الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

أحاديث جدتي

Share

تناولت هذا الكتاب الظريف، فما وضعته حتى أتممت  قراءته، ولكم تمنيت لو طالت تلك الأحاديث الرقيقة وما زخرت  به من الصور الطلية، فشغلت من الصحائف أكثر مما ضمه  بين دفتيه ذلك الكتاب، فإن إعجابي بها وشدة تأثري بأخيلتها  الهادئة الساحرة قد جعلاني أشعر عند انتهائها بما كنت أشعر به  ليالي الطفولة العذبة حين كانت تنتهي الحكاية الشيقة بغتة وأنا  أكثر ما أكون استمتاعاً بها.

على أن الشيء الجميل إذا علق بالنفس فإنما هو مبعث سرور  دائم، ولقد يتزايد ما يبعثه في النفس من الغبطة بعد أوانه. ذلك  ما أحسه بعد قراءة هاتيك الأحاديث الجميلة، وهي سلسلة  أحاديث دارت بين الكاتبة وجدتها تصف الحياة المنزلية والحياة  الاجتماعية للجيل الذي سبق جيلنا؛ أثارتها الذكريات من نفس  الجدة فتحدثت عن الحياة المنزلية، ثم أعاد إلى ذهنها استشهاد

فتاها في الحرب ذكر الثورة العربية، فوصفتها معلقة عليها  ثورة أفكارها وخواطرها، إلى أن عادت في نهاية الكتاب إلى  وصف الحياة الزوجية وما كان يتخللها من عواطف في ذلك الجيل

استطاعت الكاتبة النابهة في غير تكلف أن تقدم بين يدي  كتابها جوا خياليا لطيفا، يستهويك فيخيل إليك أنك تسمع  ولست تقرأ، وكأنك تعيش في هذا المنزل وتراها تستمع إلى  جدتها، وترى ما تصف لها من أماكن وأشخاص. نعم كأنك  ترى عائشة لا تعرف كيف تلبس البرقع فتضحك صاحباتها،  وكأنك ترى الشيطان يقطع عليها صلاتها بطرطوره الأحمر،  وكأنك ترى إسماعيل معلقا في العمود، وصباح تهش عنه البعوض  متألمة باكية، بل لكأنك أنت الذي تحس لذعات البعوض،  ثم كأنك ترى الحمام وتسمع ما ينبعث منه  من أصوات، وكأنك ترى غير هذا من المناظر  المؤلمة، فترى الجيش المحتل يخترق شوارع  القاهرة، وترى الجدة تأخذ سكين المطبخ تدفع  بها كيد الضابط الذي يطرق الباب، وكأنك  ترى مذبحة الدراويش في أحراج الأبيض، إلى  غير ذلك من المواقف القوية المثيرة.

وتحت تأثير ذلك الخيال توحي إليك   (سهير)   أحاديث الوفاء والوطنية والبطولة، وتعرض عليك طرفا من انتقادها وآرائها الصائبة عن  حياتنا الاجتماعية بين الماضي والحاضر. وإن  أنس من شيء فلست أنسى أبدا ما كان من  نبل أنجاس وزوجها، وما بعثه موقفها في قلبي  من غبطة وما أثار من عاطفة، ولكن مالي  أذكر فصلا بعينه والكتاب كله حديث  لا ينسى؟

و إنك لتجد في لأسلوب الكتاب ناحية  من نواحي جماله، إذ لا يسعك حين تتذوق تلك  السهولة العذبة إلا أن تعترف بما لهذا الأسلوب

الرائق من أثر قوي في تحبيب الكتاب إلى نفسك.

لقد آن لنا أن نتجه إلى الأدب الإنشائي الخالد، وننصرف  عما أسرفنا فيه من أدب وصفي لا يمت إلى الحياة بصلة قوية،  نعم آن لنا أن نخلص من أدب المقالة، ونتجه إلى القصة، آن لنا  أن نرفع المرآة لتنعكس فيها طبائعنا وحياتنا؛ وإني لأقرر هنا مع  مزيد من الغبطة أن هذه الأحاديث التي أقدمها إلى القراء من البواكير  الطيبة في هذه الناحية التي نتوق إليها، وأدعو فتياننا وفتياتنا  إلى الاستئناس بتلك الروح اللطيفة، والاستمتاع بذلك النموذج  الصادق، فيما ينشدون من نهوض، أو يتوخون من لذة. هذا وإني  أقدم إلى الكاتبة النابهة ثنائي وإعجابي.

اشترك في نشرتنا البريدية