) فانك تجدها تقرأ فى الصين واليابان مترجمة إلى لغة تلك البلاد. حقا  إن لغة الهند الأصلية قد اختفت كما اختفت البوذية نفسها من الهند.

وقل مثل هذا عن التوراة والانجيل فانهما يقرآن فى الأمم المسيحية بلغة كل منها دون أن تقوم العبرية أو المسيحية بأى

شىء فى حركات الدعاية التى تقوم بها الجمعيات الدينية

وان اللغة الوحيدة التى يمكن مقارنتها بالعربية من حيث أنها  واسطة للتعاليم الدينية إنما هى اللغة العبرية، على أن هناك اختلافا  بين الحالتين من بعض الوجوه وإن اتفقت اللغتان فى أن كلتيهما  تدين بخطرها الاساسى الى أنها لغة الكلام المنزل من عند الله. فاما العبرية فنجد أن كل نفى من اليهود يحفظ بعضا منها، ولكن  اليهودية لا تعتبر الآن من الأديان الواسعة الانتشار وذلك على  الرغم من انتشار جماعات اليهود فى أنحاء العالم. وإنك لتجد طوائف  وطنية منهم فى الهند وأثيوبيا لا يعرفون من العبرية الا قليلا.

ويجب أن نتذكر أنى إنما أبحث فى التأثير اللغوى الذى أحدثه  القرآن لا فى رسالة النبى، وعلى ذلك فاظننى أستطيع تقرير تلك  الحقائق دون أن أسىء الى الحاضرين من المسيحيين واليهود.

إن التأثير الذى تركته التعاليم البوذية والكتب العبرية  المقدسة فى آداب الممالك البوذية والمسيحية لا يقل شأنا عن تأثير  القرآن إن لم يكن أكثر فى ناحية الفن.

ولكن ما حدث فى الصين وفى أوربا هو أن تلك الكتب  المقدسة قد أصبحت جزءا من الآداب القائمة إذ ذاك وكانت تلك  الآداب غنية بالأبحاث والموضوعات الدنيوية، وفيما يتعلق بأوربا  نقول إنه لما كانت اللغات الحديثة قد اشتقت من اللاتينية  والتوتونية القديمة، فانه لما ترجم الانجيل الى تلك اللغات،  أصبح ذلك الكتاب هو المؤثر الثابت فيها كما يشهد بذلك الجهد  الذى بذله لوثر فى وضع أساس الألمانية الراقية الحديثة.

نعم لقد لعبت اللاتينية بين الكاثوليك دورا مشابها لذلك  الدور الذى لعبته العربية بين المسلمين (ولكن اللاتينية لم تكن  لغة التنزيل).

الموضوع

ولنعد الآن الى الموضوع الأساسى لمحاضرتى. وستكون الممالك  التى يتناولها بحثى هى تلك التى لا يزال الاسلام سائداً فيها ولكن  لا تتكلم العربية، أعنى بلاد الفرس وبلاد الهند وما وراء النهر وتركيا.

إن دخول الشرق الأدنى والشرق الأوسط والهند تحت  نفوذ العرب -وقد كانوا أنفسهم حديثى العهد بالدخول فى الدين الجديد وقبول (الوحدانية السامية) (١)- قد أدى الى ثورة عظيمة  (فى الأدب والثقافة) لا تقل فى خطورتها من حيث

قوتها وتمامها، ومن حيث أنها مبدأ عهد جديد، عن ذلك التغير  الذى طرأ على العقيدة الدينية

ويرجع هذا فى أساسه الى ذلك التأثير المعجز الذى أحدثه  القرآن فى نفس كل من أعتنق الاسلام.

فان القرآن وهو كلام الله الذى أنزل على رسوله قد قوبل  من المسلمين قاطبة بالاحترام والاجلال، أولا، من أجل عباراته  ذاتها لأنها تنزيل من الله، وثانيا لما اشتمل عليه من الآيات البينات، ومن  أجل ذلك كان لزاما على من يقبل الاسلام أن يقبل معه اللغة  العربية، تلك اللغة التى نزل بها القرآن وأرسل بها الرسول.

وهنا لا نجد لغة غريبة غير مستعملة لا يفهمها إلا عدد  محصور من العلماء كما كان الحال فى ديانة زرادشت والديانة  الهندية، بل نجد (لغة حية) يتكلمها أولئك القوم الذى  دعوا سكان الممالك التى فتحوها إلى الدخول فى الدين الجديد.

إن الرقى الفجائى الذى طرأ على اللغة العربية وأحالها إلى لغة مهذبة  مكتوبة ليعد من أعجب الأمور اذا تذكرنا أنه فى الوقت الذي ظهر  فيه الرسول لم يكن لدى العرب (أدب لغة) (٢) بالمعنى الذى يفهم  من هذه العبارة، وأن استعمال الخط كان قليلا الى درجة كبيرة بدليل  أنه فى أثناء الكفاح بين المسلمين وأعدائهم كما حدث فى بدر وأحد  كان المتبع أن يبقى المسلمون على حياة من يعرفون الكتابة من الأسرى.

ولكن العرب قد أخرجوا فحول الشعراء الذين تغنى  الناس بشعرهم فى طول شبه الجزيرة وعرضها، وإن كان الخلاف  لا يزال قائماً بين الباحثين فيما إذا كانت هذه الأشعار قد ظهرت  حقا فى الجاهلية أم فى الاسلام

والذى ما يهمنا هو أن بين هذه الأشعار طائفة يمكن اعتبارها  فى المنزلة الأولى لا فى أدب العرب فحسب، ولكن فى أدب  العالم أجمع.

وكان القرآن يمثل اللهجة التى كانت شائعة فى الحجاز. وإلى أن  قام الخليفة عمر (بمراجعاته) الرسمية الدقيقة للقرآن، لم يكن هناك أى  كتاب فى النحو، كما لم يكن هناك أى قاموس عربى، وكان الفرس  أول من ميزوا أنفسهم باستنباط بعض القواعد النحوية من القرآن.  وبعد هذا أخذ الأذكياء فى العالم الاسلامى يحذقون هذا  اللسان الصعب، وابتدأ الناس ينافس بعضهم بعضا كل بما حصل  من اللغة، ومنذ ذلك الوقت، فيما بين أسبانيا وسمرقند، أخذ  الكثير من الشعراء المطبوعين، الذين كانوا من قبل فى حاجة الى  أداة يظهرون بها إبكارهم ينظمون الشعر بالعربية. ولقد  شرعوا أول أمرهم يحاكون الأشعار البدوية التى لم يكن لهم  بموضوعاتها علم مباشر، ثم أخذوا يطرقون من الموضوعات ما تميل  اليه قلوبهم، وما يوافق طبيعتهم وبيئتهم. "يتلى"

اشترك في نشرتنا البريدية