يستطيع هذا الأديب الفرنسي الكبير أن يقول لنفسه منذ الآن ولمواطنيه إذا عاد إليهم بعد أيام انه شغل المثقفين من سكان مصر أسبوعاً كاملاً بل اكثر من أسبوع ، ويستطيع أن يقول لنفسه ولمواطنيه انه شغل هؤلاء المثقفين من سكان مصر شغلاُ لذيذاً مريحاً ممتعاً لا ألم فيه ولا جهد ولا عناء ، وإنما فيه الحديث الحلو ، والحوار العذب ، والتفكير الخصب ، والإعجاب بمظاهر الجمال الفني الرفيع وقد يكون مسيو جول رومان من هؤلاء الأدباء المتواضعين الذين يسرهم ما يلقون من نجاح فيتحدثون به إلى أنفسهم والى الناس ، وينعمون به إذا تحدثوا إلى أنفسهم أو إلى الناس . وقد يكون من أصحاب الكبرياء التي تدعو أصحابها إلى العجب والتيه والخيلاء فيزدهيهم النجاح ويدفعهم الفوز إلى أن يفاخروا ويكاثروا ويستطيلوا على المنافسين ، وقد يكون من أصحاب هذه الكبرياء التي تدفع أصحابها إلى ان يستغنوا بأنفسهم عن كل شيء وعن كل انسان. وإلى ان ينظروا إلى الناس في شيء من الازدراء الرحيم ، فلا يزدهيهم إعجاب الناس بهم ، ولا يسوؤهم اعراض الناس عنهم ، ولا يستخفهم من الناس شيء ، لأنهم لا ينتظرون من الناس شيئاً ، وإنما ينتظرون من أنفسهم
كل شيء ؛ وأكبر الظن أن جول رومان ليس من هذه الطبقة بين طبقات الأدباء ، فقد رأيته شديد العناية بما يكتب عنه في مصر او يقال فيه ، ورأيته شديد الحرص على ان يتبين ذلك ويحصيه ويتفهمه . ثم سمعته يتحدث في بعض محاضراته عما قال هذا الناقد أو ذلك في هذا الكتاب أو ذاك من كتبه التي أذاعها في الناس ، بل سمعته يتحدث في بعض محاضراته بأنه إذا اصدر كتاباً من الكتب التي يصور فيها حياة الأفراد والجماعات كانت عنايته برأي هؤلاء الأفراد وهذه الجماعات في كتابه أشد جداً من عنايته برأي النقاد والزملاء . وقد قص علينا في ذلك قصصاً طريفة ، وكان ظاهر السرور والرضى حين كان يقص علينا هذه القصص لأنها كانت تصور مقدار ما ظفر به من التوفيق إلى رضى الأفراد والجماعات الذين وصفهم في كتبه وأسفاره . وقد حدثنا بأنه يلهو أحياناً بالمقارنة بين ما يكتب إليه القراء وما يكتب عنه الناقدون ، وبما تنتهي إليه هذه المقارنة من بعد النقاد عن الحق والإنصاف وتورطهم في الخطأ والجور، ومن إصابة القراء لمواضع الصدق وحسن التقدير.
وإذا لم يكن جول رومان من أصحاب الكبرياء الطاغية المعتصمة بنفسها المتعالية عن الناس، فليس من شك في انه سيغتبط ويبتهج حين يعلم أنه قد شغل المثقفين في مصر أسبوعاً أو أكثر من أسبوع، ولم يثر في نفوسهم الا حباً له وإعجاباً به وعناية بآثاره ، وجداً في قراءتها أو الاستمتاع بما فيها من جمال . نعم وسيبتهج ويغتبط حين يعلم ان المثقفين من أهل مصر قد نظروا إلى هذا أسبوع الذي أقامه بينهم محاضراً متحدثاً كأنه عيد من أعياد الثقافة العليا، خلصت فيه نفوسهم من أثقال الحياة اليومية وأعبائها وتكاليفها وما تثيره من الخصومات وما تبعثه من الهموم التي تضعف القلوب ، ومن الأحزان التي تميت النفوس ، ومن المشاغل التي تنحط بالعقول عن مكانتها وتبتذلها ابتذالا.
بدئ هذا الأسبوع حين ألقى جول رومان محاضرته الأولى في مدرسة الليسيه الفرنسية ، وختم حين ألقى محاضرته الأخيرة في قاعة الجغرافية مساء الخميس الماضي ، وكان في محاضرته الأولى
يتحدث عن وطنه فرنسا ورأى الأفراد والشعوب فيه ، وكان في محاضرته الأخيرة يتحدث عن نفسه وعن كتابه الأخير ، وعن رأي الناس من مواطنيه ومن غير مواطنيه فيه وفي هذا الكتاب . وكان فيما بين ذلك يتحدث عن العقل وعما أحدث في حياة الناس السياسية من خير ، وما ينتظر أن يحدث في مستقبل حياتهم من خير . وكان فيما بين ذلك أيضاً يتحدث إلى الجماعات والأفراد أحاديث خاصة في موضوعات مختلفة من الأدب الفرنسي والأجنبي ، ومن السياسة والفلسفة والاقتصاد . وكانت أحاديثه ومحاضراته كلها متعة عالية ممتازة للذين استمعوا منه وتحدثوا إليه . ذلك إن جول رومان ليس أديبا عادياً من هؤلاء الأدباء الذين ينتجون الآثار الأدبية القيمة دون أن يمتازوا بأكثر من قدرتهم على الإنتاج وبراعتهم فيه إنما هو أديب ممتاز حقاً . ولعل خير ما يميزه من الأدباء انه من هؤلاء الأفراد القليلين الذين جعلت نفوسهم مرآة صافية شديدة الصفاء . تنعكس فيها صور الحياة التي تحيط بها ، فإذا وصلت إليها استقرت فيها . وما تزال الصور تتبع الصور دون أن يطغى بعضها على بعض أو يفسد بعضها جمال بعض وإذا أنت أمام نفس من أغنى النفوس ، أمام نفس لا تصور فرداً ولا بيئة ، إنما تصور شعباً كاملاً ، وإنما تصور خلاصة كاملة لأرقى ما تصل إليه الثقافة في عصر من العصور . فالذين كانوا يسمعون من جول رومان أو يتحدثون إليه إنما كانوا يسمعون من العقل الفرنسي كله ، ويتحدثون إلى العقل الفرنسي كله ، ولا تظن إن في هذا النحو من القول غلوا أو ميلا إلى الإسراف، إنما هو الحق كل الحق، والاقتصاد كل الاقتصاد . ذلك أن جول رومان لم يكد يبلغ رشده الأدبي كما يقول حتى رأى نفسه أكثر من فرد، ورأى مطمعه الأدبي أكثر من مطمع الفرد ، ورأى انه إذا كتب فلن يستطيع ان يكتب كما تعود الناس أن يكتبوا في هذه الموضوعات المحصورة ، وفي هذه الإطارات الضيقة المحدودة . إنما هو ان كتب فسيصور الجماعات ، وسيصورها في إطار واسع مخالف لما ألف الكتاب أن يتخذوا من الإطارات والحدود . رأى
أنه لا يستطيع أن يتخذ الفرد من حيث هو فرد موضوعاً لأدبه ، وإنما الجماعة هي موضوع هذا الأدب فهو شاعر الجماعات إن نظم الشعر ، وهو واصف الجماعات أن كتب القصص ، وهو مصور الجماعات ان عالج التمثيل . ولم يكد يكتب وهو في العشرين في اوائل هذا القرن حتى ظهرت هذه الخصلة في آثاره ظهوراً بينا وفرضت نفسها عليه فرضا ، وأحس هو ذلك وشعر به ، وإذا هو ينظم صفته هذه تنظيماً ويصوغها صيغة المذهب الأدبي ويدعو إلى هذا المذهب ويجاهد في الدعوة اليه ، وإذا هو على شبابه صاحب مدرسة لها تلاميذ ولها أنصار ، وإذا مدرسته لا تلبث أن تتجاوز حدود فرنسا بل حدود اوربا فتكسب الأنصار والتلاميذ في المانيا وانجلترا وامريكا . ثم تتقدم به السن ويمضي في انتاجه الأدبي شعراً وقصصاً وتمثيلاً ، وكلما مضى في هذا الإنتاج زاد امتيازه وضوحاً وجلاء ولان مذهبه واشتدت مرونته . وإذا جول رومان منذ أعوام يفرض نفسه على الأدب الفرنسي ثم على الأدب الحديث فرضاً ويصبح من اظهر الممثلين لحياة الأدب الفرنسي في هذا العصر الذي نعيش فيه . فليس غريباً إذن أن يكون حديثه حديث الشعب الفرنسي المثقف كله ، لأنه قد وعى هذا الشعب كله وصوره واختصر خلاصته كلها في نفسه ، فهو يتحدث بها وهو يتحدث عنها وهو يصورها في حديثه أجمل التصوير وأروعه وأبلغه تأثيراً في النفوس . وقد عالج جول رومان من فنون الأدب الشعر وعالج القصص وعالج التمثيل .
وكان قبل هذا كله أستاذاً للفلسفة . مر بالسوربون طالباً وتخرج من مدرسة المعلمين العليا ، وعلم في المدارس الثانوية . وليس هنا بالطبع موضوع الدرس لشعره وقصصه وتمثيله فذلك شيء لا يتسع له فصل في صحيفة بل لا تتسع له فصول ، وإنما تتسع له كتب وأسفار ولكن من الخير أن ندع الآن شرع جول رومان لأنه هو نفسه قد انصرف عن الشعر أو كاد ، وأن نقف وقفة قصيرة عند تمثيله ووقفة أقصر منها عند قصصه وعند كتابه الاخير بنوع خاص .
ولعل أظهر ما يمتاز به تمثيل جول رومان أنه أقرب التمثيل الفرنسي الحديث إلى تمثيل موليير ، فموضوعاته فرنسية ولكنها من دون إطارها الفرنسي تتجاوز فرنسا وتصبح موضوعات إنسانية عامة
لا تقف عند بيئة خاصة ولا عند زمان بعينه ، وإنما تتجاوز الزمان والمكان المعينين إلى جميع الازمنة والأمكنة . فقضته الدكتور كنوك ليست نقداً لطبيب بعينه ، ولا لطبيب فرنسي ولا لطبيب في القرن العشرين وإنما هي نقد للون من الوان حياة الأطباء في كل أمة وفي كل عصر وفي كل مكان . ولا يكاد يعرف التمثيل الفرنسي بعد الحرب فوزاً كالفوز الذي أدركته هذه القصة التي لا أتردد في أن أراها آية من آيات التمثيل الحديث.
وقصته التي تسمى مسيو لترودك، وقصته الأخرى التي تسمى زواج لتروادك لا تصفان أستاذاً بعينه من أساتذة الجغرافية ، وإنما تصفان لونا من حياة الاستاذ الذي تطغى عليه ظروف الحياة فتخرجه عن الدرس إلى الحياة العامة ، وتعرضه لألوان من المحن والخطوب تثير الضحك ولكنه الضحك الذي يثيره موليير ، والذي يمتلئ بالعبر والعظات . وقد هممت أن أسأل جول رومان لماذا اختار لهاتين القصتين بطلا من أساتذة الجغرافية، دون أساتذة التاريخ أو العلم الطبيعي أو الفلسفة . واكبر الظن أن هذا الاختيار ليس نتيجة المصادفة ، ومن يدري لعله كان يضيق باستاذ من أساتذته الذين تعلم عليهم وصف الارض وتقويم البلدان في المدرسة أو الجامعة .
وليس أقدر من جول رومان على تشخيص الجماعات ومحو ما بين أفرادها من الفروق ، وجعلها شخصاً واحداً يشعر ويعمل ويتكلم ويصدر في هذا كله عن نفس واحدة ، والذين يقرأون زواج لتروادك يرون أنه وفق في ذلك إلى أقصى حدود الاتقان .
أما كتابه الاخير الذي لم نتفق أمس - وكنا كثيرين - على ترجمة دقيقة لعنوانه ، والذي أسميه كما سماه صديقي هيكل ، الاخيار من الناس ، فاعجوبة القصص الفرنسي في هذه الايام . أخذ يظهر منذ أعوام. وظهر منه الجزء الخامس والسادس في هذا العام . والناس يتساءلون كم تكون أجزاؤه ؟ وجول رومان يأبى أن ينبهم بعدد هذه الاجزاء اشفاقا عليهم وعلى نفسه من السأم والخوف فيما يقول ، وأكبر الظن أنه لا ينبئهم بعدد هذه الاجزاء لأنه هو لا يعرف كم تكون وقد زعم بعض نقاده في النوفيل لترير منذ أسابيع أنها قد تنيف على العشرين وتمنى
