فن من فنون الأدب العربي لم تذهب الأيام بجدته؛ ولا يزال تراثه رغم كر الزمن يحتفظ بقيمته الفنية فضلاً عن قيمته التاريخية؛ ذلك هو فن السياحة والمشاهدة. ففي الأدب الغربي، القديم والحديث، تتبوأ كتب السياحة والمشاهدة مكانة رفيعة، سواء كانت لمكتشف يرود مجاهل القارات ثم يسجل اكتشافاته، أو لكاتب يجوب البلاد بقصد الدرس والمشاهدة ويدون ملاحظاته ومشاعره. وقد كانت كتب السياحة قبل قرنين أو ثلاثة تعتبر دائماً بالنسبة للمجتمعات التي كتبت لها كتب استكشاف تلقي أضواء جديدة على أحوال المجتمعات التي كتبت عنها؛ فلما تقدمت المواصلات وتقاربت الشعوب، وكثر تعارفها، وتوثقت بينها الصلات العلمية والأدبية، لم يبق للسائح
المتجول ما يكتشفه من أحوال الشعوب المتمدنة أو التي تأخذ بقسط من الحضارة، إلا ما يمليه عليه الدرس الخاص لأحوال هذه الشعوب، وأصبحت كتب الاستكشاف وقفاً على رواد المجاهل والعلماء الذين يجوبون معهم مجاهل البحار أو اليابسة ليكشفوا جديداً من الآثار أو الأنواع. وكتب الفريق الأول يغلب عليها الطابع الأدبي، وأما كتب الرواد الفنيين فيغلب عليها الطابع العلمي.
وقد عرف الادب العربي فن السياحه والمشاهده في العصر مبكرا جدا . فمنذ القرن الثالث نري الجغرافيين العرب يطوفون ارجاء العالم المعروف يومئذ للوقوف علي احوال البلدان والاقاليم المختلفه وخواصها ويدينون مشاهداتهم في كتي لازلت حجه عصرها . ومن اعظم هولاء الجغرافيين الرحل اليعقوبي الذي طاف االعالم الاسلامي من السند الي الاندلس في النصف الاخير من القرن الثالث الهجري ووضع كتابه الجامع (البلدان) والمسعودي المورخ والجغرافي الذي طاف انحاء العالم الاسلامي شرقا حتي الهند و الصين وجزاءر الهند الشرقيه واخترق المحيط الهندي حتي شواطئ افريقيا الشرقيه وجزيره مدغشقر وشهد عجائب هذخ الافاق ودونها في كتبه ولاسيما مروج الذهب والتنبيه والاشراف وذلك في اوائل القران الرابع الهجري بيداننا لانريد ان نتحدث هنا عن هولاء العلماء الجغرافيين وانما نتحدث بالاخص عن طائفه من الرحل والمستكشفين المسلمين الذين تصوراثارهم احوال البلاد والمجتمعات التي شهدوها وتعتبر من الجهه الفنيه اثارا وصفيه اجتماعله قبل ان تعتبر اثارا جغرافيه ولدينا في الواقع ثبت حافل من اولئك الرواد المشغوفين بالسياحه ودراسه احوال الامم ولدينا كثير من اثارهم الي مازالت تعتبررغم قدمها نماذخ حسنه لهذا النوع من الادب المفيد الشائق معا . ومانذكره منهم ومن اثارهم في هذا الفصل نذكره علي سبيل التمثيل لاعلي هم اقليه صغيره بالنسبه الي اولئك الذين لم تصل الينا اثارهم او التي انتهت اثارهم الينا ولكنها مازالت مخطةكات منسيه في ظلمات المكاتب العامه والخاصه.
ومن اقدم اولئك الرواد الوصفيين الذين انتهت اثارهم الينا
أبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الذي أنفق نحو ثلاثين عاماً في الطواف بالأمم الإسلامية من بغداد إلى الأندلس، يدرس أحوالها وخواصها وأحوال شعوبها ومجتمعاتها، وذلك في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي) . وقد دون ابن حوقل رحلته ومشاهداته في كتاب أسماه (المسالك والممالك)، وهو أثر يجمع بين الناحية الجغرافية والناحية الوصفية. بيد أنه يعنى بالمشاهدات الوصفية عناية خاصة، وفيه يدون ابن حوقل خلال أخبار رحلته أحوال الأمم التي مر بها وما شاهده فيها من المناظر والمعاهد والآثار والخواص التي تستحق الذكر. وقد مرّ ابن حوقل خلال رحلته بمصر، في أواخر الدولة الأخشيدية، وخصص لمشاهداته فيها فصلاً طويلاً يصف فيه مصر الفسطاط ومعاهدها والنيل ومجراه، وكثيراً من أحوال المجتمع المصري يومئذ (1) وأسلوبه يجمع بين الطابعين العلمي والأدبي. ولدينا في القرن السادس رحالتان شهيران أحدهما يجوب العالم المعروف يومئذ من المشرق إلى المغرب، والآخر يجوبه من المغرب إلى المشرق، والأول هو أبو الحسن علي بن أبي بكر المعروف بالسائح الهروي، نسبة إلى هراة بلدة أسرته.
وقد ولع أبو الحسن بالأسفار منذ حداثته، وخرج من الموصل مسقط رأسه يجوب أنحاء العالم لغير قصد سوى التفرج والاستكشاف، وذلك نحو سنة ٥٦٨هـ (١١٧٣م) ، وأنفق زهاء ربع قرن في رحلته، فطاف أرجاء الشام وفلسطين ومصر، وقبرص وغرب الأناضول وزار قسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، واخترق البحر الأبيض وتجول في جزائره حتى صقلية؛ ولم يترك، على قول ابن خلكان (براً ولا بحراً ولا سهلاً ولا جبلاً من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه) . واشتهر ذلك في الآفاق كلها، وهو الوحيد الذي تلقبه الرواية الإسلامية (بالسائح) وأسره الفرنج والقرصان مراراً، وضاعت كتبه ومذكراته، كما يخبرنا بذلك في كتابه الذي انتهى إلينا، وهو سفر صغير عنوانه (الإشارات إلى معرفة الزيارات) (2) وفيه يقص باختصار سير رحلته، وما شاهده من الأماكن والمعاهد، دون وصف ولا إسهاب. وفي أواخر
القرن السادس استقر أبو الحسن في حلب بعد طول التجوال، ونال حظوة لدى أميرها وتوفي سنة ٦١١هـ (١٢١٤م) ودفن بتربة أعدها لنفسه، وكتب عليها حسب وصيته ومن إنشائه تلك الكلمات المؤثرة: (هذه تربة العبد الغريب الوحيد علي بن أبي بكر الهروي، عاش غريباً، ومات وحيداً، لا صديقاً يرثيه، ولا خليلاً يبكيه، ولا أهطل يزورونه، ولا إخوان يقصدونه، ولا ولد يطلبه، ولا زوجة تندبه؛ آنس الله وحدته، ورحم غربته) .
وأما الثاني فهو أبو الحسين محمد بن احمد بن جبير الأندلسي. رحل من الأندلس شرقاً إلى أفريقية ومصر والشام والحجاز. وكان رحالة بطبيعته قوي الملاحظة والوصف. رحل من غرناطة إلى المشرق ثلاث مرات، الأولى سنة ٥٧٨هـ والثانية سنة ٥٨٥هـ، والثالثة في أواخر القرن السادس، وقطع البحر الأبيض مراراً، وطاف بمعظم جزائره وثغوره الجنوبية والشرقية، وتجول في بلاد مصر والشام والحجاز، وقاسى في أثناء تجواله كثيراً من الشدائد، وأشرف مراراً على الهلاك في البحر، واستقر أخيراً بالإسكندرية وتوفي بها سنة ٦١٤هـ (١٢١٧م) ودون أخبار رحلاته في سفر كبير ممتع يسميه (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار) .
وفيه يدون مشاهداته في الأمم والبلاد التي زارها؛ ويقص حوادث أسفاره مفصلة بالتواريخ في نوع من (المذكرات) ؛ وهو أثر شائق الأسلوب والوصف يعتبر نموذجاً بديعاً لأدب الرواد.
ونستطيع أن نذكر من الرواد المسلمين في هذا العصر أيضاً، عبد اللطيف البغدادي الطبيب العلامة الذي وفد على مصر في أواخر القرن السادس الهجري، وطاف بعد ذلك فلسطين والشام وبلاد الروم الأناضول يدرس أحوالها ومجتمعاتها. وقد دون عبد اللطيف مشاهداته في مصر في كتاب كبير لم يصل إلينا، ولكن وصلت إلينا منه عدة فصول اختارها عبد اللطيف وسماها كتاب (الإفادة والاعتبار) وهي فصول قوية بديعة عن أحوال مصر وخواصها الطبيعية والاجتماعية، يغلب عليها الأسلوب العلمي الذي يمتاز به مؤلفها.
على أن أعظم الرواد المسلمين هو أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الطنجي الشهير بابن بطوطة. ولم يكن ابن بطوطة
رحالة عظيماً فقط يجوب أنحاء العالم المعروف يومئذ، بل كان أيضاً مكتشفاً عظيماً يقصد إلى مجاهل البر والبحر. وكتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وهو المعروف برحلة ابن بطوطة أجمل وأنفس أثر عربي في هذا النوع من الأدب. وقد خرج ابن بطوطة من طنجة مسقط رأسه في سنة ٧٢٥هـ (١٣٢٥م) يجوب أقطار العالم، واخترق بلاد المغرب ومصر والشام وبلاد العرب وبلاد الروم وقسطنطينية، وفارس وخراسان وتركستان والهند وسيلان والصين وجزائر الهند الشرقية؛ واخترق في عوده قلب أفريقية من السودان إلى بلاد النيجر؛ ووقف على كثير من مجاهل بعض الأقطار والأمم التي لم تكن معروفة يومئذ تمام المعرفة؛ ووصل إلى أعالي نهر النيجر وإلى تمبكتو وسكوتو قبل أن يصل إليها الرواد الأوربيون ويكتشفها الرحالة الإنجليزي منجوبارك بعد ذلك بنحو ثلاثة قرون. وسلخ في رحلاته نحو ربع قرن؛ وترك لنا عن أسفاره واكتشافاته ومشاهداته ذلك الأثر الذي يعتبر بحق من أبدع آثار السياحة والاكتشاف.
وقد لبث أدب الرواد متصلاً في العربية حتى العصر الحديث؛ فنجد المقري مؤرخ الأندلس - مثلاً - يصف لنا فى فاتحة (نفح الطيب) رحلته البحرية من المغرب إلى المشرق في أسلوب رائع؛ ونجد العلامة الصوفي عبد الغني النابلسي يجوب بلاد الشام ومصر والحجاز، وذلك سنة ١١٠٥هـ (١٦٩٤م) ، ويترك لنا عن أسفاره ومشاهداته أثراً نفيساً هو كتاب (الحقيقة والمجاز) الذي تحتفظ دار الكتب بنسخة خطية منه.
ومما تقدم نرى أن أدب السياحة قد بدأ في العربية في عصر مبكر، واستمر على كر العصور. وكثيراً ما قيل إن تراث الأدب العربي أضحى قديماً لا يساير العصر، وأن فنونه قد عفت، وأنه ليس في تعداد فنونه ومناحيه كالأدب الغربي. ولكنا نستطيع أن نقول هنا على الأقل، إن الأدب العربي قد سبق الأدب الغربي في فن السياحة والمشاهدة بعصور طويلة؛ وهذا مترتب بالطبع على إن الرواد المسلمين كانوا أسبق من الرواد الغربيين إلى التجوال في أنحاء العالم المعروف يومئذ، وإلى ارتياد الكثير من الأنحاء المجهولة. والواقع أن أول رحالة غربي كبير ارتاد أنحاء المشرق وآسيا هو
الرحالة الإيطالي مركو بولو؛ وكانت رحلته إلى المشرق في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر؛ هذا بينما يرجع نشاط الرواد المسلمين إلى القرنين الثاني والثالث من الهجرة (القرنين الثامن والتاسع من الميلاد) . وأقدم أثر غربي قيم في السياحة هو أثر مركو بولو الذي يصف فيه أحوال الأقطار الأسيوية ولاسيما الشرق الأقصى. وقد كان أول أثر استطاع الغرب أن يقف فيه على عظمة الشرق يومئذ وبذخه وبهائه وروعة حضارته. ولكن الأمم الإسلامية كانت تعرف أقصى الأمم الشرقية ومعظم الأمم الغربية على يد جغرافييها وروادها قبل ذلك بقرون.
على أنه مما يؤسف له أن أدب السياحة في العربية قد انحط في العصر الأخير، كما انحط كثير من فنونها، وأضحى نوعاً من المشاهدات الطائرة تكرر في كل فرصة وفي كل أثر جديد، وتكتب بالأسلوب الصحفي الركيك، وتقف عند الأخبار والمشاهدات السطحية، كوصف السفينة والبحر والشوارع والفنادق والملاهي، بأساليب وعبارات مملة؛ وقلما يعنى السائح المتفرج بالمشاهدات والدراسات العلمية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ومن الأسف أننا لا نستطيع أن نجد بين كتب السياحة التي أخرجت في العصر الأخير كثيراً من الآثار التي تمتاز بقيمتها الأدبية والفنية (1).

